هؤلاء صبيانهم!
إن مما يسترعي الانتباه في علاقة السلف الصالح بالأبناء.. هو حرصهم على انتظام جهدهم الفردي في عقد المجتمع المسلم، بمعنى الأخذ بأسباب التربية والتهذيب وتمتين البناء القيمي والمعرفي دون انفلات عن المفاهيم الإسلامية التي يتوجب على الفرد أن يكون صدى ذاتيًا لها على مستوى التصور والممارسة..
تطرح العلاقات الأسرية جملة من المشاكل التي تُعرِّض حياة الأبناء لهزات نفسية تؤثر سلبًا على اندماجهم في محيطهم الاجتماعي، وتفاعلهم الإيجابي مع مكوناته، ولعل أهمها الصدام الناشيء عن حرص بعض الآباء على الانفراد بتحديد المسار الذي يتوخونه لأبنائهم، سواء ما تعلق بالدراسة أو الحياة العملية، فالخوف من المستقبل، والشعور المتزايد بعدم الثقة تجاه ما تبديه الحكومات من وعود وتطمينات، يستحث الأسر للمسارعة بضمان مقعد للأبناء في سوق الشغل بشتى الوسائل، حتى لو تطلب الأمر الوقوع في الحرام واقتراف المعاصي.
إننا نتابع اليوم، بغير قليل من الحسرة، سعيًا جارفًا من لدن الآباء لتمكين أبنائهم من اجتياز امتحان، أو الحصول على وظيفة أو شهادة عليا بأساليب ملتوية قوامها المحسوبية والرشوة، وردم كل معايير المساواة والكفاءة والاستحقاق، كما تطالعنا وسائل الإعلام بين الفينة والأخرى بوقائع وأحداث ترخي بظلال قاتمة على مستقبل الأسرة المسلمة، فحين ينفرد الأب بالتخطيط للمستقبل المهني لابنه رغمًا عن أنفه..
وحين يسعى آخر لتوريث منصبه أو وظيفته أو حرفته دون أن يولي اعتبارًا لما يطمح إليه الابن أو تصبو إليه الفتاة، فإنما يبذر في الحقيقة أسباب قطيعة محتملة أو عقوق أو جفاء، إذ المفروض في الوالدين بحسب منطوق النص القرآني ومفهومه، أن يأخذا فقط بأسباب الهداية، وأن يقوما بما أوجب الله عليهما من تنشئة صالحة وتربية قويمة، وتلقين للأحكام والعوائد السليمة والقيم، حتى إذا استوى بنيان الابن واشتد عوده، واكتمل نضجه الفكري والسلوكي وجب عليهما أن يُحرراه من سطوتهما ويحملاه على تدبير أمر معاشه بما يتوافق ورغباته، وأن يكتفيا بالمشورة التي لا يستغني عنها عاقل.
بين الحق سبحانه وتعالى أن مشيئته جرت بما لا يتفق ومراد كثير من الآباء، فقال تعالى في شأن إبراهيم وإسحاق عليه السلام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]، كما حذَّر من الحب الذي يبلغ حد الافتتان ويفضي إلى المعصية في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن من الآية:15]، وهو الأمر الذي تنبه له السلف الصالح فكان من دعائهم: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان من الآية:74].
قال الفروي: "كنا نجلس عند مالك بن أنس وابنه يحيى يدخل ويخرج ولا يقعد، فيُقبِل علينا ويقول: إن مما يُهون عليَّ أن هذا الشأن -أي العلم- لا يورث، وأن أحدًا لم يخلف أباه في مجلسه إلا عبد الرحمن بن القاسم، أما ابنه الثاني محمد فكان يحضر مجلس أبيه يلعب بطائر له وقد أرخى سراويله عليه فيلتفت مالك إلى أصحابه ويقول: إنما الأدب أدب الله، وهذا ابني وهذه ابنتي، وقد كانت له بنت تحفظ الموطأ وتحضر مجلس أبيها من وراء باب، فإذا غلط قارئ نقرت الباب نقرًا خفيفًا فيفطن مالك ويُصحِّح له!".
وكان للحافظ ابن الجوزي مفخرة العراق الذي قال فيه الحافظ ابن رجب: "إن مجالسه الوعظية لم يكن لها نظير ولم يُسمع بمثلها، وكانت عظيمة النفع يتذكر بها الغافلون ويتعلم منها الجاهلون، ويتوب فيها المذنبون، ويسلم فيها المشركون"، كان له ابن يقال له أبو القاسم بدر الدين، سار في مبتدأ صباه على خطى والده حتى أنه اشتغل بالوعظ زمنًا ثم تركه، لكنه سرعان ما مال إلى اللهو والخلاعة ومصاحبة المفسدين، فما كان من ابن الجوزي إلا أن ألَّف رسالة نفيسة سمَّاها: (لفتة الكبد إلى نصيحة الولد)، وضمنها نصائح بالغة الحدب والإشفاق والعتاب لفلذة كبده الذي توانى عن طلب العلم واتخذ سبيل المعصية.
إن القارىء لهذه الرسالة يأسره ما يتردَّد بين سطورها من معاني الحب الأبوي الخالص، ومن نبضات قلب يتحرق شوقًا لرجوع ابن عن غيِّه وضلاله، ويبدو أن الرسالة لم تحقق مرادها إذ بلغ من عقوق هذا الابن لأبيه أنه في زمن المحنة التي ابتلي بها أيام الخليفة الناصر كان سيفًا عليه ونكبة موجعة، إذ سطا على كتب أبيه ومصنفاته وباعها بثمن بخس لا يساوي المداد الذي حُبرت به..!
ولما مرض الإمام العز بن عبد السلام وعجز عن مواصلة التدريس بالمدرسة الصالحية، أرسل له السلطان الظاهر بيبرس قائلاً: "عين مناصبك لمن تريد من أولادك"، فقال: "ما فيهم من يصلح، وهذه المدرسة الصالحية تصلح للقاضي تاج الدين"، ففُوضت إليه، وهذا يدل على عدالة الإمام العز وإيثاره الحق على مصلحة أبنائه رغم أن أحدهم، وهو عبد اللطيف، تتلمَّذ على يديه وتميَّز في الفقه والأصول.
وبالمقابل نجد من أئمة السلف وعلمائهم من حرص على أن ينال أبناؤه قسطًا وافرًا من العلم، وأن يهتبلوا كل الفرص للاغتراف من معينه، دون أن يحمله التعلق الزائد بهم على توريثهم مجلسه أومنصبه، فقد كان لأولاد الحافظ الذهبي حظ من العلم، واشتهر بعضهم حتى طلبه أعيان العلماء، ويعود الفضل في ذلك للأب الذي اعتنى بتعليمهم وتدريبهم وإحضارهم معه مجالس العلماء، أو بالقراءة عليهم والتصنيف لهم وإجازتهم.
وعُرف للشافعي ولدان أحدهما محمد أبو عثمان الذي وُلِّيَ قضاء الجزيرة وحلب، وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول له: "إني لأحبك لثلاث خلال: أنك ابن أبي عبد الله، وأنك رجل من قريش، وأنك من أهل السنة"، كما تفرَّق الطب والفقه في أولاد ابن رشد الفيلسوف ونبغوا فيهما حتى وُلِّيَ بعضهم القضاء في الأندلس وصار ابنه الثاني عبد الله طبيبًا للخليفة الناصر الموحدي.
إن مما يسترعي الانتباه في علاقة السلف الصالح بالأبناء.. هو حرصهم على انتظام جهدهم الفردي في عقد المجتمع المسلم، بمعنى الأخذ بأسباب التربية والتهذيب وتمتين البناء القيمي والمعرفي دون انفلات عن المفاهيم الإسلامية التي يتوجب على الفرد أن يكون صدى ذاتيًا لها على مستوى التصور والممارسة..
قد يقول قائل بأن النماذج الواردة أعلاه تبدو مثالية إذا قيست بحجم التردي وأشكال الانحراف التي يضج بها المجتمع المعاصر، لكن الحقيقة أنها نماذج بشرية واقعية وقابلة للتحقق كلما استجابت النفوس لما يُسمِّيه الأستاذ محمد قطب رحمه الله بـ(هاتف الصعود)، أي تلك المقدرة والطاقة التي أودعها الله في الفطرة البشرية، ووكل بها ترقية الحياة الإنسانية والصعود بها إلى الأمام، مما يجعل كل مسلم ملزمًا ببلوغ حدود الكمال الممكن له بحسب استعداداته وطاقاته واتجاهاته (محمد قطب: منهج التربية الإسلامية. ج1. دار الشروق. القاهرة 1993م. ص: [237]).
في كتابهما المفيد والملهم (كيف يُنشىء الآباء الأكفاء أبناء عظامًا) يستعرض كل من الدكتور آلان وروبرت ديفيدسون ستة قواعد رئيسية تشكل تربية ناجحة للطفل وهي: (التواصل، والتهذيب، وتشجيع التطور الفكري، وغرس احترام الذات، وتعليم القيم، وتنمية المهارات الاجتماعية).
ويؤكدان بعد استعراض قائمة طويلة من الشهادات واللقاءات مع خبراء حقيقيين، على أن: "جوهر التربية الناجحة ليس هو إعداد الأطفال ليصبحوا تلاميذ متفوقين دراسيًا فقط؛ ولكن ليصبحوا أيضًا أبناء ذوي شأن، يمتلكون الثقة بالنفس والحب الحقيقي للحياة، ويتميزون بكونهم اجتماعيين وودودين ومستمتعين باكتساب الخبرات وأسوياء بصورة رائعة"..
إنها المقومات ذاتها التي ينهض عليها المنهج التربوي الإسلامي مع الفرق الواضح في المرامي والغايات، مقومات تحدد الإطار الذي يتحرك بداخله الآباء في علاقتهم بالأبناء حتى لا ينقلب المسعى النبيل إلى كارثة.
- التصنيف: