المنهج الرباني في بناء النفس الإنسانية
العقيدة هي دماغ التصرفات، فإذا تعطل جزء منها أحدث فسادًا كبيرًا في التصرفات، وانفراجًا هائلًا عن سَوِيِّ الصراط.
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّـهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83].
العقيدة: هي الضابط الأمين الذي يحكم التصرفات، ويوجِّه السلوك، ويتوقف على مدى انضباطها وإحكامها كل ما يصدر عن النفس من كلمات أو حركات، بل حتى الخلجات التى تساور القلب والمشاعر التي تعمل في جَنَبات النفس، والهواجس التي تمر في الخيال، هذه كلها تتوقف على هذا الجهاز الحساس.
وباختصار؛ فالعقيدة هي دماغ التصرفات، فإذا تعطل جزء منها أحدث فسادًا كبيرًا في التصرفات، وانفراجًا هائلًا عن سَوِيِّ الصراط.
ولذا فقد عَنِي القرآن الكريم ببناء العقيدة، فلا تكاد تخلو أية سورة -مكية كانت أو مدنية- من شد الإنسان بكُلِّيته إلى ربه، وربط كل تصرف بهذه العقيدة التي تمثل القاعدة الأساسية لهذا الدين الذي لا يقوم بدونها، وبخاصة السور المكية التي أُفردت لبناء هذه العقيدة، فلقد كانت العقيدة هي الموضوع الوحيد الذي عالجته السور المكية.
وعلى هذا؛ فإن كل الانحرافات التي نعانيها في سلوكنا -أفرادًا أو جماعات- راجعة بكُلِّيتها إلى الانحراف في التصوُّر العَقَدي، فالناس في هذه الأيام بحاجة إلى بناء العقيدة من جديد، وإلى تصحيح التصوُّر الاعتقادي، فلابد من إفراد الله سبحانه بالألوهية، ولابد من أن تستقر عظمة الله عز وجل في الأعماق، وأن يَعمُر النفوسَ حبُّه، ولا مناصَ من أن تحيا القلوب وهي تستشعر هيبته وجلاله.
ويقوم هذا الدين على:
1) حقيقة الألوهية.
2) حقيقة العبودية.
3) الصلة بين العبد وربه.
هذه أمور ثلاثة لابد من استقرارها في النفوس: معرفة الله وقَدْره، ومعرفة العبد وحده، والصلة بين الخالق والمخلوق.
وعلى هذا فإنه من العبث تتبُّع فروع الشرع وطلبها من شخص لا ترسخ في قلبه حقيقة هذا الدين، ولا تستقر في كيانه عظمة الله التي تهيمن على كل سكنة ونأمة وحركة في هذا الكون.
والحق أن الناس اليوم غابت عنهم حقيقة هذا الدين العظيم، ومثل كثير منهم -حتى الذين يقيمون الشعائر التعبدية- كمثل الأعمى الذي أمسك بذَنَب الفيل، ويحسب أنه يمسك بين يديه جسم الفيل، حتى إذا طلبت منه أن يصف لك الفيل انبرى يصوِّره بأنه شعرات مرتبطة بعضلة قاسية، ولو اجتمع أهل الأرض لإقناعه أن الفيل سوى ذلك ما استطاعوا أن يصرفوه عن ظنه.
وقد أصبح اليومَ لدينا شيء مألوف أن نرى شخصًا يداوم على العبادات وهو في نفس الوقت يزوال أعمالًا تخرجه من إطار هذا الدين، كالاستهزاء بسُنَّةٍ ثابتةٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بفريضة وردت في محكم التنزيل، وهو لا يعلم أنه بالاستهزاء إنما يهزأ من أوامر الله، ويسخر منها، وهذا الذي اتفق أهل الذكر من هذه الأمة: أنه يعني ردة المستهزئ وخروجه من الإسلام.
ومن هذا القبيل: سب الدين، أو سب الله أو رسوله، فمَن فعلها حُكم عليه بالردة، وقد قال بذلك مالك والشافعي وأحمد والليث وإسحاق؛ مستندين إلى قوله تعالى: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] (راجع الجامع لأحكام القرآن -تفسير القرطبي-، تفسير آية: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ}).
وقد غاب عن أذهانهم كذلك ما يترتب على هذه الكلمة من نتائج.
أقول: إن كلمة الطعن في الدين وما يترتب عليها من بينونة زوجته منه رأسًا، واعتبار العقد مفسوخًا مباشرة، ومن خروجه من إطار الدين، وسقوط حجة الإسلام، وحرمانه من الإرث من أقاربه المسلمين، وحرمان أبنائه من الإرث منه، وغير ذلك من الأحكام خافية على معظم الناس، وكَأَيِّن من رجل يسب دين زوجته، ثم يبقى متصلًا بها ينكحها، ولا شك أن هذا كالزنا تمامًا وأن أولاده حكمهم حكم أبناء الزنا.
أعود لأقرر الحقيقة الكبرى: أن الناس لا يعرفون حقيقة هذا الدين، ويخلطون بين مناهج متعددة في حياتهم، قسم ضئيل من منهاج حياتهم من دين الله، وأما معظم المنهاج الذي يوجِّه حياتهم، فهو من صنع هواه أو هوى غيره من البشر، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:43-44].
وعلى هذا فإني أرى أن التركيز على مسائل فرعية من الشريعة بالنسبة للناس أمر غير منطقي، بل محاولة عابثة لاستنبات البذور في الهواء، ولا يمكن أبدًا بتجميع أغصان نضرة مع بعضها في الهواء أن يتكون منها شجرة ذات جذور ضاربة في أعماق الأرض، لابد من سلوك المنهاج الرباني الذي رسمه الله لهذا الخلق. فلابد من زرع البذرة في التربة، ثم تعهدها حتى تستوي قائمة على أصولها، ثم تمتد بفروعها وأفنانها.
وهكذا بالنسبة لهذا الدين العظيم لابد من اقتفاء السبيل الذي رسمه الله لهذا الكائن حتى يحمل هذا الدين.
لابد من بناء الأساس بغرس البذرة في أعماق الأرض -أي: غرس العقيدة في أعماق القلب-.
والعقيدة هي الأساس المكين الذي ترتكز عليه فروع هذا الدين كله، ومن العبث محاولة إشادة بناء ضخم بلا أساس.
ومن هنا: فإن محاولة تتبع فروع الشريعة بالتفصيل والتعليل هو اشتغال بالمهم قبل الأهم، ولا يمكن أن تؤتي هذه المحاولة أُكُلها التي نرجو، والثمار التي نأمل. ومن الأَوْلَى أن نتبع المنهاج الرباني في بناء هذا الدين للنفس البشرية، وذلك بترسيخ العقيدة أولًا في الأعماق، ثم مطالبة النفس بعدها بأوامر الشريعة كلها، إذ المنهاج الرباني في تربية النفس جزء من العقيدة ذاتها.
ولا ننسى أن الداعية إلى رب العالمين لابد أن يتمثل فيه المنهاج الإلهي كاملًا، ولابد أن يكون مصحفًا يمشي على الأرض، يتحرك فيتحرك بحركته القرآن، فالداعية يطالَب بالشريعة كاملة، ولكنه في الوقت نفسه لا يطالِب الناس بفروع الشريعة قبل أن يعلمهم هذا الدين، ويشد أنظارهم إلى إطاره الكامل الشامل، وبعد أن يرسموا في أذهانهم الصورة الكاملة للإطار، يدخل معهم داخل الإطار ليعلمهم تفاصيل هذا الدين وتفريعاته.
وهكذا قام الإسلام أول مرة في النفوس البشرية، وهكذا يقوم في كل مرة يحاول فيها بناء هذه النفوس بالإسلام، ولا مناصَ من اقتفاء هذا السبيل، ولا مفر من انتهاجه.
فكما أن هذه الأوامر والنواهي فريضة من عند الله، واتباعها فرض لازب في رقابنا، فكذلك اقتفاء المنهج الرباني في بناء النفس فرض كذلك، وكل محاولة لإقامة هذا الدين بغير المنهاج الرباني لابد أن تبوء بالفشل، وذلك لأن هذا الدين لا يكون ولن يكون إلا كما أراد الله، ولن يبنى إلا بنفس المنهج الدي رسمه رب العالمين، وكل منهاج بشري نستعمله لإيصال حقيقة هذا الدين إلى الناس هو فاشل لا محالة، وهو عبث وملهاة ولعب.
لابد من اتباع المنهج الرباني القِيَم الذي رسمه رب العالمين، وسلكه سيد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم؛ لإيصال دين الله إلى قلوب البشر، ولابد من البدء بالعقيدة من تعريف الناس بإلههم الحق، وبحقيقة وجودهم على هذه الأرض، والمهمة المنوطة بهم إبان مرورهم بهذه الدنيا، مَن المسؤول عنهم؟ أي منهاج يجب أن يحكمهم؟ صلة هذا الإنسان بالكون من حوله، مكانة هذا الكائن من الكون.
وبعبارة أقصر؛ إقرار جلال الله ورهبته وهيبته في أعماق قلب الإنسان وطريقة الوصول إلى رضاه.
ومن ثَمَّ وفي هذا الوقت فإني لا أرى تتبُّع الجزئيات من هذا الدين في سلوك الناس، كالشرب باليمين، وترك التدخين، والشرب جالسًا، إلى غير ذلك من هذه التفاصيل التي لا تحتملها ولا تطيق الدوام عليها إلا نفوس بُنيت على العقيدة، وجُبلت بعظمة الإيمان.
لابد أن نبدأ مع النفس البشرية من حيث هي، بحيث نلتقطها من هذا الحضيض الذي هبطت إليه، ثم نسير معها صَعَدًا نعطيها الإيمان جرعة جرعة، نواكبها في نموها ونقيل لها عثراتها، ونردها من هنا، ونهذبها من هناك، حتى تشب قائمة على عودها، صلبة لا تهزها الزلازل، ثابتة لا تجتثها الأعاصير.
وهنا فقط نطلب منها كل ما يريده الله منها، فتنفذ وهي راضية مستسلمة مطمئنة أن الخير كله فيما نفذت؛ لأن الخير كله منحصر في منهاج الله، والشر كل الشر في الخروج عن منهاج الله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه من الآيتين:123-124].
وأعود فأذكِّر أن النفوس التي تقدِّم الإسلام للناس لا مناصَ لها من أن تكون شريعة تدبُّ على الأرض، وتأخذ بالعزائم، ولابد لها من أن تكون المرآة الصافية التي تعكس حقيقة هذا الدين؛ أصوله وفروعه، إذ لابد لها من أن يكون لحمها ودمها هو هذا الدين الذي إليه تدعو، والمنهاج الذي تهتف بالناس أن ينهجوا.
{هَـٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم:25].
- التصنيف: