يا أهل مصر ويا أهل غزة:"دعوها فإنّها منتنة"
عبد المنعم الشحات
نريد صحوة إسلامية شاملة، نخلع فيها حمية الجاهلية، ونكسر فيها الحدود
الاستعمارية المصطنعة، ونعيد فيها صياغة العقل والوجدان في العالم
الإسلامي، ليكون ذلك كله منصبغاً بصبغة إسلامية شاملة حينئذ، وحينئذ
فقط سوف يرجع الاحتلال الغاشم عن بلادنا بكل صوره
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أمّا بعد:
في سبيل متابعة التطورات على صعيد أزمة إخواننا في غزة ـ نسأل الله أن يرفع عنهم الحصار الغاشم ـ، يحتاج المرء إلى أن يتصفح بعض مواقع الإنترنت العامة والإخبارية فضلاً عن الإسلامية، وبينما يظن الكُتّاب والقراء والمعلقون في المواقع الإسلامية أنّ الشعور بروح الجسد الواحد أمر مفروغ منه، وأنّه مُطبَق على أرض الواقع على أحسن ما يكون، إذ بك تـُفاجأ بأنّ الشباب المثقف الذي يرتاد المواقع العامة والإخبارية لاسيما تلك التي تسمح بكتابة تعليقات للقراء، يعيش في أزمة طاحنة، وما زالت النعرات الجاهلية تسيطر على عقول كثير من الشباب.
وهؤلاء الشباب قيمة لا يُستهان بها، لاسيما وأنّهم ممّن يملكون الرغبة في التفكير حتى وإن جنح بعضهم إلى هذه الأفكار المنحرفة، فالعيب فينا معاشرَ الإسلاميين؛ فنحن تركناهم فريسة للكتـّـاب العلمانيين أو القوميين على أحسن الأحوال.
بداية نريد أن نؤكد على أنّ التحزّب تحت راية اللون أو الجنس أو القومية أو غيرها فيها مخالفة صريحة لدين الله عز وجل الذي لم يعتبر أي أمر فارقاً بين النّاس إلاّ الدين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلاّ بالتقوى» [رواه البيهقي وصححه الألباني].
والشيطان كعادته يحاول أن يصد النّاس عن الالتزام بدين الله عز وجل، وأن يوقعهم في مخالفة شرع الله لاسيما في هذه النقطة التي تمثل بالنسبة له غرضاً رئيسياً، والتي يسلك من أجلها مسالك عديدة، ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [سورة المائدة: 91].
ومنها مسلك التحريش بين المسلمين الذين نحن بصدده، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» [رواه مسلم]، أي لم يبق له أمل إلاّ في إيقاع العداوة بين المسلمين.
ولقد نجح الشيطان في بعض مراده حتى مع أفضل الأجيال، مع الصحابة ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ فحرَّش بين رجلين من المسلمين، وإلى هذا الحد كان يمكن أن تكون كأي خصومة تحدث بين اثنين، ولكن الشيطان ذكرهما بأنّ أحدهما مهاجري والآخر أنصاريُ، فتنادى المهاجريُ يا للمهاجرين!، وتنادى الأنصاري يا للأنصار!، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً قائلاً: «ما بال دعوى الجاهلية، دعوها فإنّها منتنة» [رواه البخاري].
ومن أجل ذلك كان من آخر ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته الجامعة في حجة الوادع وضع الجاهلية وحمية الجاهلية تحت قدميه الشريفتين صلى الله عليه وسلم.
وإذا تقرر هذا من الناحية الشرعية، فاعلم أيضاً أنّه في غاية الموافقة للعقل أن يكون تصنيف النّاس على أمر عظيم خطير، وهو في ذات الوقت ممّا لهم فيه اختيار، بخلاف اللون أو الجنس أو غيرهما فكلها ممّا لا يقتضي مدحاً ولا ذماً في ذاته، ثم هو فوق ذلك ليس من اختيار الإنسان.
وقد شقيت البشرية بدعوتين متناقضتين، إحداهما القومية البغيضة، والثانية هي الدعوة إلى العالمية والإنسانية، وعدم عمل أي اعتبار للدين في تقييم الأمم والجماعات إلى الدرجة التي جعلت الكثير من النّاس يعترف صراحة أو ضمناً بصحة الأديان الأخرى، رغم أنّها ما بين دين وضعي أرضي، وبين دين محرف مبدل، ثم إنّه أيضاً منسوخ كان ينبغي على أتباعه لو كانوا صادقين في اتباعه غير محرفين ولا مبدلين أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لم يؤمنوا به، والكفر بأي رسول كفر بهم جميعاً فما بالك بالكفر بخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم?
ولكي نجتث تلك الآفة من جذورها فلابد من أن نناقش بعض التصورات التي تسيطر على عقول الشباب في هذه المناقشات، أولها مسألة تحميل كل شعب تصرفات حكامه، فتجد أنّ المتكلم إن كان مصرياً يقول للفلسطيني: "ألم تفعل فتح كذا...، ألم يلتقي رئيسكم باليهود فرحاً مسروراً رغم كل هذا..."، فيجيب عليه الآخر: "وأنتم ألم يفعل النظام عندكم كذا وكذا... "، والذي نريد أن نؤكد عليه هو قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام: 164].
وبالتالي لا تـُسأل الشعوب عن تصرفات الأنظمة، لاسيما مع وجود حالة عدم رضا من الشعوب عن القاعدة التي تنطلق منها الأنظمة، وهي أنّ أوراق اللعبة بيد أمريكا ممّا يوقعهم في كثير من المصادمات لإرادة شعوبها فضلاً عن مخالفة الحكم الشرعي في كثير من المسائل، ناهيك عن مبدأ فصل الدين عن السياسة الذي تطبقه معظم الأنظمة العربية، والذين يرون أنّ فهمنا ـ نحن أبناء الصحوة الإسلامية ـ لهذه القضية فهم قاصر، بل لعل بعضهم أن يتخذ من أزمات حماس مبرراً يدعم به موقفه، وبالطبع هذه قضية تعتبر أحد أهم نقاط الخلاف بين الاتجاهات الإسلامية وبين الأنظمة المدنية المعاصرة.
ومن نافلة القول أن نشير إلى أنّ التصرف الأمثل في هذه القضية هو استمرار التقرير لأحكام الشرع في حس أبناء الأمة، والذي ينعكس بدوره ولو بمعدل بطيء على أداء الأنظمة، ومن قرأ التاريخ قراءة متأنية وجد خير شاهد على ذلك، بل إنّ التطورات الإيجابية في الموقف الرسمي المصري بعد أيام قليلة من الأزمة لا نرى أنّها تأثرت بالمظاهرات بقدر تأثرها برأي رجل الشارع العادي الذي أصبح يدرك قدراً أكبر من قضية الموالاة بين المؤمنين والبراءة من المشركين.
وعلى الجانب الآخر ليس للشعوب أن تفاخر بعضها ببعض الأفعال الحسنة للأنظمة على اعتبار أنّ "الغـُنْم بالغـُرم"، وإن كان المسلمون جميعاً مطالـَبين بالاعتراف بالأمور الحسنة لمن صدرت منه من باب تشجيع الخير.
وعليه فلا ينبغي أن يحاكَم شعب على معاهدات أبرمتها حكوماته مع الكفار، وأن يُعتبر شعب ما خائناً لأنّ نظامه أقام قواعد عسكرية للكفار في بلاده، ولا أن يُعتبر شعب ما متخاذلاً لأنّ الكفار يُستقبلون فيه استقبال الفاتحين، رغم أنّهم جاءوا لتفقد قواعدهم هناك، ورغم أنّهم مستمرون في حملتهم على شعوب إسلامية أخرى.
كما أنّه لا ينبغي أن يفاخر البعض بأنّ بلاده هي أكثر البلاد بذلاً للقضية الفلسطينية، أو يفاخر الآخر بأنّ بلاده تطبق الشرع على الأقل في النظام القضائي أو تقوم على خدمة الحجيج، أو يفاخر الثالث بأنّ بلاده هي أكثر البلاد دعماً لجهود الإغاثة، وإن كان الواجب التشجيع على كل هذا الخير، والانطلاق منه إلى التحاكم إلى الشرع في جميع التصرفات، حينئذ تنتقل هذه الأنظمة من أن تكون حسناتها من باب "رَمْيَة من غير رَامٍ"، إلى أن يكون الأصل فيهم الصواب والموافقة للشرع إلاّ ما يكون من خطأ أو تأويل.
وما يقال من عدم مسئولية كل شعب عن تصرفات نظامه، يقال وبدرجة أشد على عدم مسئولية الإنسان عن أفعال غيره، حتى لو كان ذلك الغير آباؤه وأجداده، فضلاً عن أن يكون الغير هو مجرد مشارك له فقط في الانتساب إلى بلد أو وطن، ولا نريد هنا أن نتوقف كثيراً عند تلك العبارة المشهورة "القـِلة المنحرفة"؛ لأنّ هذه القاعدة صحيحة سواء كان الفساد قلة أو كثرة، بل إنّ الرجال الصالحين في أناس فاسدين كثير حري بهم أن يرفعوا فوق الرؤوس لصمودهم وصلاحهم حين فساد النّاس، وهؤلاء هم الغرباء الذين وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بتلك المنزلة العظيمة في الجنة: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء» [رواه مسلم].
وعلى ذلك فليس كل الفلسطينيين مسئولين عن "القـِلة المنحرفة" التي باعت أرضها لليهود قبل تكوين إسرائيل، وهم بالفعل قـِلة حيث أثبتت الوثائق أنّ اليهود حصلوا على 1% من أرض فلسطين بالشراء، وليسوا كلهم مسئولين عن تصرفات "فتح" سواء كانوا قلة أو كثرة ولا تصرفات عباس ودحلان لوجود تيار قوي رافض لهما، ,وإن كان من انتمى للمنظمات العلمانية ملوماً على مبدأ انتمائه لمنظمة قائمة على أساس علماني.
وليس كل الفلسطينيين مسئولين عن هذه "القـِلة" التي أطلقت نيرانها أو حتى أحجارها في اتجاه الجنود المصريين في هذه الأزمة الأخيرة، وهم بالفعل "قـِلة القـِلة" بضعة نفر ولعلهم من العملاء والخونة الذين لا يخلو منهم شعب.
وهذه مناسبة لكي نوجه تحية إلى كل جندي احتمل الإصابة ولم يَرُد مهما كانت الموانع، ونسأل الله أن تكون الموانع هي العفو الإيماني عن الأخطاء غير المسئولة، وتفويت الفرصة على من يريد أن يشعل ناراً داخلية في الأمة الإسلامية.
وبالمثل ليس كل المصريين مسئولين عن السينما المصرية والمسرح وشارع الهرم وغيرها من مظاهر الفسق، وهم ـ بحمد الله ـ قـِلة فعلاً.
وليس كل المصريين مسئولين عن التجار الذين ملأهم الجشع فرفعوا الأسعار على إخوانهم من أهل غزة، بل ـ بحمد الله ـ منهم من ثَبّتْ الأسعار، بل ومنهم من خفضها، ومنهم من أعطى من ليس معه ثمن بلا مقابل، ومنهم من أرسل المعونات إلى إخوانهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره» [رواه الترمذي وصححه الألباني]، أي أنّ الخير لا ينقطع من الأمة في كل مكان وزمان.
تحية إلى كل مسلم صامد في غزة.
تحية إلى كل صامد في أفغانستان، وفي الشيشان وفي كل مكان.
وتحية لأبناء الصحوة الإسلامية في كل ربوع الأرض، الذين يتصدون لمحاولة طمس هوية الأمة وتقطيع أوصالها.
وتحية لكل شباب المسلمين الذين يفيقون عند الأزمات.
ونداء لكل واحد منهم: "اركب معنا"، لم تعد تـُجدي تلك الإفاقات المتقطعة.
نريد صحوة إسلامية شاملة، نخلع فيها حمية الجاهلية، ونكسر فيها الحدود الاستعمارية المصطنعة، ونعيد فيها صياغة العقل والوجدان في العالم الإسلامي، ليكون ذلك كله منصبغاً بصبغة إسلامية شاملة حينئذ، وحينئذ فقط سوف يرجع الاحتلال الغاشم عن بلادنا بكل صوره العسكرية والسياسية والاقتصادية، وسوف يقف العالم الآخر منّا موقف المدافع كما كان.
كتبه الشيخ د. عبد المنعم الشحات
موقع صوت السلف
www.salafvoice.com
المصدر: صوت السلف