{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}
أبو الهيثم محمد درويش
وسط غليان كغليان المرجل تمرُّ به الأمة الإسلامية، ووسط تقاذف وتحامل وانشقاقات بين معظم فئات المجتمعات العربية والإسلامية.. يبرز الدواء القرآني بتعاطي العفو بين المسلمين.. كصفة محبَّبة يتصَّف بها من يريدون الفوز بما أعدّ الله لعباده المتقين...
- التصنيفات: تربية النفس - محاسن الأخلاق -
وسط غليان كغليان المرجل تمرُّ به الأمة الإسلامية، ووسط تقاذف وتحامل وانشقاقات بين معظم فئات المجتمعات العربية والإسلامية.. يبرز الدواء القرآني بتعاطي العفو بين المسلمين.. كصفة محبَّبة يتصَّف بها من يريدون الفوز بما أعدّ الله لعباده المتقين.
قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ ُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133-134].
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} "أي: لا يُعمِلون غضبهم في النَّاس، بل يكفُّون عنهم شرَّهم، ويحتسبون ذلك عند الله عزَّ وجلَّ. ثمَّ قال تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} أي: مع كفِّ الشَّرِّ يعفون عمَّن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم مَوجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فهذا مِن مقامات الإحسان" (تفسير ابن كثير، ص: [2/122])..
وقال عزَّ وجلَّ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
قال ابن كثير: قال الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {خُذِ الْعَفْوَ}: أنفق الفضل".
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: "الفضل".
ويشهد له ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم جميعًا: "حدثنا يونس حدثنا سفيان -هو ابن عيينة- عن أمي قال: لما أنزل الله، عز وجل، على نبيه صلى الله عليه وسلم: "{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »، قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك".
وقال البخاري قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} "العُرْفِ: المعروف. حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدِمَ عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحُر بن قيس -وكان من النفر الذين يدنيهم عمر- وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته -كُهولًا كانوا أو شبابًا- فقال عيينة لابن أخيه: يابن أخي، لك وجهٌ عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحُر لعيينة، فأذن له عمر رضي الله عنه فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تُعطينا الجزل، ولا تَحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ أن يُوقِع به، فقال له الحُر: يا أمير المؤمنين، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله، عز وجل" (انفرد بإخراجه البخاري).
وقال ابن أبي حاتم: "حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الله بن نافع؛ أن سالم بن عبد الله بن عمر مرَّ على عِيرٍ لأهل الشام وفيها جرس، فقال: إن هذا منهيٌ عنه، فقالوا: نحن أعلم بهذا منك، إنما يكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به. فسكت سالم وقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}".
وقال ابن كثير أيضًا: وقول البخاري: "العرف: المعروف؛ نص عليه عروة بن الزبير، والسدي، وقتادة، وابن جرير، وغير واحد. وحكى ابن جرير أنه يقال: أوليته عرفًا، وعارِفًا، وعارفةً، كل ذلك بمعنى: (المعروف). قال: وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وبالإعراض عن الجاهلين، وذلك وإن كان أمرًا لنبيه صلى الله عليه وسلم.. فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم، لا بالإعراض عمَّن جهل الحق الواجب من حق الله، ولا بالصفح عمَّن كفر بالله وجهل وحدانيته، وهو للمسلمين حرب".
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قال: "هذه أخلاق أمر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ودلَّه عليها".
وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى، فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال:
خذ العفو وأمر بعرفٍ كما *** أُمِرتَ وأعرض عن الجاهلين
ولِنْ في الكلام لكل الأنام *** فمستحسن من ذوي الجاه لين
وقال بعض العلماء: "الناس رجلان: فرجل مُحسِن، فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تُكلِّفه فوق طاقته ولا ما يُحرِجه. وإما مُسيء، فمُره بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله، واستعصى عليك، واستمر في جهله.. فأعرض عنه، فلعل ذلك أن يرد كيده، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ . وَقُلْ رّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشّياطِينِ . وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:96-98].