كن صحابيًا - (8) الصحابة والجنة

منذ 2014-05-02

كثير من العلماء الكبار، والدعاة الأفاضل، عندما يتحدثون عن الجنة تشعر في كلامهم، وكأنهم يتحدثون عن شيءٍ نظري، ولا تشعر في كلامهم بالأحاسيس التي كان يعيشها الصحابي، ويستشعرها عند حديثه، أو سماعه عن الجنة..

كيف فهم الصحابة حقيقة الجنة؟ وكيف كان تعاملهم مع هذه القضية؟
إننا عندما ندرس حياة الصحابة نجد أن تفاعلهم مع قضية الجنة يختلف كثيرًا عن تفاعل معظم اللاحقين بعد ذلك مع هذه القضية، اختلافًا ضخمًا للغاية، وأعتقد أن هذا الاختلاف كان سببًا رئيسًا من الأسباب التي جعلت جيل الصحابة يصل إلى ما وصل إليه من هذه الدرجة السامية الرفيعة من الأخلاق، ومن الاعتقاد في الله عز وجل، ومن العمل في سبيل الله عز وجل، فكانت الجنة هي النقطة المحورية في حياة كل صحابي.

كثير من العلماء الكبار، والدعاة الأفاضل، عندما يتحدثون عن الجنة تشعر في كلامهم، وكأنهم يتحدثون عن شيءٍ نظري، ولا تشعر في كلامهم بالأحاسيس التي كان يعيشها الصحابي، ويستشعرها عند حديثه، أو سماعه عن الجنة، فالصحابي، وإن كان بسيطًا في عمله، أو قليلًا في معلوماته، إلا أنه عندما كان يعرف معلومةً واحدة عن الجنة يظل يتعايش معها إلى أن يلقى الله، حتى، ولو كان أعرابيًا بسيطًا، حتى ولو لم تكن لغته من القوة، كلغة كبار الصحابة، لكنه -سبحان الله- كان يتأثر بالجنة تأثرًا قويًا.

أنا أعتقد أن هذا الأمر يُعدّ فارقًا جوهريًا، لذا أتمنى أن ينتبه كل قارئ لهذه الكلمات، وأن يعيش مع هذه المعاني، ويتعايش معها معايشة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

الجنة في عين الصحابة:
إننا حين تصبح الآخرة في أعيننا كما كانت في أعين الصحابة رضي الله عنهم، ستتغير بلا شك مناهجنا في الحياة، وسنفكر بطريقة أخرى غير الطريقة التي نفكر بها، وسنرتّب أولوياتنا بطريقة أخرى، سنشعر بالسعادة بطريقة مختلفة، ولأشياء ليست كالتي نسعد لها الآن، وسنحزن أيضًا بطريقة مختلفة، وعلى أشياء ليست كالأشياء التي نحزن عليها الآن.

وأتساءل: كم منا يحزن إذا فاتته تكبيرة الإحرام في المسجد حزنًا يقعده في الفراش، كما كان يحدث مع بعض الصحابة رضي الله عنهم؟ كم منا يحزن إذا فاته قيام الليل؟ بل أتساءل: كم منا يحزن إذا فاتته صلاة الفجر التي هي أحد الفروض؟ وظلّ لأجل هذا حزينًا طوال اليوم لأن صلاةً مفروضةً عليه قد فاتته، ولم يصلّها في وقتها؟
كم تحزن إن وجدت صديقًا لك بعيدًا عن الله، لم يهده الله بعد، وأنت تحبه كثيرًا، وتراه ضالًا عن الطريق؟ فهل تحزن عليه حزنًا حقيقيًا أم أن هذا الأمر لا يعنيك كسائر الناس؟

كم منا يحزن إذا فاتته معركة، أو فاته جهاد في سبيل الله؟ هل من يأخذ إعفاء من الجيش يقابل هذا الأمر بالحزن أم يقابله بالفرح؟ كم منا يحزن على فلسطين، وعلى العراق، وعلى كشمير، وعلى الشيشان، وعلى الصومال، وعلى السودان، وعلى غيرها؟ إننا لو استشعرنا جيدًا معنى الجنة والنار كما كان يفعل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، لتغير كل شيءٍ في حياتنا تغيرًا شاملًا، وكاملًا، وتغيرت منظومة حياتنا بأكملها، تعالوا بنا نرى كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم يفكرون في الجنة؟

كيف كانوا يعيشون في الجنة، وهم ما زالوا على الأرض؟
تعالوا لنرى ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الموقف يهزني من الأعماق كلما قرأته أو سمعته، وأقف مذهولًا أمام هذا العملاق ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه، مع أن الكثير منا لا يسمع عن هذا الصحابي الجليل ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، شاب صغير في السن لا يتجاوز الثامنة عشر من العمر، وهو من أهل الصفّة، فهو رضي الله عنه وأرضاه شاب صغير، خبرته في الحياة ليست طويلة، ليس كأبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو عليّ، وليس من كبار الصحابة الذين نسمع عنهم كثيرًا، بل هو من عوام الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

ومع هذا أيضًا فهو من أهل الصفة، أي أنه من الفقراء المعدمين الذين لا مأوى لهم إلا المسجد، فهم مقيمون في المسجد، وينفق عليهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة، فهو فقير للغاية، لا يجد ما يأكله أو ما يشربه في يومه وليلته، فضلًا عن أن يوفر يومًا أو يومين أو ثلاثة، وبالطبع فهو ليس متزوجًا ولا يملك بيتًا.
فلو أنك في مثل هذه الظروف والأحوال، ماذا كنت تتمنى؟ تخيّل كم من الأحلام، والآمال، والأمنيات من الممكن أن تكون عند هذا الإنسان؟

تخيل هذا جيدًا، وتعالى معي لنطالع هذه القصة التي جاءت في صحيح مسلم وعند الإمام أحمد رحمهم الله جميعًا، يحكي ربيعة بن كعب الأسلمي عن نفسه فيقول: "كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجِهِ نَهَارِي أَجْمَعَ، حَتَّى يُصَلِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَأَجْلِسَ بِبَابِهِ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ"، فهو رضي الله عنه طوال اليوم يعمل في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء دخل بيته، فاليوم في المدينة المنورة ينتهي مع صلاة العشاء، والكل ينام في هذا الوقت؛ ليبدأ اليوم الجديد بصورته الطبيعية بقيام الليل، ثم صلاة الفجر، وهكذا، ولكنه رضي الله عنه كان يجلس بعد العشاء بباب النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا؟

أ"َقُولُ لَعَلَّهَا أَنْ تَحْدُثَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَةٌ"، فهو رضي الله عنه وأرضاه يتفاني في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: "فَمَا أَزَالُ أَسْمَعُهُ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ«: سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، حَتَّى أَمَلَّ، فَأَرْجِعَ، أَوْ تَغْلِبَنِي عَيْنِي، فَأَرْقُدَ»، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذكرٍ دائمٍ لله عز وجل، ويظل ربيعة رضي الله عنه يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، وبصورة مستمرة حتى يملّ، أو يرقد مكانه، إذا غلبه النعاس، وعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا التفاني منه في خدمته قال له كلمةً تدلّ على مدى إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم به، قَال: "فَقَالَ لِي يَوْمًا لِمَا يَرَى مِنْ خِفَّتِي لَهُ، وَخِدْمَتِي إِيَّاهُ: «سَلْنِي يَا رَبِيعَةُ أُعْطِكَ»، تخيل نفسك في موقف ربيعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رئيس المدينة المنورة، ورئيس الدولة، بل هو فوق هذا كله رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول له: «سَلْنِي يَا رَبِيعَةُ أُعْطِكَ».

هكذا يقول، وربيعة رضي الله عنه فقير جدًا، وفي أمسّ الحاجة إلى أي شيءٍ من الدنيا، فهو لا يجد بيتًا يأويه ولا يجد ما يتزوج به، بل لا يجد ما يأكله، أو يشربه، أو يلبسه، وهو في هذا الحال يجد من يقول له: «سَلْنِي يَا رَبِيعَةُ أُعْطِكَ»، وليس أي أحد، إنه الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، ويستطيع أن يلبي له طلبه، وأن يأتي له بكل ما يريده، وتعالوا بنا نرى ما هو ردّ فعل سيدنا ربيعة أمام هذا العرض المغري جدًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: «فَقُلْتُ: أَنْظُرُ فِي أَمْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ أُعْلِمُكَ ذَلِكَ».

تصور حال ربيعة بن كعب من ناحية الإمكانيات المادية، ومن ناحية الوضع الاجتماعي في المدينة المنورة، لنرى كيف يفكر هذا الرجل، قَالَ: «فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي، فَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ زَائِلَةٌ، وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَكْفِينِي، وَيَأْتِينِي، قَالَ: فَقُلْتُ: أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآخِرَتِي، فَإِنَّهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ بِهِ».

فربيعة رضي الله عنه وأرضاه مع صغر سنه، إلا أنه يفهم حقيقة الدنيا جيدًا، ويعلم أن ما كتبه الله عزّ وجل له من الدنيا من مأكل، أو مشرب، أو مسكن، أو زوجة، أوغير ذلك، فهو لا بدّ آتيه، فلماذ لا يسأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم ما هو صعب على كل مؤمن، ومؤمنة من أمور الآخرة، قَالَ: "فَجِئْتُ، فَقَالَ: "«مَا فَعَلْتَ يَا رَبِيعَةُ؟»، فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْأَلُكَ أَنْ تَشْفَعَ لِي إِلَى رَبِّكَ، فَيُعْتِقَنِي مِنَ النَّارِ"، وفي رواية مسلم: "أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ".

إنه رضي الله عنه يعرف من أين تُؤكل الكتف، فهو رضي الله عنه لا يريد الجنة فحسب، بل يريد الفردوس الأعلى، بل يريد مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى درجة في الجنة، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم انبهر بهذا الكلام الرائع، أي ورع هذا، وأي تقوى هذه، وأي صلاح، وأي فقه اتّسم به هذا الشاب الصغير،قَالَ: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا يَا رَبِيعَةُ؟».

قَالَ: فَقُلْتُ: "لَا وَاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكِ بِالْحَقِّ مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ: سَلْنِي أُعْطِكَ، وَكُنْتَ مِنْ اللَّهِ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ، نَظَرْتُ فِي أَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وَزَائِلَةٌ وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَأْتِينِي، فَقُلْتُ أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآخِرَتِي، فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلًا"، يفكر صلى الله عليه وسلم في هذا الكلام العظيم الذي نطق به هذا الشاب الصغير الذي لم يصل بعد إلى العشرين من عمره، "ثُمَّ قَالَ لِي: «إِنِّي فَاعِلٌ»".

ما أسعدك إذًا يا ربيعة بهذا الأمر الرائع، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مستجاب الدعاء يدعو لك بمرافقته في الجنة، ولكن لا بد من بذل الجهد أيضًا من جانب ربيعة حتى يحظى بهذه الدرجة العظيمة، فيوجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر بقوله: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».

وتعالوا بنا نقف مع هذه القصة العظيمة وقفة أخرى.
ماذا لو طلب ربيعة رضي الله عنه مالًا، أو بيتًا، أو زوجةً، أو طعامًا، أهذا حرام؟
وهل لو سألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الجنةَ، والمرافقةَ في أعلى الدرجات، والشفاعةَ، والعتقَ من النار، ثم سأل إلى جوار ذلك جزءًا من الدنيا الحلال، هل هذا خطأ؟ في الواقع، هذا ليس بخطأ على الإطلاق، لكن ربيعة رضي الله عنه لا يتكلف في طلبه، فالجنة قد ملأت عليه قلبه وحياته بأكملها، فما عاد يفكر إلا فيها.

لو قلت لإنسان مثلا كم تطلب من المال؟ فقال لك: أطلب مليون دولار، ثم قلت له: وماذا أيضًا؟ فقال لك: وخمسة جنيهات، ماذا تساوي الخمسة جنيهات بجانب المليون دولار؟ لا شيء، فكذلك الحال، وبهذا المنطق فكّر ربيعة رضي الله عنه، فهو لا يشغله شيء إذا حصل على هذا الفوز العظيم بالجنة، لا يعنيه أن يكون له بيت أو زوجة أو دابة، فمنتهى آمال حياته أن يدخل الجنة، وهو لا يفكر في أي شيء آخر، ولا يتكلّف، وهو مشغول بالفعل بأمر الجنة ونعيمها، وما فيها من متاع دائم.

وقد كان كل ما يشغل ربيعة رضي الله عنه، هو أن يعيش في خدمة الله عز وجل، وخدمة دينه، ونبيه صلى الله عليه وسلم، كم منا سمع اسم هذا الصحابي؟ وكم منا يعرف حياته؟ إنه قدوة من قدوات الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

وموقف آخر:
يروي أنس بن مالك رضي الله عنه في أحداث عزوة بدر كما في صحيح مسلم وعند الإمام أحمد يقول: "فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، كم مرة سمعنا: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، لكن عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه سمع الكلمات، وتدبر فيها جيدًا، جنة عرضها السموات والأرض، هذا شيء ضخم جدًا، شيء مهول، وكأنه رضي الله عنه يسمع هذا الكلام للمرة الأولى، قَالَ: "يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ".

حجم مهول جدًا، وضخم جدًا، فكل ما نراه إنما هو السماء الدنيا، فما بالنا بالسموات السبع، قال صلى الله عليه وسلم كلمةً واحدةً فقط قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: "بَخٍ بَخٍ"، وهي كلمة تطلق لتعظيم الأمر، وتفخيمه في الخير، وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عمير غير مصدق بهذا الكلام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ»، قَالَ: "لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا"، فلما وجد الرسول صلى الله عليه وسلم الصدق في وجه عمير قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، وهذا ما كان يعيش له عمير، وما كان يتمناه، وما كان يرجوه، وقد علم رضي الله عنه بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم له أنه من أهل الجنة، ولا يمنعه من دخولها إلا أن يموت ويفارق الدنيا.

"فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ -أي الوعاء الذي يحمل فيه الزاد- فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ"، لأن عشت دقيقة أو اثنين أو ثلاثة آكل فيها هذه التمرات فهذه حياة طويلة، إنه بالفعل كان يعيش في الجنة، ولم يكن رضي الله عنه ليتكلف هذا الأمر أو هذا الكلام، إنه بالفعل صادق في كل ما يقوله، وهو يعرف أنه بمجرد موته سيكون قبره روضة من رياض الجنة، ثم يكون النعيم الكبير، والدائم في جنة الخلد، قَالَ: "فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ"، نال رضي الله عنه الأمنية التي كان يتمناها، في حين نرى الكثير من الناس يتمنى أن يكتب له عمر ثانٍ، ويتمنى أن يعيش السنين الطوال، ويطول الأمل، أما عمير رضي الله عنه، فكان يتمنى صادقًا أن يموت، وقد صدق الله فصدقه الله.

الجنة وبيعة العقبة الأولى:
في مسند الإمام أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: "كُنْتُ فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، وَكُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ الْحَرْبُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِهِ بَيْنَ أَيْدِينَا، وَأَرْجُلِنَا وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ"، هذه ستة شروط يشترطها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وهم في بداية إسلامهم، فما هو الثمن إذًا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَكُمْ»، ومع كل هذه الشروط الصعبة لم يتخلف أحد منهم عن الوفاء بكل هذه الشروط، ذلك لأن الثمن هو الجنة.

أما بيعة العقبة الثانية، فكانت أصعب من الأولى، ففي مسند الإمام أحمد عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: "قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «تُبَايِعُونِي»، ونعرض عناصر هذه البيعة بشيءٍ من التفصيل..

أولًا: «عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ».
الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن هؤلاء الذين يبايعونه هم من تُبني عليهم الأمة، وهم من سيحملون لواء الدعوة، فبيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم في وضوح تام ما يجب عليهم من تبعات عظيمة أولها: السمع والطاعة، ليس هذا فحسب، بل السمع والطاعة في النشاط والكسل.

ربما يكون الإنسان متحمسًا للعمل، والدعوة في أثناء نشاطه، واندفاعه، لكن ينبغي السمع والطاعة أيضًا في حال ما إذا كان الإنسان أيضًا في حالة كسل وخمول، ربما يعود الإنسان من عمله مرهقًا، ومتعبًا، ومع هذا، ومن باب السمع والطاعة ينبغي أن يصلي في المسجد جماعة، ربما يكون عندك في بعض الأوقات حميّة للجهاد في سبيل الله، وفي أوقات أخرى ينتابك الفتور، والكسل، وهذا ليس مبررًا لعدم الطاعة، فمن استطاع أن يسمع ويطيع في النشاط والكسل، كان جديرًا بحمل الراية، وعلى هذا ربّى النبي صلى الله عليه وسلم الجيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

ثانيًا: «وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ».
الإنفاق حال اليسر لا بأس به، أما الإنفاق حال العسر والحاجة والفقر، فشيءٌ صعب، لكن النبي صلى الله عليهم وسلم اشترط ذلك عليهم أيضًا.

ثالثُا: «وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ».
وهذا الأمر أيضًا من الأمور الصعبة على النفوس.

رابعًا: «وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا-وفي رواية: وعلى أن تقوموا- فِي اللَّهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ».
أيضًا هذا الشرط في منتهى الصعوبة، فكم تكون المواجهة شديدة أمام الدعاة! لكن على كل حال لا يكون هذا مبررًا لأن يقف الدعاة عن العمل لله والدعوة إليه.

خامسًا: «وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، وَأَزْوَاجَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ».
فهذه هي الشروط الخمسة، في منتهى الصعوبة، وهذا لأن الإسلام دين يحتاج إلى مجهود عظيم، وتضحية كبيرة، يحتاج إلى من يريد أن يدفع لا إلى من يريد أن يأخذ، يحتاج إلى من يريد أن يأخذ أجره في الآخرة فقط، ولا يريد شيئًا من الدنيا، بعد كل هذه الشروط والصعوبات الكبيرة، ما هو الأجر؟ وما هو المقابل لكل هذا؟
ما هو الثمن إذا صرفنا حياتنا لله؟ وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة واحدة فقط: «وَلَكُمُ الْجَنَّةُ»، الشروط أكثر من أربعين كلمة، والثمن كلمة واحدة: «الْجَنَّةُ»، ومع هذا كله، فإن من يفِ بهذه الشروط هو الرابح، وإذا عرفت معنى الجنة وقيمتها لن تستكثر ما تدفع من ثمن مهما قدمت، وستكون بلا شك رابحًا.

يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، فَقَالَ:
رُوَيْدًا، يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمْ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً، فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللَّهِ، قَالُوا: يَا أَسْعَدُ بْنَ زُرَارَةَ، أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللَّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ، وَلَا نَسْتَقِيلُهَا، فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ".

ومع أنهم رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا في مرحلة الطفولة في الإسلام، فمنهم من أسلم منذ يوم واحد فقط، ومنهم من أسلم منذ يومين، ومنهم من أسلم منذ شهر، أو شهرين، وأقدمهم إسلامًا من أسلم منذ سنتين، وهم الستة الأوائل من الخزرج، ومع هذا، فكان لديهم من وضوح الرؤية، وعمق الفهم ما ارتفع بهم إلى هذه المنزلة السامية العالية، فهذا هو جيل الصحابة، وهذه هي قيمة الجنة عندهم.

النار في عين الصحابة:
وحتى تبقى الصورة متوازنة، لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يتفاعلون مع قضية الجنة فحسب، بل كانوا يتفاعلون أيضًا مع قضية النار، عبد الله بن رواحة الصحابي الأنصاري العظيم رضي الله عنه وأرضاه لما ودّع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخارجين لسرية مؤتة وسلموا عليهم، بكى عبد الله بن رواحة، فظن الناس أنه يبكي خوفًا من الموت؛ لأنه خارج للجهاد، فقالوا: "ما يبكيك؟"، فقال، وقد شعر في سؤالهم بما ظنوه من كونه يبكي خوفًا من الموت والانقطاع عن الدنيا قال: "أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم".

أي أنه لا يحب الدنيا، ولا يركن إليها وهو أيضًا لا يبكي لأنه ربما يفارقهم، فلا بأس أن يُقتل في سبيل الله، إذًا فما الذي يبكيه، يقول رضي الله عنه: "ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّ} [مريم:71]، ولست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟"، فبكي رضي الله عنه لأنه تذكر هذه الآية، وهو خارج للجهاد، وقد استشهد بالفعل في هذه السرية رضي الله عنه وأرضاه، فعبد الله بن رواحة هذا الصحابي العظيم مع فضله ومنزلته، إلا أنه كان يعيش هذه المعاني العظيمة، كان يعيش قضايا الجنة والنار، ويخاف من النار، وكأنه من أهل المعاصي، أو من أهل النفاق، أو أهل الشرك، مع كونه من أعاظم الصحابة رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

أين نحن من الجنة والنار؟ لا بد إذًا، لا بد لنا من وقفة نتساءل فيها: لماذا لا نتفاعل مع الجنة والنار كما كان يتفاعل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؟ نعم نحن نحب الجنة ونخاف من النار، ولكن هل تملأ قضية الجنة والنار علينا حياتنا كما كانت تملأ على الصحابة حياتهم؟ وهل نعايشها المعايشة التي كان يعايشها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ جلست أفكر في هذه القضية، وقلت لعل الأمر يرجع إلى نقص في معلوماتنا عن الجنة، وما من شك أن من يعرف تفصيلات الجنة يشتاق إليها بصورة أكبر من الذي يعرف الجنة إجمالًا، وأنها شيءٌ جميل وحسب، وأن النار شيءٌ صعب وخطير فقط، وأن من لديه تفصيلات أكثر فمن المؤكد أنه يشعر بالمعاني أكثر.

أقل أهل الجنة منزلة:
تعالوا بنا نسمع عن الجنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تحيرت كثيرًا في اختيار الأحاديث التي تتحدث عن الجنة، مئات من الأحاديث، أو أكثر جاءت في وصف الجنة، اخترت منها حديثًا يذكر أقلّ أهل الجنة نصيبًا، وأقلهم نعيمًا، وكل أهل الجنة أكثر من هذا الرجل ملكًا ونعيمًا.

روى الإمام مسلم بسنده عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ، فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا»، أي أن هذا الرجل بعد أن خرج من النار نظر إليها وإلى هيئتها، وعظمتها، وجبروتها، «فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ، لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ»، فهو يظن أنه لا أحد في مثل ما هو فيه من نعيم النجاة من النار، ولا يعلم أن كثيرًا من المؤمنين يتنعمون في الجنة منذ سنين، وسنين، «فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلِّي إِنَّ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا.، فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ. وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا..

فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا، فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ
»، أي ماذا يقطع مسألتك عني، والمعنى متى تكف عن السؤال؟ «أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا».

انظروا الدنيا الواسعة الضخمة الكبيرة التي تمتلأ بالأملاك والحاجات يُعطاها هذا الرجل الذي هو أقل أهل الجنة منزلة وليست الدنيا فحسب بل وَمِثْلَهَا مَعَهَا، قَالَ: «يَا رَبِّ، أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ»، الرجل ربما لم يصدق بداية ما يُعرض عليه من النعيم، والملك فهو منذ قليل كان ينتقل من شجرة لشجرة، فكيف يكون له الدنيا ومثلها معها؟ ومن ثم يسأل ربه مستوضحًا متعجبًا لهذا العرض العظيم قائلًا: «يَا رَبِّ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ»، فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: "أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَك؟ قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مِنْ ضِحْكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ: «أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ»".

وانظر إلى هذه الزيادة في صحيح مسلم رحمه الله بسنده عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟»، الرجل يظن أن الناس قد استقرّوا في الجنة منذ سنين طوية ولم يبق فيها مكان له، فَيُقَالُ لَهُ: «أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَة: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ، وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ»، هذا الرجل ليس الصديق أبو بكر، أو الفاروق عمر، وليس عثمان بن عفان، أو علي بن أبي طالب، وإنما هو آخر من يدخل الجنة، وأقل أهل الجنة ملكًا، ليس هذا فحسب، بل يُقال له أيضًا: «وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ».

وقد عجب سيدنا موسى عليه السلام من هذا الأمر كثيرًا، فإذا كان هذا ملك أقلّ أهل الجنة منزلة فكم يكون ملك أعلاهم منزلة، فسأل موسى عليه السلام ربّه: «قَالَ: رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»، قَالَ -أي النبي صلى الله عليه وسلم-: «وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}» [السجدة:17].

وأذكر لكم شيئًا ربما يبدو غريبًا، لا تتعجب كثيرًا، لو علمت أن أهل الجنة ربما يكون نصيب الواحد منهم من الجنة بحجم المجموعة الشمسية مثلًا، فكّر معي قليلًا في هذا الأمر، ولا تتعجب من كلامي كثيرًا، مجرة درب التبانة بها أربعمائة ألف مليون مجموعة شمسية مثل مجموعتنا، فإذا كان في الكون مائتي ألف مليون مجرة مثل مجرة درب التبانة، وهذا ما تم اكتشافه حتى الآن، وكلما زادت دقة التليسكوبات، وزادت أبحاث العلماء في هذا المجال كلما اكتشفوا الجديد.. 

على هذا كم يكون عدد المجموعات الشمسية في هذا الكون العظيم؟ بعملية حسابية بسيطة وبضرب عدد المجموعات في عدد المجرات هكذا: (400000000000 × 200000000000) يكون الناتج ثمانية أمامها اثنان وعشرين صفرًا هو عدد المجموعات الشمسية (80000000000000000000000)، وهو رقم هائل وكبير جدًا، وهو بلا شك يفوق أعداد البشر كلهم، فلو أن أهل الأرض جميعًا دخلوا الجنة سيكون عددهم أقل من هذا الرقم.

ومع ذلك فكل هذه المجموعات إنما هي زينة السماء الدنيا، وكل هذه المجرات تحت السماء الدنيا، ونحن لم نصل بعد إلى السماء، ولا أحد يفكر في ذلك، وأحلام العلماء لا ترقى إلى السماء، أحلام العلماء أن يروا مجرات، ومجرات، ومجرات، وكلها تحت السماء الدنيا، فما بالنا بالسموات السبع، وما بالنا والجنة عرضها السموات والأرض، وهذا يعني أن كل ما تحدثنا عنه إنما هو جزء من جزء من جزء بسيط جدًا من الجنة، فليس غريبًا إذًا أن يكون ملك أحدنا في الجنة بحجم المجموعة الشمسية.

ولعلنا عرفنا بهذا الوصف البسيط ماذا تعني الجنة؟ لعلنا عرفنا كيف يكون عرضها السموات والأرض؟ لعلنا عرفنا أيضًا لماذا لم يستطع عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه أن يصبر وقتًا قصيرًا يأكل فيه بعض التمرات؟ وكيف له يصبر على هذا الملك العظيم؟ وهو من السابقين الأولين، ومن المجاهدين في سبيل الله، وممن بذل النفس في سبيل الله تعالى.. أريدكم أن تتخيلوا حجم الجنة، وأن تتخيلوا عرضها السموات والأرض، وكم يصل حجم هذا العرض الهائل.

وإذا كان هذا هو العرض، فكم يكون طولها إذًا؟ في الحقيقة لم يأت حديث صريح يحدد طول الجنة، وإن كان قد ورد من الأحاديث ما تستطيع أن تتخيل من خلاله طول الجنة، روى البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

تخيل المسافة بين الأرض، وبين أبعد كوكب في أبعد مجرة في الكون، هذه المسافة الهائلة أقل حتمًا من المسافة بين السماء والأرض، فنحن لم نصل إلى السماء بعد، تخيل كم سنة ضوئية، بل كم ألف مليون سنة ضوئية بين السماء والأرض، وتخيل أيضًا أن الدرجة الواحدة في الجنة من نصيب المجاهدين تملأ ما بين السماء والأرض، وللمجاهدين وحدهم مائة درجة، فكيف يكون الطول، وكيف يكون العرض؟! هذه هي الجنة يا إخواني.

روى البخاري عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إن فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا»، أي حوالي مائة كيلو متر، أي من القاهرة إلى الفيوم تقريبًا، هذه شقة واحدة في الجنة، ويمكن أن يكون عندك أكثر من شقة بهذا الوصف الرائع والحجم الهائل، «فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الْآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الْمُؤْمِنُون»فهذا هو بيتك في الجنة «خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ»، ولك أيضًا قصر آخر وفيلّا.


وروى البخاري أيضًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا»، أي أن هذه الشجرة من أشجار الجنة يظل الراكب الذي يركب جوادًا سريعًا مضمرًا، أي مجهزًا للجري، يظل يسير مسرعًا في ظل هذه الشجرة مائة عام ما يقطع ظل الشجرة، نحن نتكلم عن شيءٍ عظيم جدًا، نحن نتكلم عن الجنة، كيف إذًا يعيش الناس وكل ما يشغلهم دنياهم، وكيف يتقاتلون على هذه الدنيا.

انظر إلى هذا المستوى العظيم الذي نتحدث عنه، وهذه المساحات الشاسعة، وهذا النعيم الكبير.
كم هي رحمة الله بنا أن يعطينا هذا الملك العظيم الدائم، على أعمال لا تساوي أي شيءٍ في ميزان الله عز وجل يوم القيامة، أعمال بسيطة للغاية، إنّ كل ما تقدمه لا يساوي شيئًا من نصيبك في الجنة، ومهما قدمت من أعمال حتى وإن بذلت المال، والنفس، والجهد، والوقت، هل تكافئ هذا النعيم العظيم؟ إنها رحمة الله عز وجل التي يمنحنا إياها، فكيف نبتعد عنها؟!

روى البخاريُّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «...وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا» -أي ما بين الجنة والأرض، أو ما بين السماء والأرض- «وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا -يَعْنِي الْخِمَارَ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، وقد يكون لك من مثلها واحدة، أو اثنتان، أو ثلاثة، أو أكثر، بل ربما يكون لك اثنتان وسبعون من الحور العين إن كنت من الشهداء في سبيل الله، ومن ثَمّ نعرف كيف كان اشتياق الصحابة للشهادة في سبيل الله؟


إنه في الحقيقة اشتياق للجنة ونعيمها، وأنه سيترك الأرض بكل ما فيها من مشكلات، ومنغّصاتٍ، ويذهب إلى هذا النعيم المقيم، ثم ما هو حال من لم يدخل الجنة، وما هو البديل الذي ينتظره؟ وفي الواقع ليس هناك بدائل أُخرى، إنه بديل واحد (النار) كما قال صلى الله عليه وسلم في أول يومٍ أعلن فيه للناس دعوته قال: «وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ وَلَتُحَاسَبُنَّ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَإِنَّهَا الْجَنَّةُ أَبَدًا أَوِ النَّارُ أَبَدًا»، تُرى ما هو حجم النار؟ وما هو هول النار؟ أهون أهل النار عذابا؟ لقد رأينا نصيب من هو أدنى أهل الجنة منزلة، لنرى أيضًا كيف سيكون حال من هو أقل أهل النار عذابًا.

روى البخاري ومسلم، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه وأرضاه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ»، وفي رواية أخرى: «جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ»، وصرحت بعض الأحاديث أن هذا الرجل الذي هو أهون أهل النار عذابًا، هو أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، هذا أقلهم عذابًا، فكيف بمن هو أكثر منه عذابًا؟ إنه في الواقع شيء مهول جدًا، روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ»،قِيلَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً"، قَالَ: «فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا».


من هنا نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً»، أي يُؤتي بملك ظالم، أو سلطان متكبر، أو حاكم جبار، رجل كان يعيش في نعيم كبير في الدنيا، لكنه من أهل النار، «ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ»، ضاعت يا إخواني متعة المال، ومتعة الملك، ومتعة النساء، ومتعة السلطة، كل هذا ذهب مع هذه الغمسة في الجحيم، لقد نسِيَ كل شيء مما كان يتمتع به غاية التمتع في الدنيا، «وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، فقير معدم معذب مظلوم مبتلى مريض محروم مصاب في ماله وأهله وولده وعمله ووطنه في كل شيء مجروح أو مقتول، فَيُصْبَغُ «صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ».

لماذا إذًا لا ننشغل بالجنة؟ ولماذا لا نخاف من النار؟
إننا عندما نعرف جيدًا، ونتدبر حجم الجنة، وحجم النار، وقيمة الجنة، وخطورة النار، نستطيع أن نفسّر مقولة الصحابي الجليل حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه، هذه الكلمة العجيبة التي أوقفتني أمامها طويلًا أفكر في معناها إنها كلمة في منتهى الغرابة، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لما طعن حرام بن ملحام رضي الله عنه وأرضاه يوم بئر معونة، وفي رواية حتى أنفذه بالرمح"، أي أن الرمح اخترق الظهر وخرج من الصدر، لنتخيل هذا الموقف، ونعيشه جيدًا، هذا في عرف الناس مُنْتهي تمامًا، فقد كل شيء، ولكننا نجده يقول: "الله أكبر، فزت ورب الكعبة".

أي فوز هذا؟! لقد فَقَدَ الرجل حياته في عُرْف الناس، لكنه فاز بالجنة التي تحدثنا عنها منذ قليل، وفاز أيضًا بالنجاة من النار، والتى وصفنا بعضًا منها في السطور الأخيرة، لقد تيقن رضي الله عنه من هذا الفوز، لماذا؟ نفذ الرمح في جسده، وتأكد أنه سينال الشهادة، ويفوز بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسينتقل من أرض المعركة إلى الجنة مباشرة، يغفر للشهيد في أول دفعة من دمه، وهذا ما كان يريده حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه، أن يغفر له في أول دَفعة {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران:185].

فهذا هو الفوز الحقيقي، ولهذا قال رضي الله عنه: "الله أكبر، فزت ورب الكعبة".
ربما نكون لا نعرف كل هذه المعاني العظيمة، ربما لا نعرف الكثير عن الجنة والنار، ينبغي علينا أن نقرأ عن الجنة، ونتعايش مع ما نقرأه عنها، أو نسمعه، وأيضًا ينبغي أن نقرأ عن النار، ونظلّ خائفين من عذابها، ومن هولها، وكأننا قريبين منها، نخاف من النار كخوف عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، والذي ذكرناه قريبًا مع أنه كان خارجًا للجهاد في سبيل الله، قد يقول البعض إنه يعرف كل هذه المعلومات التي ذكرناها، ومع هذا كله فإنه لا ينشغل بالجنة، ولا يفكر في النار.

وأقول: ينبغي أن نعِي جيدًا أن العلم إن لم ينفع صاحبه، فهو كالجهل تمامًا، بل هو أخطر من الجهل، لأنه أصبح حجة على صاحبه، وإذا نظرنا وتدبرنا في أمر المشركين الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجد أنه ما من شك أنهم كانوا على يقين أن محمدًا صلى الله عليه وسلم على حق وأنه الصادق الأمين، وكانوا يعلمون أيضًا أن القرآن الكريم لا يمكن بحال أن يأتي به بشر من عند نفسه، فهو كلام معجز، ويعلمون يقينًا أنه من عند الله، مع هذا كله لم يستمعوا إلى نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، ولم يعملوا بعلمهم، فهل نفعهم العلم؟

الوليد بن المغيرة كان يقول: "لقد نظرت فيما قال الرجل -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإذا هو ليس بشعر، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، وما يقول هذا بشر"، كلام رائع وعظيم، لو لم تعرف قائله ابتداءً لظننت أنه أحد كبار الدعاة، لكن هل نفع هذا العلم صاحبه، لم ينفعه على الإطلاق؛ لأنه لم يعمل به، بل لقد خرج يقاتل الوليد المسلمين في بدر ومات في المعركة.

أبو جهل لعنه الله عندما سُئل عن القرآن: "يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ -صلى الله عليه وسلم- فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا، فأطعمنا، وحملوا، فحملنا، وأعطوا، فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نسمع به أبدًا ولا نصدقه"، فهو يعلم يقينًا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله، ولكن لأنه لن يستطيع أن يكون مثله لن يؤمن به، ومن ثَم لم ينفعه علمه، ويقول عتبة بن ربيعة عن القرآن: "سمعت قولًا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانه، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل، وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله، ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم".

ومع علمه هذا خرج يحارب المسلمين في بدر، وقُتل أيضًا على شركه وكفره، فلم ينفعه علمه.
نحن لا نريد أن نكون مثل هؤلاء، ولا نريد أن تظل حياتنا على ما هي عليه مع ما علمناه عن الجنة والنار.
كيف نعرف قيمة الدنيا، وقيمة الجنة، وخطورة النار، ثم نعيش للدنيا؟ إنها حياة واحدة، طالت، أو قصرت، صعبت، أو تيسرت، عشت فيها حاكمًا، أو محكومًا، غنيًا، أو فقيرًا، ظالمًا، أو مظلومًا، طائعًا، أو عاصيًا، إنها في النهاية حياة واحدة محدودة جدًا، وليس فيها زيادة، أو نقصان، ولن تستطيع بحال أن تأخذ رزق أحد، أو عمرًا إضافيا من أحد.

يا إخواني ويا أخواتي: {..وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].
يا إخواني ويا أخواتي: هلمّوا إلى ربكم، فإن ما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى.
يا إخواني ويا أخواتي: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» (الصحيح المسند:358).

يا إخواني ويا أخواتي: إذا كنتم تريدون الجنة حقًا، فاعلموا أن ثمنها غالٍ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ، والله عز وجل لا يبيع سلعته بثمن بخس، دراهم معدوات، هذا مستحيل، إنما ثمنها الذي يريد سبحانه وتعالى هو النفس والمال وكل شيءٍ: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة:111] .

اللهم اجمع لنا أمرنا، ولا تفرّقه علينا، واجعل غنانا في قلوبنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، واجعل الجنة هي دارنا، ومستقرنا، آمين، آمين، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم، والحمد لله رب العالمين.

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 13
  • 0
  • 30,515
المقال السابق
(7) الصحابة والدنيا
المقال التالي
(9) الصحابة واتباع الرسول

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً