التوجيه الإسلامي الشامل
منذ 2008-02-23
أصبح الإعلام من أقــوى (الأسلحة) التي تحرص الأمم على امتلاكها، وتتسابق في ميدانها، ووُظِّفَت دراسات علم الـنفــس وعلم الاجتماع وغيرهما من العلوم في خدمة الإعلام، حتى أصبح قادرًا على (صناعة) اهتمامات الفرد، و(صياغة) أفكاره، و(تغيير) سلوكه بما يتفق مع
أصبح الإعلام من أقــوى (الأسلحة) التي تحرص الأمم على امتلاكها، وتتسابق في ميدانها، ووُظِّفَت دراسات علم الـنفــس وعلم الاجتماع وغيرهما من العلوم في خدمة الإعلام، حتى أصبح قادرًا على (صناعة) اهتمامات الفرد، و(صياغة) أفكاره، و(تغيير) سلوكه بما يتفق مع التغيير الاجتماعي المنشود.
ولقـد قـطـع الإعــلام الـجاهلي المعاصر خطوات كبيرة نحو (الإنسان) المسلم حتى أوقعه في أسـره.. وكانت الخطوة التالـيـة لـ (الأسر) هي مـحـاولــة دفــع هذا المسلم في طريق التنكر للإسلام عقيدةً وشريعةً وسلوكًا وحضارة!! وقد توسل الإعلام الجـاهـلـي لـذلـك بوسـائــل كثيرة:
فأمّا حقائق الإسلام، فـقـد كـانـت طـريقـتـه في عـرضهـا هي (العرض اللاهوتي) أو التراثي المتخفي، حتى أصبح أكثر المسلمين لا يفهم من كلمة الإســلام إلاّ مـا يفهـمـه الأوروبي من كلمة "Religion" إذا ذكرت أمامه، فلا يزيد الإسلام في حسه عن بضعة طقـوس وشعائر لا علاقة لها بشأن من شئون الحياة!!
وأمـّـا الأفكار التي يقوم بنشرها، فلا تجد بينها غذاءً فكريًا جيدًا، بل أكثرها من نوعية الأفـكـار التي يمكـن أن نطلق عليها (العَلَف الفكري)، فهي أفكار "تدعو الفرد المسلم، إمّا إلى الانصراف إلى قضاياه اليومية الخاصة التي تدور حول الغذاء والكساء والمأوى، وإمّا إلى الاغتراب الحضاري والجـغـرافـي، والهجــرة إلى خارج الوطن الأم والانضمام - بإعجاب وولاء - إلـى المجتمعات (الاستعمارية).. وإمّا إلـى الانـحـلال الاجـتـمـاعـي والانـحـراف والانغماس في تيار الجنوح والانحراف" [1].
وأمّـا الأخلاق الـتـي ينشـرهــا الإعلام الجاهلي فهي أخلاق (الفضائح الاجتماعية)، "فمن إدمان للخمر، إلى نوادي القمار، إلى دور البغاء العلني والسري، إلى الخلاعة على شواطئ الـبـحـار والأنهـار وأحـواض السـباحة والاستعراضات الرياضية المختلطة، إلـى تسـهـيـل الإغراءات في الملابس وتشجيع دورهـا ومحلاتها وصحفها وحفلات عرضها.. إلى آخر تلك الفضائح الأخلاقية التي قتلت الرجولة والشهامة والمروءة والاستقامة وروح الجهاد والكفاح في الحياة لدى الأجيال المسلمة..." [2].
وأمّـا فـي نطــاق قدرة الفرد على التغيير ومجابهة التحديات، فقد أكد هذا الإعلام على ترسيخ اعتقاد المسلم بأنّه غير قادر على فعل أي شيء في مواجهة الواقع، وأنّ الاستسلام لما هو كائن هو (التصرف الواقعي)!
ولا شـك أنّ الـعـمـل الإسـلامـي لا يملك في مواجهة هذا الإعلام إلاّ سلاح الدعوة والبيان، ولكن شمول الخلل الذي أحدثــه الإعـلام الـجـاهـلـي في الأمة يحتم على العمل الإسلامي أمرين:
الأول: "لم يعد يكفي الاعتماد على الجانب العقدي وحده أو التشريعي وحده أو السلوكي وحده، لمجابهة الأزمات الحضارية والانـتـكـاســات الفـردية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع الإسلامي. بل لا بد أن تمشي الخطوط الثلاثة متكـامـلـة متوازنة متعانقة لمعالجة السقـوط الـعـقـائـدي والاجتماعي والأخلاقي فيه، تمهيدًا لإحداث التـغـيـيـر الإسـلامـي المنتظر"[3]، وهـذا يعـنـي أن يكـون (الخطاب الإسلامي) [4] خطاباً شاملاً، يكشف الحق الملتبس، ويبينه للأمــة فـي صــورة بلاغ مبين، ثم ينتقل بالدعوة من مرحلة المبادئ إلى مرحلة البرامج، فيقدم (المشروع الحضاري الإسلامي) الذي يكون بديلًا للمشروع العلماني.
الثاني: لا بد من تجنب الإســـراف في استخدام الكلمة والبيان، بحيث لا تكون الكلمة مجرد صورة بيانية ترف في الهواء، أو مجرد كمية من المداد على صفحة من الورق، بل لا بد أن تكون الكلمة (فعالة) تبث أفكارًا لها كثافة الواقع ووزنه، بما تدفع إليه من نشاط وحركة في طريق التغيير [5].
وأمّا في موضوع الأخلاق والقيم، فـإنّ الـتـوجـيـه الإسـلامـي لا يقـدمـهـا كعدد من الفضائل المبعثرة، كل على حدة، كالصدق والأمانة والعفة والوفاء.. إلخ.. إنّما يقـدمـهـا كـمـا هـي على الحقيقة "نظام متكامل لحياة شاملة، نظام يوجه ويضبط كل النشاط الإنساني في شتى جوانب الحياة.. فالصدق خلق، ومثله الجهاد في سبيل الله لتحرير البشر من العبودية لسواه. والأمانـة خلق، ومثلها عمارة الأرض وتنمية الحياة وترقيتها في حدود ما شرع الله ابتغاء رضوان الله. والعفة خلق، ومثلها تطهير عقول النّاس من الوهم والخرافة والضلال. والوفاء خلق، ومثله القيام على حدود الله، والإيـجـابـيـة وعــدم السـلـبـيـة فـي حـيـــاة الجماعة..." [6].
وهكذا.. لا يهـتـم الـتـوجـيـه الإسـلامي بالأخلاق من الناحية الفلسفية، بل من الناحية الاجتماعية، ومـدى مـسـاهـمـة الـخـلق في إيجاد (قوة التماسك) اللازمة في أمة تريد إقامة حضارة على أساس من الإسلام الحق.. الإسلام المتحرك في العقول، والسلوك، والمنبعث في صورة (إسلام اجتماعي).
وأمّــا الأفـكـار، فــإنّ التوجيه الإسلامي الشامل يركز على أنّ فقدان (الرسالة) التي قامت عليها الأمة، وضـيـاع (الغاية) التي بُعِثت من أجلها يؤديان إلى انهيار الأمة وهلاكها "وأنّ أمانة (الرسالة) تفــرض على الـمـسـلمين أن يكون كل منهم على ثغرة من ثغور الإسلام فلا يؤتين من قبله، وأمّا القاعدون من المسلمين الذين يظنون أنّهم بأخلاقهم وصلاتهم وصيامهم يؤدون واجبهم تـجـاه أمـتهـم ويحملون رسالتها، فليعلموا أنّه لا يصلح لهذا الدين إلاّ من أحاطه من جميع جوانبه، وأنــّه لـن ينتـصـر آخــر هــذه الأمة إلاّ بما انتصر به أولها أي بالإيمان والجهاد والتضحية والثبات" [7].
وأمّا قدرة الفرد علـى التغيير، فــإنّ التوجيه الإسلامي الشامل يقوم على تعميق الإحساس بضــرورة الـتـغـيـيـر مع بث الثقة في أفراد الأمة وقدراتهم وإمكاناتهم التي تؤهلهم لحمل مسئولية التغيير، وذلك عبر إشعار جماهير الأمة بالوضع السيء الذي تعيشه أمتهم، وإثارة تطلعاتهم إلى تغيير الواقع الذي يستهدف حريتهم، وحضارتهم، بل ولقمة عيشهم!! ومن ثم حشد طاقات جماهـيـر الأمة جميعًا لتصب في حركة تغييرية تسير بصورة تدريجية وتصاعدية حتى تبلغ ذروة أهــدافهـا بإخراج جماهير الأمة من العبودية التي تؤلمها وتحز في صدورها، إلى الحرية التي لا تـتـحـقـــق فـي ظــل منهج من المناهج كما تتحقق في ظل الإسلام.
وهكذا هو التوجيه الإسلامي الشامل.. يطرح الإسلام كمعادلة فكرية وسياسية واقتصادية وأخلاقية، وذلك في مواجهة المعادلة العلمانية التي تريد إبعاد الأمة الإسلامية عن خط الإسلام لتقربها إلى خط الكفر!
إنّ الكثير من المسلمين يبحثون عن الطريق إلى الخروج من التبعية الذليلة، ومن هنا فلا بد أن يقدّم لهم التوجيه الإسلامي البديل النظري والواقعي للخروج من هذه التبعية، ويزيل من أنفسهم أسباب العجز والتخلف، ويبعث فيها روح الأمل والثقة في القدرة على التغيير والخروج من التبعية إلى الريادة.
إنّ في الأمة الإسلامية "طاقات وقوى لم تستخدم، لأنّنا لا نعرف كـيـــف نكتلها، وهناك ملايين من السواعد والعقول المفكرة صالحة لأن تشارك في التغيير، والـمـهـم هــو أن نعرف كيف ندير هذا الجهاز الهائل المكون من ملايين السواعد والعقول" [8] لإحداث الـتـغـيـيــر الـمـنـشـــــود. ولا شك أنّه لا سبيل لنا إلى ذلك إلاّ بالتوجيه الإسلامي الذي ينشر الفكرة الإسلامية بين أفراد الأمة، وبقدر شمولية هذه الفكرة سيكون اكتساحها للأفكار الجاهلية المثبطة للـعـزائـم.. وبـقـــدر فعالية الأمة في حمل هذه الفكرة ستكون وقفتها القوية في وجه أعدائها، وسيكون التغيير.
الهوامش:
[1] هكذا ظهر حيل صلاح الدين ـ د. ماجد عرسان الكيلاني ص 303.
[2] المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري ـ د. محسن عبد الحميد ص 33.
[3] المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري ـ د. محسن عبد الحميد ص 99.
[4] تطلق كلمة (خطاب) في علم النفس الاجتماعي على كل نطق أو كتابة تحمل وجهة نظر محددة من المتكلم أو الكاتب، وتهدف إلى التأثير على المستمع أو القارئ.
[5] مستفاد من كتاب: مشكلة الثقافة ـ مالك بن نبي ص 109.
[6] مقومات التصور الإسلامي ـ سيد قطب ص 289.
[7] المعاصرة في إطار الأصالة ـ أنور الجندي ص 53.
[8] مستفاد من كتاب: مشكلة الثقافة - مالك بن نبي ص 64-65.
المصدر: طريق الإسلام
- التصنيف: