بطالة العقول - لماذا نفكر ونبدع ؟
بعض الأمثلة من القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح على أهمية التفكير وإعمال العقل.
1- القرآن يدعو إلى التأمل و التفكير:
- أن آيات القرآن تدعو إلى التفكر في الآيات الكونية وفى الأنفس ومن آيات الله في الكون قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:10- 12].
يقول ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيةً} "يقول جل ثناؤه: إن في إخراج الله بما ينزل من السماء من ماء ما وصف لكم لآية، يقول: لدلالة واضحة وعلامة بينة: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يقول: لقوم يعتبرون مواعظ الله ويتفكرون في حججه فيتذكرون وينيبون، ويقول في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يقول تعالى ذكره: إن في تسخير الله ذلك على ما سخره لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج الله ويفهمون عنه تنبيهه إياهم" (8).
فالقرآن ليس كتاب تاريخ أو جغرافيا أو علوم طبيعة ولكنه رسم للعقول دروباً تسدد الفكر، وأوجد المناخ العلمي كي ينتفع الناس بما سخر الله لهم مما في الأرض ويستنبطوا في العلوم ما ينفعهم ولا يضرهم، أوجد القرآن المناخ العلمي لينتفع الناس من التاريخ والجغرافيا فذكر أسباب التقدم وأسباب الانهيار عند الأمم {قلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11]، فالمناخ العلمي هو الذي يسمح بالإبداع وطرح الأسئلة ولذلك شنع القرآن على الجمود وعلى الذين يقولون {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} [الزخرف:23]. إن الله سبحانه عندما أعطى الإنسان قوى العقل ليفكر أراد منه أن يكون التفكير طريقاً لما هو أنجح وأقوى وأحكم ولم يعطيها للإنسان ليجعلها خيالات وخرافات (9)، يقول الشيخ ابن عاشور: "إن إصلاح التفكير من أهم ما قصدته الشريعة الإسلامية في إقامة نظام الاجتماع، وبهذا نفهم وجه اهتمام القرآن باستدعاء العقول للنظر والعلم والاعتبار..." (10) كما يدعو القرآن إلى التفكير بشكل عام والتخلص من إرث الآباء والأجداد كما في قوله تعالىُ: {قلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46].
-وبين القرآن أن سبيل الدعوة الصحيحة وهو سبيل المرسلين الدعوة على بصيرة.
يقول تعالى في سورة يوسف: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته {سَبِيلِي} وطريقتي ودعوتي أدعو إلى الله وحده لا شريك له {عَلَى بَصِيرَةٍ} بذلك ويقين علم مني به أنا ويدعو إليه على بصيرة أيضا من اتبعني وصدقني وآمن بي، {وَسُبْحَانَ اللّهِ} يقول له تعالى ذكره: وقل تنزيها لله وتعظيما له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه: {وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يقول: وأنا بريء من أهل الشرك به لست منهم ولا هم مني، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، ذكر من قال ذلك حدثني المثنى قال أخبرنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بن أنس في قوله: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} يقول: هذه دعوتي.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} قال: {هَـذِهِ سَبِيلِي} هذا أمري وسنتي ومنهاجي. {أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} قال: وحق والله على من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه ويذّكر بالقرآن والموعظة وينهى عن معاصي الله. حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن أبي جعفر عن الربيع بن أنس قوله: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي} هذه دعوتي. حدثنا ابن حميد قال حدثنا حكام عن أبي جعفر عن الربيع: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي} قال: هذه دعوتي (11).
يقول الهروى رحمه الله في المنازل في الكلام على نفس الآية: "يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهى البصيرة التي تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة، وهى أعلى درجات العلماء، قال تعالى: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} أي أنا واتباعى على بصيرة، ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله على بصيرة، وعلى القولين: فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر الداعون إلى الله تعالى، ومن ليس منهم فليس من إتباعه على الحقيقة والموافقة وإن كان أتباعه على الانتساب والدعوى" (12).
فنرى من تفسير السلف لهذه الآية أن (البصيرة) يجب أن تكون من سمات القائد والأتباع أيضا لا ينفرد بها أحد دون الآخر. ونرى كذلك أن القرآن قد أخبرنا عن قوم ضلوا بسبب عدم تفعيل عقلهم وتفّكرهم واتّبعوا ما عليه الآباء وهم أصحاب (العقلية الآبائية) وهم الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] فحين عطلوا تفكيرهم عن إبصار الحق ارتكسوا هم وآباؤهم في الضلال المبين (13).
