طرق غير مباشرة لتربية الأبناء
في مجال تربية الأبناء تتعدد الطرق والوسائل وتتنوع حسب معطيات عديدة تتعلق بنفسية الأبناء تبعًا لمراحلهم العمرية وأمور أخرى، لكن يبقى للتربية في عمومها ثوابت راسخة لا تتغير في جوهرها وأهدافها؛ ويبقى المقصد الأساس من ذلك هو تربية الأبناء على الاستقامة لتتحقق بهم الغاية من خلق الله لعباده، وهي تحقيق العبودية لله بكل معانيها..
في مجال تربية الأبناء تتعدد الطرق والوسائل وتتنوع حسب معطيات عديدة تتعلق بنفسية الأبناء تبعًا لمراحلهم العمرية وأمور أخرى، لكن يبقى للتربية في عمومها ثوابت راسخة لا تتغير في جوهرها وأهدافها؛ ويبقى المقصد الأساس من ذلك هو تربية الأبناء على الاستقامة لتتحقق بهم الغاية من خلق الله لعباده، وهي تحقيق العبودية لله بكل معانيها، فمهما تغيرت الطرق والوسائل في التربية فإن هذا الهدف ثابت لا يتغير، وإذا كان من طرق التربية التي تحقق ذلك الهدف: التعليم والتوجيه، والنصح والوعظ، والتشجيع والتحفيز، والتأديب والزجر، والحث والتحذير وغير ذلك، وهي كلها طرق مباشرة لتربية الأبناء، فإن هناك طرق أخرى غير مباشرة لا يتوجه فيها الخطاب والفعل للأبناء مباشرة وإنما يظهر أثرها عليهم بشكل أو بآخر، وهذه الطرق هي غاية في النفع والجدوى وأكثر تأثيرًا وأكبر في تحقيق الأهداف المرجوة من التربية والتوجيه، إنها طرق هادئة صامتة! وشرعية يتحقق بها الاقتداء بخير الخلق من الأنبياء والمرسلين والصالحين، وقرآنية جاء بها القرآن بنصوص واضحة صريحة، لا يستغني عنها من شغل باله صلاح أبنائه وتنشئتهم النشأة الصالحة.
ومن آكاد تلك الطرق الصامتة لصلاح الأبناء:
أولا: الدعاء بالذرية الصالحة: فإن الدعاء من أيسر الوسائل وأسهلها لا يعجز قويًا ولا ضعيفًا، إنما هو استمطار رحمة الله وفضله بكلمات يسيرة معدودة باللسان يخضع بها القلب لله، ويظهر عجزه وحاجته وفقره لمولاه لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «» (رواه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع). وهذه الوسيلة من الوسائل القرآنية التي لم يستغنِ عنها أعلمُ الناسِ بالله وبفنونِ التربية وعلومِها وأكثرُ الناسِ حكمةً وعلما وفهما وأحرصُ الناس عل هداية الناس، هؤلاء الذين أمرنا الله بالاقتداء بهم في كتابه فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، إنهم الأنبياء، وفي الاقتداء بالأنبياء في دعائهم خير سبيل لصلاح الأبناء، فقد كانوا يقرنون بين سؤال الله الذرية مع صلاحها، فلا يسألون الذرية مجردة عن الوصف بل يسألون الله الذرية الصالحة ليكتمل العطاء وتقر بهم العين! قال تعالى عن إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، قال ابن كثير رحمه الله: "أولادا مطيعين عوضا عن قومه وعشيرته الذين فارقهم".
وقال عن زكريا: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]، وقال أيضا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5-6]؛ قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}: "أي مرضيا عندك وعند خلقك، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه"، وقد جعل الله الدعاء بصلاح الذرية من صفات المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يعنون: من يعمل بطاعة الله فتقرّ به أعينهم في الدنيا والآخرة".
فجنس الذرية لا يدل على خير أو شر فقد يكونون خيرا على آبائهم وقد يكونون شرًا بسوء أفعالهم وجحودهم ولذلك قص الله علينا في سورة الكهف قصة الابن العاق الذي قتله الخضر فقال: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا . فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80-81]، وفي تفسير ابن كثير قال قتادة: "قد فرح به أبواه حين وُلِد، وحَزنَا عَليهِ حِينَ قُتِل، ولو بَقِي كان فيه هَلاكهما، فليرضَ امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب"! فمثل هؤلاء الأبناء ليسوا من الذرية التي تقر بها العين بل مما يكون عذابا ونكالاً على الوالدين، لذلك شرع الدعاء بصلاح الذرية قبل مولدها.
ثانيًا: الدعاء للذرية عند الحمل والولادة: وتستمر هذه الوسيلة في عطائها ما استمر المربي الداعي بالدعاء لذريته عند الحمل والولادة وفي كل مرحلة من مراحل عمره وحياته، ومن أكثر من الدعاء لأبنائه كثر الله له فيهم الصلاح والخير والبركة، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » (رواه الترمذي وحسنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع).
ففي أدب الجماع مثلاً سنة نبوية لها أثر كبير في صلاح الأبناء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «» (متفق عليه)، فهذا واحد من الأدعية الثابتة التي تحصن الذرية من أذى الشياطين وفي تحصنهم من ذلك خير معين لهم على الهداية والاستقامة والفلاح.
وفي كتاب الله امرأة صالحة دعت لحملها بالخير والبركة والاستعاذة من الشيطان الرجيم فأنجبتها مباركة طيبة صديقة قانتة عابدة من خيرة نساء الدنيا وأصلحهن وأكملهم خلقًا وعقلاً وهي مريم بنت عمران عليها وعلى عيسى السلام قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]، قال البغوي رحمه الله: "{وَإِنِّي أُعِيذُهَا} أمنعها وأجيرها، {بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا} أولادها، {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} فالشيطان الطريد اللعين، والرجيم المرمي بالشهب"، وفي الصحيحين أن أسماء رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بمولود لها، تقول: «» (متفق عليه).
ثالثًا: تعويذ الأبناء من أذى الشياطين والعين: ولما كان أذى الشياطين وتسلطهم على بني آدم لا يستثني الصغير ولا الكبير، فقد شرع تعويذ الأبناء من همزاتهم ومن أذى العين والأنفس الخبيثة فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «» (رواه البخاري)، فهذه سنة نبينا والأنبياء قبله وهم المربون والقدوة! وفيها حفظ للأبناء في نفوسهم وعقولهم وعافيتهم وكل نعمة أصبغها الله عليهم ليكتمل بها بناؤهم ونشأتهم على الوجه الأفضل، وكل شر قد يمكن دفعه ومدافعته إلا شر هذه المخلوقات الشريرة فما من شيء يدفعه سوى الاستعاذة بالله من ذلك. وفي هذا جاء نص صريح؛ قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ . وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97-98] قال ابن كثير وقوله: "{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} أمره أن يستعيذ من الشياطين، لأنهم لا تنفع معهم الحيل، ولا ينقادون بالمعروف".
رابعًا: تعاهد الدعاء للأبناء بصلاح الدين والدنيا وليس الدعاء بالصلاح قاصرًا على صلاح آخرتهم بل تعيين الدعاء بصلاحهم العام في الدنيا والآخرة وصلاح أمورهم في الكسب والعلم والعافية والخير كله فإن ذلك من الفقه الذي هدى الله إليه أنبياءه والصالحين من عباده كما كان إبراهيم عليه السلام في دعائه لأبنائه بل وذريته من نسله حين دعا بدعوات مباركة كثيرة منها: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]، ودعاؤه أيضا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون} [إبراهيم:37]؛ فملآ الله المكان خيرا وبركة وأفاض فيه أعذب ماء وأطيبه وأبركه: بئر زمزم لا يزال خيره يفيض على من حوله إلى اليوم.
وهذا البخاري رحمه الله كما ذكر اللالكائي في (شرح السنة): "كان قد ذهبت عيناه في صغره، فرأت والدته الخليل إبراهيم عليه السلام في المنام فقال لها: يا هذه رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك، قال: فأصبح وقد رد الله عليه بصره"، فدعاء والدة البخاري رحمهما الله كان له أثر كبير في رفع العجز وهو العمى عنه فارتد بصيرًا، فكان لذلك أثر في التكوين العملي للبخاري وقدرته عل طلب العلم والسفر وجمع الحديث فهي دعوة عمت بخيرها أمة الإسلام بأكملها حين استطاع هذا الرجل جمع أصح الكتب الحديثية حفظ بها السنة من الزيد والنقص فانظر كيف هو أثر الدعوة الصالحة للأبناء وأين يصل مداه.
خامسًا: النهي عن الدعاء على الأولاد: ولا يستقيم أن يبذل المسلم قصارى جهده في الدعاء لذريته وأبنائه بالخير والصلاح ثم في لحظة غضب واضطراب ينسف ما بناه بالدعاء عليهم بما لو استجيب له في ذلك لكانوا من الهالكين! ولقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم عن الدعاء عل النفس والولد فقال: » (رواه مسلم)، وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله يشكو إليه عقوق ولده، فسأله ابن المبارك: "أدعوت عليه؟"، قال: "نعم"، قال: "اذهب فقد أفسدته".
سادسًا: أكل الحلال: ومن وسائل التربية غير المباشرة أكل الحلال وإطعام الأبناء منه، وليس الأمر مقتصرًا على المطعم والمشرب وإنما في كل نواحي الحياة، فإنما البركة فيه والخير، فعنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «» (صححه الألباني في صحيح الترمذي)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى 21/541): "الطَّعَامَ يُخَالِطُ الْبَدَنَ وَيُمَازِجُهُ وَيَنْبُتُ مِنْهُ فَيَصِيرُ مَادَّةً وَعُنْصُرًا لَهُ، فَإِذَا كَانَ خَبِيثًا صَارَ الْبَدَنُ خَبِيثًا فَيَسْتَوْجِبُ النَّارَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «». وَالْجَنَّةُ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا طَيِّبٌ" (انتهى).
فهذا الوعيد متعلق بمن كسب الحرام وأنفقه لكن مع ذلك، فإنفاقه على الأبناء فيه مفسدة لنفوسهم وعقولهم ونشأتهم فإنه بمثابة السم لذواتهم، وأرواحهم. وهذا النبي صلى الله عليه وسلم عندما أُتي بتمر الصدقة فأخذ سبطه الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة منها وجعلها في فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «» (رواه البخاري)، فالإنفاق على الأبناء من الحلال من وسائل الحفاظ على فطرتهم سليمة نقية من الأمراض الحسية والمعنوية وتأمل في فقه إسماعيل والد البخاري رحمه الله وهو على فراش الموت يقول: "والله لا أعلم أني أدخلت على أهل بيتي يومًا درهمًا حرامًا أو درهمًا فيه شبهة" فكانت ثمرة ذلك أن رزقه الله من ذلك ولدا صالحا عالما محدثا هو الإمام محمد بن إسماعيل رحمه الله- جدد الله به سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبقاها به محفوظة في أمة الإسلام فتأمل في بركة صنيعه وآثارها.
سابعًا: القدوة وهذه الوسيلة هي أم الوسائل وأكثرها أثرًا في تربية الأبناء، لا سيما وقد أثبتت الدراسات النفسية والتربوية أن الأبناء يعتبرون آباءهم القدوة المطلقة ومصدر المعارف والمواقف والأخلاق والآداب وكل ما يتصل بأمور الحياة، إن هذا السلوك هو بمثابة غريزة سببها رابطة الأبوة والأمومة! ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «» (رواه البخاري)، ومهما بذل الآباء من جهد في توصية الأبناء وتوجيههم فما لم يكن كلامهم مقرونا بفعال تدل على صدقهم فقلما يكون مقنعًا بالنسبة للأبناء، فالسلوك السوي للأب أكبر وأبلغ في التعبير من التوجيه إلى السلوك السوي! لاحظ كيف يزاحمك طفلك على سجادة الصلاة وأنت تصلي في بيتك ويركع ويسجد ويتشهد دون كلمة واحدة من توجيهاتك! إنه يفعل ما تفعله! ولعل هذا مما أشار إليه الحديث في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «» (رواه البخاري، ومسلم).
ولاحظ كيف يعجز أب مدخن عن إقناع ابنه بترك التدخين! لتعلم قيمة التربية بالقدوة! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]. والتربية بالقدوة تجدي مع الكبار فضلا عن الصغار الذين لا يتطلعون للقيادة! فهؤلاء صحابة رسول الله في صلح الحذيبية لم يحلقوا رؤسهم بمجرد التوجيه، فلما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فعلوه، فعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ: "فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ: «»، فَوَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ فَاخْرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ حَتَّى تَنْحَرُ بُدْنَكَ وَتَدْعُو حَالِقَكَ فَيَحْلِقُكَ، فَخَرَجَ وَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، «»، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا" (رواه البخاري).
ثامنًا: صلاح الآباء: فإن لصلاح المؤمن بركة على حياته تمتد لذريته من بعده، وتبقى فيهم دليلاً على فضل الاستقامة وكرامة أهل الإيمان عند الله، فلا تكاد تجد عبدًا صالحًا إلا وترى في ذريته لمسات الخير والهداية ونفحات الولاية والإيمان والصلاح، وقد قص الله علينا قصة الغلامين اليتيمين في سورة الكهف وكيف حفظهما الله وحفظ لهما كنزهما بصلاح والدهما، قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82]، قال ابن كثير: "وقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} فيه دليل على أن الرجل الصالح يُحفَظ في ذُريته، وتشملُهم بَركةُ عبادته في الدنيا والآخرة، بشفاعَتِه فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به"، وقال أيضًا: "وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان نساجا".
فتأمل في قوله: "حُفِظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاح"، لتعلم كيف يحفظ صلاحك أبناءك في حياتك ومن بعدك، فهذه الوسيلة أصمت الوسائل وأبقاها، وأرفعها وأعلاها قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، قال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذلك".
تاسعًا: التربية بالإيحاء:
التربية الإيحائية هي في حقيقتها من الوسائل التربوية المباشرة، لكن المباشرة فيها تقع بالإنابة فينوب الإيحاء بوسيلته عن المربي في تبليغ الرسالة التربوية، قد تكون الوسيلة الإيحائية قصة، وقد تكون كتابًا، وقد تكون شريطًا وقد تكون لوحة معلقة، وقد تكون سلوكًا في قالب تحريضي غير مباشر في إطار التربية بالقدوة يوحي للغير بفعل مثله، والسير على منواله دون توجيه مباشر! التربية الإيحائية توجيه صامت بوسيلة صامتة، تحث على سلوك محدد، فحين يختار الآباء مثلا برامج حاسوبية لأبنائهم فهم بطريقة أو بأخرى يدخلون مربين جدد إلى بيوتهم، يوحون للأطفال بتوجيهات تتضمنها مواد تلك البرامج بحسب ما فيها! إنهم يوحون إليهم بأفعال وأخلاق وسلوك! هنا تقع مسؤولية الاختيار على الآباء، ففي مستطاعهم انتقاء ما يصلح فيكون معينا لهم على صلاح الأبناء واستقامتهم ونجاحهم في الحياة! وقِس على ذلك المكتبة الورقية، وكل ما يساهم في تشكيل عقلية الأبناء وتأطير سلوكهم بالإيحاء.
إدريس أبو الحسن
- التصنيف:
- المصدر: