معاني للفكر والتفكر
محمد المصري
التذكر، والنظر، والاعتبار، والتدبر، والاستبصار... إلى غيرها من المعاني المتقاربة.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
معاني للفكر والتفكر:
التذكر، والنظر، والاعتبار، والتدبر، والاستبصار... إلى غيرها من المعاني المتقاربة. وعندما أورد الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذه المرادفات للتفكر عقَّب على ذلك بقوله: "وهذه معان متقاربة تجتمع في شيء وتتفرق في آخر، ويُسمَّى تفكرًا؛ لأنه استعمال الفكر في ذلك وإحضاره عنده، ويُسمَّى تذكرًا؛ لأنه إحضار للعلم الذي يجب مراعاته بعد ذهوله وغيبته عنه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
ويُسمَّى نظرًا؛ لأنه التفات بالقلب إلى المنظور فيه، ويُسمَّى تأمّلاً؛ لأنه مراجعة للنظر كرّة بعد كرّة حتى يتجلّى له وينكشف لقلبه، ويُسمَّى اعتبارًا وهو افتعال من العبور؛ لأنه يعبر منه إلى غيره فيعبر من ذلك الذي قد فكّر فيه إلى معرفة ثالثة وهي المقصود من الاعتبار، ولهذا يسمى عبرة. وهي على بناء الحالات -كالجلسة والقتلة- إيذانًا بأن هذا العلم والمعرفة قد صار حالاً لصاحبه يعبر منه إلى المقصود منه، وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات:26]، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: من الآية 13].
ويُسمَّى تدبرًا؛ لأنه نظر في أدبار الأمور وهي أواخرها وعواقبها، ومنه تدبّر القول، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: من الآية68]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]، وتدبّر الكلام أن ينظر في أوله وآخره، ثم يعيد نظره مرة بعد مرة، ولهذا جاء على بناء التفعّل كالتجرّع والتفهّم والتبيّن.
وسمّي استبصارًا وهو استفعال من التبصّر؛ وهو تبيّن الأمر وانكشافه وتجلّيه للبصيرة. وكلٌّ من التذكّر والتفكّر له فائدة غير فائدة الآخر؛ فالتذكّر يفيد تكرار القلب على ما علمه وعرفه ليرسخ فيه وليثبت ولا ينمحي فيذهب أثره من القلب جملةً، والتفكّر يفيد تكثير العلم واستجلاب ما ليس حاصلاً عند القلب.
فالتفكّر يحصِّله والتذكّر يحفظه. ولهذا قال الحسن: "ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكّر، وبالتفكّر على التذكّر ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة"، فالتفكّر والتذكّر بذار العلم، وسقيه مطارحته، ومذاكرته تلقيحه. كما قال بعض السّلف: "ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها". فالمذاكرة بها لقاح العقل؛ فالخير والسعادة في خزانة مفتاحها التفكّر؛ فإنه لا بدّ من تفكّر، وعلم يكون نتيجته الفكر، وحال يحدث للقلب من ذلك العلم؛ فإن كلّ مَن علم شيئًا من المحبوب أو المكروه لا بدّ أن يبقى لقلبه حالة وينصبغ بصبغة من علمه، وتلك الحال تُوجِب له إرادة، وتلك الإرادة تُوجِب وقوع العمل، فها هنا خمسة أمور:
الفكر وثمرته العلم، وثمرتهما الحالة التي تحدث للقلب، وثمرة ذلك الإرادة، وثمرتها العمل. فالفكر إذن هو المبدأ والمِفتاح للخيرات كلها، وهذا يكشف لك عن فضل التفكّر وشرفه وأنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له حتى قيل: (تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة)، فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحابّ، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة، ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه، ومن مرض الشهوة والإخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور، ومن مصيبة العمى والصّمَم والبكْم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه، ومن أمراض الشُّبُهات إلى برد اليقين وثلج الصدور. وبالجملة فأصل كل طاعة إنما هي الفكر، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكر" (مفتاح دار السعادة) (6).
(والتفكير هو عملية معالجة للمعلومات، فهناك كم كبير من الصور والأصوات والإحساس من الخارج عن طريق الحواس ومن الداخل من الذاكرة. والتفكير هو عملية تصنيف ومقارنة وتقييم لهذه المعلومات على ضوء منظومة الإيمان والاعتقاد والقيم… وبالتالي صياغة إستراتيجية ينتج عنها تعبير لغوي أو سلوكي كما ينتج عنها تأثيرات فسيولوجية في العضلات والتنفس ولون البشرة وتعبيرات الوجه). يقول الانجليزي برنارد شو: "إن بعض الناس يفكر في العام مرتين أو ثلاثاً فقط" (7).
(6) (مفتاح دار السعادة) لابن القيم رحمه الله، نقلاً عن (أفلا تتفكرون) للشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل.
(7) (حتى لا تكون كلاً) د. عوض القرني فصل بعنوان: (وقفات مع الفكر والتفكير).