2- النبي صلي الله عليه وسلم يربي تربية القادة لا تربية العبيد (14):
حرص محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه أنه إنما هو بشر يرضى كما يرضى البشر ويغضب كما يغضب البشر ويخطئ ويصيب في الأمور الدنيوية كما يخطئ البشر ويصيبون مع عصمة الله له فيما يبلغه عن ربه،كان صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه فيقول لهم: «التربية لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع بأمر دون استشارة أصحابه، ففى بدر يقف صلى الله عليه وسلم حينما أتاه خبر مسيرة قريش على المسلمين فيستشير من معه من أصحابه فيتكلم أبو بكر وعمر ثم المقداد كلاماً حسناً، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ ولكنه ينظر إلى القوم ويقول لهم أشيروا على أيها الناس حتى يقوم سعد بن معاذ ويقول مقولته الطيبة، فيقول عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » والرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه ويدع رأيه لرأيهم ففي بدر يتكلم الحباب ابن المنذر بشان المكان الذي ينزلون فيه فينهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحول إلى المكان الذي يشير به الحباب رضي الله عنه.
» (البخارى) وفى سبيل هذهوفى غزوة الخندق قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشورة سلمان بحفر الخندق وكان صلى الله عليه وسلم يعمل إلى جانب العاملين، روى البخاري عن البراء رضى الله عنه قال: "لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب جلد بطنه وكان كثير الشعر". في كل هذه الأمثلة ترى تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه واعترافه برأيهم ورضاه بصراحتهم وجرأتهم في الحق، وهذه التربية تنتج قادة يحملون التبعات، لا أتباعًا يسيرون وراء كل ناعق.
ومن أمثلة هذه المواقف موقف الصحابي أبي حذيفة حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر: "من لقي منكم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقتله فإنما خرج مستكرهاً، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف". إنه لموقف يتجلى فيه الصدق والصراحة والجرأة وقد بلغت كل هذه غايتها، وما كان الأصحاب ليقفوا مثل هذه المواقف لولا ما عهدوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسن استقباله للقول الذي يندفع به صاحبه، ما يدفعه إلا الصدق والإخلاص في القول، هكذا كانت تربية محمد صلى الله عليه وسلم، تربية لروح النقد والصراحة بالحق والجهر به، تربية تهدف إلى إنشاء قادة يستطيعون أن يضلعوا بأعباء القيادة حين تغيب القيادة وهذه التربية هي القدوة الصحيحة للتربية الإسلامية، وكل تربية تبعد عن سبيل هذه التربية تعتبر تربية منحرفة بمقدار ابتعادها، وفى هذه التربية يشعر كل فرد بأنه مسؤول عن الدعوة الإسلامية حتى ولو كان وحده، وكل فرد مسؤول عن وظيفته الخاصة في الفئة المسلمة كما هو مسؤول عن سير الفئة كلها، ولأدنى فرد في هذه الفئة أن يقف أمام خليفة المسلمين ليدلى برأيه وليعارض أي رأي أو قول أو فعل يجد فيه خطأ.
3- عمر رضي الله عنه يطبق الميزان:
تأمل حال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ يقول حين صعد على المنبر: "إذا أصبت فأعينوني، وإذا أخطأت فقوموني"، فقال له رجل من بين الناس إذا أخطأت قومناك بسيوفنا! عمر بن الخطاب رضى الله عنه لا يرضى بتعبيد الناس له ومصادرة عقولهم، وتغييبهم عن الساحة، بل يطالبهم بالمشاركة، والناس لا ترضى بالتبعية والعجز، وهكذا تبنى الأمم، ويقول أيضا رضي الله عنه: "من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها" يا ليته هلك وحده بل قد يكون أهلك منابع الخير والنور التي استفاد منها عشرات الأجيال (15).
4- وقفة من عمر بن عبد العزيز:
قال عمر بن عبد العزيز: لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إلي من الدنيا وما فيها. وقال أيضا: والله إني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال فقالوا: يا أمير المؤمنين تقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك؟ فقال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه وبنصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف، إن في المحادثة -يعنى له ولمثله- تلقيحا للعقل وترويحا للقلب، وتسريحا للهم وتنقيحا للأدب (16).
(8) تفسير الطبري تفسير سورة النحل.
(9) د. محمد العبدة (بعض أسس التفكير كما جاءت في القرآن الكريم) ص3- من سلسلة دروب النهضة- طباعة دار الصفوة بمصر.
(10) الطاهر بن عاشور (النظام الاجتماعي في الإسلام) نقلا عن المصدر السابق ص4.
(11) تفسير الطبري تفسير سورة يوسف.
(12) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد طبعة دار الفتح ص77.
(13) أزمة العقل المبدع للباحث.
(14) سبيل الدعوة الإسلامية للدكتور محمد أمين المصري رحمه الله دار الأرقم الكويت.
(15) لم لا نفكر..؟! أحمد بن عبد الرحمن الصويان مرجع سابق.
(16) (مشاركة العقول) من موقع إسلاميات).
محمد المصري
معلم وباحث إسلامي مهتم بالقضايا التربوية والاجتماعية ،وله عديد من الدراسات في مجال الشريعة والعقيدة والتربية الإسلامية.
- التصنيف:
- المصدر: