التعريف بالعقيدة والتوحيد

منذ 2014-04-29

هذا مثل من كثير يبين كيف تترجمت العقيدة في نفوس الصحابة، وتجسدت في أناس من لحم ودم، يدبون على الأرض فيتحرك بحركتهم القرآن.

نعنى بالعقيدة: الإيمان بأركانه الستة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم بإسناده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... قال يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله» (صحيح مسلم. ص:13. ط/صبيح).

وفي حديث عمر الذي أخرجه مسلم مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» (شرح الأربعين النووية ص:91. ط/قطر).

والعقيدة لغة؛ فعيلة، من عقد بمعنى معقودة بمعنى اسم المفعول عقد الحبل والبيع والعهد يعقده: شده، والعقد: العهد (القاموس المحيط، باب الدول. فصل العين. ج:1. ص:513).

فكأن العقيدة هي العهد المشدود والعروة الوثقى، وذلك لاستقرارها في القلوب ورسوخها في الأعماق.

أما الشهادتان: لا إله إلا الله محمد رسول الله فهما القاعدة الأساسية والأولى التي يقوم عليها صرح هذا الدين، وهو الطريق الوحيد الذي يوصل سالكه دار السلام: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّـهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة:16] .

وهذه القاعدة - توحيد الله في الألوهية - هي الركن الأساسي بل الأساس المكين الذي قام عليه كل دين نزل من عند الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] .

وهذه القاعدة لا إله إلا الله تعني في أبسط صورها أن هذا الكون منبثق عن إرادة هذا الإله الواحد، بأمره يسير، وبقدره تدبر أموره، وكل خلق من مخلوقاته أمره بيده، لا يخرج عن إرادته، ولا يند عن مشيئته؛ { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} [طه:50] .

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ} [الأعلى:1-3]، { سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس:26] .

هذه نقطة لا تغيبن عن بالنا، أن كل شيء في الكون صنع بيد الله العزيز الحكيم، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} [السجدة:7] .

وأما النقطة الثانية؛ فهي أن كل مخلوق في هذا الكون جندي من جنود الله، يؤمر ويطيع، ويدعى فيلبي؛ {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّـهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [​آل عمران:83]، {ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:26] . فالسموات والأرض وما فيهن جنود مطيعة لرب العالمين.

{وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [الروم:26] ، (أي: مطيعون خاشعون)، { سَبَّحَ لِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد:1] .

{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] . ولذا فالجبال والماء والأرض والسماء كلها مخلوقات لله، وجند من جنوده، {وَلِلَّـهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:4] .

فلقد وجه رب العالمين الأمر إلى النار فأطاعت: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] .

ونادى الجبال فأصغت: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سباء:10] .

وأما الثالثة: فقد يسخر الله بعض جنوده لطاعة عبد من عبيده: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ . يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:11-12] .

ويقول لموسى عليه السلام: {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [الأعراف:160] .

وأما المسألة الرابعة: فكل كائن من مخلوقات الله له منهاج رباني يسير عليه لا يستطيع الخروج عنه قيد أنملة ولا شعرة، فالشمس لا يمكنها أن تخرج عن المدار الذي أمرها الله أن تدور فيه، ولو خرجت زاوية واحدة عن محورها لتحطمت وحطمت الكثير، وكذلك القمر، والأرض، وهذا هو ناموس الله في هذا الكون لكل خلق عدا الثقلين: الإنس والجن.

وقد تتجلى مظاهر هذه العبودية أحيانا لعبد من عبيد الله بإرادة الحاكم الآمر، ومن ذلك ما يحدثنا الإمام أبو الحسين مسلم بإسناده عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث، وإني لأعرفه الآن» (مختصر صحيح مسلم للمنذري. تحقيق الألباني: 2/361). وإن أخبار حنين جذع النخل بكائه لفراق الرسول صلى الله عليه وسلم متواترة معنويا.

هذا وقد يكشف الله طرفا من هذه العبودية لغير الأنبياء، فقد تتجلى بإسفار ووضوح لعباده الصالحين، ومن ذلك ما يروى أنه: لما بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه العلاء بن الحضرمي في حرب المرتدين إلى البحرين فسلكوا مفازة، وعطشوا عطشا شديدا، حتى خافوا الهلاك، فنزل وصلى ركعتين، ثم قال: يا حليم، يا عليم، يا علي، يا عظيم، اسقنا! فجاءت سحابة كأنها جناح طائر، فقعقعت عليهم وأمطرت، حتى ملأوا الآنية وسقوا الركاب، ثم انطلقنا حتى أتينا دارين، والبحر بيننا وبينهم، وفي رواية أتينا على خليج من البحر ما خيض فيه قبل ذلك اليوم، ولا خيض بعد، فلم نجد سفنا، وكان المرتدون قد أحرقوا السفن، فصلى ركعتين، ثم قال: يا حليم، يا عليم، يا علي، يا عظيم، أجزنا، ثم أخذ بعنان فرسه ثم قال: جوزوا باسم الله، قال أبوهريرة: فمشينا على الماء، فوالله ما ابتل لنا قدم، ولا خف ولا حافر، وكان الجيش أربعة آلاف. وفي هذا يقول عفيف بن المنذر:

                             ألم تر أن الله ذلل بحره *** وأنزل بالكفار إحدى الجلائل                    
      دعانا الذي شق البحار فجاءنا *** بأعظم من فلق البحارالأوائل

(أسباب سعادة المسلمين وشقائهم في ضوء الكتاب والسنة للكاندهلوي. ص:6)

ثانيا: وأما الإيمان بالملائكة فهو جزء من عقيدتنا، ويخبرنا القرآن أن الملائكة موكلون بحفظ البشر وحمايتهم، وهم مكلفون بإحصاء أعمالهم وتسجيلها.

{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4]، {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ . لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّـهِ} [الرعد:10-11] .

فالملائكة حفظة للبشر، يحصون عليهم أعمالهم، ويقدمون كتب أعمالهم إلى رب العالمين، ومنهم موكل بقبض أرواح البشر، وهم كذلك يستغفرون للذين آمنوا، ويحضرون مجالس الرحمة والذكر والتلاوة كما في الأحاديث الصحيحة، وهنالك ملكان حافظان يلازمان الإنسان حيث حل وأينما سار، لا يفارقانه أبدا إلا في بعض المواطن كالخلاء مثلا.

ثالثا: وأما الإيمان بالكتب السماوية فهو جزء من العقيدة، الإيمان بصحف إبراهيم، والتوراة المنزلة على سيدنا موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، والقرآن الكريم على سيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين، هذا مع الانتباه الشديد إلى مسألتين:

الأولى: نحن نؤمن أن هذه الكتب بأصلها من عند الله إلا أن يد البشر امتدت إليها تعبث وتحرف وتؤول وتغير، كما أخبرنا القرآن الكريم عن أهل الكتاب.

{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ اللَّـهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]، {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78] .

فهذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يخبرنا أن البشر قد عبثوا بالكتب الربانية ولم يبق على وجه هذه البسيطة كتاب بكلماته وحروفه كما أنزل من عند الله إلا القرآن؛ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] .

وأما المسألة الثانية: فهي أن القرآن هو المنهاج الرباني الأخير للبشر، وهو آخر أمر يسأل الله عنه البشر يوم القيامة، فنزل القرآن ناسخا لما قبله، مهيمنا على ما قبله من الكتب؛ {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] .

ولن يقبل دينا إلا هذا الدين، ولن يحاسب يوم القيامة أحدا بعد نزول القرآن إلا عما ورد فيه من أوامر ونواه، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] .

رابعا: وأما الإيمان بالرسل: فالعقيدة الإسلامية تعتبر أن الإيمان بكل رسول مرسل هو جزء منها، بحيث يعتبر من يجحد رسالة أي رسول خارجا من إطار هذا الدين ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] .

فمن كفر بأي رسول فقد كفر بأصل الرسالات وكفر بالقرآن، لأنه صرح بأسماء الرسل في النصوص القطعية الدلالة والثبوت.

خامسا: وأما الإيمان باليوم الآخر؛ فهو كذلك من القواعد المكينة في هذا الدين، ويكون حجر الأساس في كل دين نزل من عند رب العالمين؛ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] .

فالإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح هذه القاعدة بأركانها الثلاثة هي عماد كل دين.

وهذا الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم يعتبر أن الحياة جسر إلى الآخرة، وأن الإنسان يمر بأطوار ومراحل، فمن رحم الأم إلى هذه الأرض إلى القبر، فالبعث فالحشر فالميزان فالصراط، ثم إلى جحيم أو إلى نعيم مستقر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

والحق أن الإيمان بالآخرة هو صمام الأمان في هذه الأرض، وهو الضابط الوثيق الذي يحرس الأخلاق، والحارس الأمين الذي يضمن تنفيذ الشريعة في هذه الدنيا، فهو الذي يمنع لحظة العين أن تمتد إلى محرم، ويمنع النفس أن تهجس بهواجس الشر، ويردع الفم أن يهمس ولو بكلمة واحدة لا يرضاها ربه، لأنها كلها مسجلة معروضة محصية عليه أنفاسه وكلماته وحركاته، {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا . اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14] .

سادسا: وأما القدر؛ فهو المحرك الأصيل للنفس البشرية، وهو الدافع الحقيقي للعمل في ميدان الحياة، وأول ما يطالعنا من نصوص القدر الرزق والأجل، فقد ذكرت في أكثر من موضع في الكتاب العزير مع إقرار أنها ثابتة محددة، ولا يغادر المرء هذه الأرض قبل أن ينال كل رزقه ويستنفد جميع أجله، فلن يموت إلا بقدر، ولن يستطيع أحد أن ينقص من رزقه قرشا واحدا مهما علا جاهه، وعظم سلطانه، { وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّـهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17] .

«واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» [حديث حسن صحيح. رواه الترمذي عن عبد الله بن عباس مرفوعا. (شرح متن الأربعين النووية). ط/ قطر. صفحة:37).

والأجل المحدود والرزق المحدود مع العلم القطعي أن الله عز وجل بيده ملكوت كل شيء، وإليه يرجع الأمر كله، وله من في السموات ومن في الأرض، وأنه إليه ترجع الأمور.

هذه الأمور كلها كانت تدفع بأحدهم في أتون المعركة تاركا وراءه أهله دون معيل ولا كفيل إلا الله. وحسبك كلمة أبي بكر يوم تبوك إذ جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بجميع ماله، فقال له صلى الله عليه و سلم: «ماذا تركت لأهلك؟». فقال: تركت لهم الله ورسوله.

ولذا فإنا نرى أن آيات العقيدة جاءت منبثة في معرض آيات القتال والجهاد، خاصة الآيات التي تقرر أن الحياة والموت بيد الله؛ {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا} [آل عمران:145] .

إن استقرار هذه العقيدة في أعماق النفس يجعلها عزيزة فلا تذل، تقف أمام كل قوى الأرض، لا ترهب سلطانا ولا تستخذي أمام صولة الملك وإغراء المال، هذه العقيدة ترفع صاحبها من أوحال الأرض ومستنقع الطين، فيقف في المرتقى السامي ينظر إلى الأرض من علو مع التواضع، وبالعزة مع المحبة والتضامن، دون استطالة ولا بغي على الناس، يود لو يرفعهم إلى هذا المستوى الذي رفعه الله إليه.

بهذه العقيدة أضحى الرعيل الأول من الصحب الكرام يعيشون بحسهم وأرواحهم في الآخرة، مع أن أجسادهم تدب على هذه الأرض، هم يتحركون فوق هذه المعمورة، مع أن أنظارهم مشدودة بقوة إلى الجنة، إلى الحساب.. وحسبي في هذا الشأن أن أورد مثلا واحدا، ولكنه يدل كيف ذلك الرهط الكريم يفكر ويعيش ويتحرك.

روى الطبراني بإسناده عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «كيف أصبحت يا حارث؟». فقال: أصبحت مؤمنا حقا، قال: «انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟». فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال: «يا حارث عرفت فالزم» - ثلاثا - (في ظلال القرآن. ج:9. ص:142).

ولقد ذكر هذا الصحابي الذي استحق شهادة رسول صلى الله عليه وسلم له بالمعرفة من حال نفسه ما يصور مشاعره، ويشي بما وراء هذه المشاعر من عمل وحركة، فالذي كأنه ينظر إلى عرش ربه بارزا، وينظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتضاغون فيها، لا ينتهي إلى مجرد النظر إنما هو يعيش ويعمل ويتحرك في ظل هذه المشاعر القوية المسيطرة التي تصبغ كل حركة وتؤثر فيها، وذلك إلى جانب ما أسهر ليله وأظمأ نهاره، وكأنما هو ناظر إلى عرش ربه بارزا.

هذا مثل من كثير يبين كيف تترجمت العقيدة في نفوس الصحابة، وتجسدت في أناس من لحم ودم، يدبون على الأرض فيتحرك بحركتهم القرآن.

والآن دعنا نصغ إلى أحد أعيان القرن الثالث الهجري لنرى كيف يحيا بهذه العقيدة، دعنا نستمع إلى الإمام أحمد

وقد دخل عليه رجل فقال: عظني يا إمام، فقال له: إن كان الله قد تكفل بالرزق فاهتمامك لماذا؟ وإن كانت النار حقا فالمعصية لماذا؟ وإن كانت الدنيا فانية فالطمأنية لماذا؟ وإن كان الحساب حقا فالجمع لماذا؟ وإن كان كل شيء بقضاء الله وقدره فالخوف لماذا؟ وإن كان سؤال منكر ونكير حقا فالأنس لماذا؟ فخرج الرجل من عند الإمام وعاهد نفسه أن يرضى بقضاء الله وقدره. (إملاءات في العقيدة. للدكتور محمد أمين المصري. ص:71. دمشق)

المصدر: من كتاب العقيدة وأثرها في بناء الجيل
  • 13
  • 0
  • 8,098

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً