نهي الصحبة عن النزول بالركبة

منذ 2014-05-02

هذا بحث أستلله من كتابي (بذل الإحسان بتقريب سنن النسائي أبي عبد الرحمن) بخصوص خرور المصلي من الركوع إلى السجود، أيكون على اليدين أم على الركبتين ومع أن المسألة ليست بكل ذاك، فإني اضطررت إلى فصلها من الكتاب المشار إليه، ونشرها لمناسبة عرضت.

المقدمة

إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد: فإن اصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها. وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فهذا بحث أستلله من كتابي (بذل الإحسان بتقريب سنن النسائي أبي عبد الرحمن) بخصوص خرور المصلي من الركوع إلى السجود، أيكون على اليدين أم على الركبتين ومع أن المسألة ليست بكل ذاك، فإني اضطررت إلى فصلها من الكتاب المشار إليه، ونشرها لمناسبة عرضت.

ذلك أنني دخلت مسجدًا لأصلي المغرب في نحو العاشر من شهر ذي الحجة سنة 1399 هـ، فلما قضيت الصلاة قعد لفيف من الشباب يتحدثون همسًا، ثم لم يلبثوا إلا قليلًا حتى تحول الهمس إلى معركة كلامية، وتراشق بسهام الملام.

فكان مما سمعته من أحدهم ويظهر من سياق كلامه أنه ممن يقدم الركبتين في النزول وأنه قال: "لا يقدم اليدين على الركبتين في النزول إلا جاهل، وكيف يجرؤ رجل على نقض ما قاله ابن القيم في (زاد المعاد)؟ لقد رجَّح النزول بالركبتين من عشرة أوجه"!
فقال له مخالفه: "كيف تصف المخالف بالجهل وفيهم مثل ابن سيد الناس والحافظ والشيخ الألباني؟"،  فأجابه: "هؤلاء محدثون لا تعلق لهم بالفقه، وبالذات الألباني فإنه هو الذي أحيا هذه المسألة في كتابه (صفة الصلاة)".

ثم دار كلام لا أحب حكايته، فضربت عن ذكره صفحًا، أما محصلته فمحزنة مؤلمة، فقد انتهى شجارهم هذا إلى فاصل رديء من الشتم للعلماء ومنهم ابن القيم والحافظ وكذا الألباني.

فما تركت مقامي حتى تكلمت مع ذلك الشاب النافر بمزيد من الحكمة والموعظة الحسنة فوجدته حديث عهد بمعرفة كتب السلف، فتدرجت معه، وتبين لي أن أقرانه استنفروه، فنفر وأن فيه اندفاعًا غير حميد فكلمته طويلًا فكان مما قلته له: "أما مسألة النزول إلى السجود فلا علاقة لها بالفقه وأصوله إلا من طرف يسير، وإنما تعلقها بالحديث وأصوله أكثر، فأنت تزري على أمثال هؤلاء السادة الأكابر بقولك: "هم محدثون" وكأنها سبة لهم! فبالله عليك ارفق بنفسك ولا تنظر إليهم النظر الشزر ولا ترمقهم بعين النقص ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا، حاشا وكلا، فما منهم من أحد إلا وهو بصير بالدين، عالم بسبيل النجاة.

فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال، إن أعوزك المقال: من المزي؟ ومن العراقي، وأي شيء الذهبي؟ وأي ابن حجر؟ هؤلاء محدثون، ولا يدون الفقه وأصوله ولا يفقهون الرأي ولا علم لهم بالبيان والمعاني والدقائق، ولا خبرة لهم بالبرهان والمنطق، ولا يعرفون الله تعالى بالدليل ولا هم من فقهاء الملة. فأمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك. وابك على ما أخطأت فيه فإن العلم النافع ما جاء إلا عن أمثال هؤلاء، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل. فمن اتقى الله راقب الله واعترف بنقصه.

ومن تكلم بالجاه أو بالجهل فأعرض عنه، وذره في غيه، فإنما عقباه وبال. فرحم الله امرءًا أقبل على شأنه وقصر من لسانه، وأقبل على تلاوة قرآنه وبكى على زمانه وأدمن النظر في الصحيح، وعبد الله قبل أن يبغته الأجل. اللهم فوفق وارحم"[1].

أما كون الواحد منهم أخطأ في مسألة أو أكثر فسم لي أنت من كانت له العصمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا لوم على من درس الأصول، فصوابه مشكور، وخطؤه مغفور، وهو على كل حال مأجور.

إنما اللوم والتوبيخ على الذين لا فقه عندهم ولا تعبوا في تحصيل العلوم ولا النظر فيها إذ يخطئون الأئمة، ويتبعون توهيم بعضهم لبعض في مسائل، فيجمعون ذلك ويحفظونه ثم يلقونه على من لا علم عندهم بل ولا أدب لديهم.

فلا يعرف عن النووي إلا أنه أخطأ في كذا وكذا. فإذا ذكر أمامه قال: وأي شيء النووي؟! لقد أخطأ في كذا وكذا، فهم رجال ونحن رجال!

فيا أخي: راقب الله فيما تقول وترحم على من ذكر منهم وإياك والفتوى من غير علم فكثرة الفتوى من قلة التقوى ولقد كان أبو حصين وهو من أجلة الناس ينكر على أهل زمانه مع علمهم كثرة الفتوى ويقول: "إنكم لتفتون في المسألة التي لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر"! وليكن ديدنك ما فعل أبو مسلم الخولاني فإنه كان يقوم الليل فإذا أدركه الإعياء ضرب رجليه قائلًا: "أنتما أحق بالضرب من دابتي. أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يفوزوا به دوننا، والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلفوا من بعدهم رجالًا".

أما مسألة النزول باليدين أو بالركبتين فلا تبطل الصلاة بالنزول بأحدهما كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه في (الفتاوى الكبرى).

وهذه الرسالة قد استللتها لك خاصة، فانظر لما فيها بعين الاعتبار ثم بادر إلى تحقيق ما فيها إذ هو الصحيح إن شاء الله تعالى. وقد يفوتني الشيء بعد الشيء فيها، وذلك أمر وارد، فإني ما قصدت أن أتقصى ذلك فإنه ليس في مقدوري ولا يسلم الاستقصاء كل الاستقصاء لأحد، ثم إن المسألة ليست بكل ذاك حتى نقيم الدنيا ونقعدها، فإن أمتنا مفككة أوصالها منفصمة عراها فالاختلاف في هذه المسائل الفرعية بهذه الحدة لا يزيد الأمر إلا اشتعالًا، ويجعل خاتمة أمرنا وبالًا فاللهم وفق إلى العلم النافع والعمل الصالح، ويسر ما عسر من أمرنا، وآت هذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. والحمد لله رب العالمين.

وكتبه أبو إسحق الحويني الأثري 
ذو الحجة 1399 هـ.
______________

أختلف الناس في هيئة الخرور إلى السجود أهي على اليدين أم هي على الركبتين؟ والراجح الصحيح في هذا الباب أن النزول إنما هو على اليدين لصحة الأدلة في ذلك ووضوح معناها.

والحجة في هذا الباب هي حديث أبي هريرة رضي الله عنه تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه» (أخرجه أحمد: [2/381]، وأبو داود: [3 /70 عون]، والبخاري في (التاريخ الكبير): [1/1/139]، والنسائي: [2/207]، والطحاوي في (شرح معاني الآثار): [1/254] وفي (المشكل): [1/65-66]، وكذا أخرجه الحازمي في (الاعتبار): ص: [158-159]، والدارقطني: [1/344-345 ]، والبيهقي: [2/99-100]، وابن حزم في (المحلى): [4/128-129]، والبغوي في (شرح السنة) [3/134-135] من طريق الدراوردي ثنا محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا فذكره).

قلت: وإسناده صحيح لا غبار عليه وجود إسناده النووي في (المجموع): [3/421]، ولكن شيخ الإسلام ابن القيم رضي الله عنه أعلَّه في كتابه الفذ (زاد المعاد) بعدة علل، هي عند التحقيق ليست كذلك، فأنا أوردها جملة، ثم أكر عليها بالرد تفصيلًا والله المستعان وعليه التكلان.

قال شيخ الإسلام ابن القيم في (الزاد) [1/57-58] وفي (تهذيب سنن أبي داود) [3/73-75] ما ملخصه:

أولًا: حديث وائل بن حجر رضي الله عنه أثبت من حديث أبي هريرة كما قال ذلك الخطابي. وقد قال فيه الترمذي: "حسن غريب" وقال في حديث أبي هريرة: "غريب" ولم يذكر فيه حسنًا.

ثانيًا: حديث أبي هريرة لعل متنه انقلب على بعض الرواة ولعل صوابه: ((وليضع ركبتيه قبل يديه فإن أوله يخالف آخره. قال: وقد رواه كذلك أبو بكر ابن أبي شيبة فقال: حدثنا محمد بن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل». رواه الأثرم في (سننه) عن أبي بكر كذلك. وقد روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يصدق ذلك ويوافق حديث وائل بن حجر. قال أبي داود: حدثنا يوسف بن عدى حدثنا ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه.

ثالثًا: إن كان حديث أبي هريرة محفوظًا فهو منسوخ بحديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، والذي رواه ابن خزيمة في صحيحه قال: "كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين".

رابعًا: حديث أبي هريرة مضطرب المتن. فإن منهم من يقول: ((وليضع يديه قبل ركبتيه، ومنهم من يقول بالعكس. ومنهم من يقول: وليضع يديه على ركبتيه كما رواه البيهقي.

خامسًا: أن رواة حديث أبي هريرة قد تكلموا فيهم. قال البخاري: "محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه. ولا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا؟"، وقال الدارقطني: "تفرد به الدرواردي عن محمد بن عبد الله المذكور"، وأعلَّه الدارقطني أيضًا بتفرد أصبغ بن الفرج عن الدرواردي.

سادسًا: أن لحديث وائل بن حجر شواهد، أما حديث أبي هريرة فليس له شاهد!

سابعًا: أن ركبة البعير ليست في يده وإن أطلقوا على اللتين في اليدين اسم الركبة فإنما هو على سبيل التغليب! وأن القول بأن ركبة البعير في يده لا يعرفه أهل اللغة.

قلت: هذه كانت جملة المطاعن وهي كما أشرت قبل مطاعن لا تثبت على النقد. والجواب عليها من وجوه مراعيًا الترتيب.

الأول: أن حديث وائل بن حجر حديث ضعيف. فأخرجه أبو داود [3/68-74 عون]، والنسائي [2/206-207]، وابن ماجة [1/287]، والدرامي [1/245]، والطحاوي في (شرح المعاني) [1/255]، والدارقطني [1/345]، والحاكم في (المستدرك) [1/226]، وابن حبان [487]، والبيهقي [2/98]، والبغوي في (شرح السنة) [3/133]، والحازمي في (الاعتبار) ص: [160-161] من طريق شريك النخعي عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه". قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب. لا نعرف أحدًا رواه مثل هذا عن شريك". وتبعه البغوي فقال: "حديث حسن" وكذا الحازمي. وقال الدارقطني: "تفرد به يزيد بن هارون عن شريك ولم يحدث به عن عاصم بن كليب غير شريك. وشريك ليس بالقوي فيما تفرد به". وقال البيهقي [2/101]: "إسناده ضعيف". وقال أيضًا: "هذا حديث يعد في أفراد شريك القاضي وإنما تابعه همام من هذا الوجه مرسلًا. وهكذا ذكره البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين رحمهم الله تعالى". وقال ابن العربي في (عارضة الأحوذي) [2/68-69]: "حديث غريب".

قلت: وهذا القول منهم هو الذي تطمئن إليه نفس المرء المنصف. فإنه لا يعلم بتة لشريك متابع عليه إلا همام. ومع ذلك فقد خالفه في إسناده كما يأتي بيانه إن شاء الله. وشريك كان سيئ الحفظ. وسيئ الحفظ لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف! قال إبراهيم بن سعد الجوهري: "أخطأ شريك في أربعمائة حديث"، وقال النسائي: "ليس بالقوي" وضعفه يحيى بن سعيد جدًا. وعليه فقول الترمذي: "حديث حسن" غير حسن. وأشد منه قول الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" وإن وافقه الذهبي! فشريك إنما أخرج له مسلم متابعة ولم يخرج له احتجاجًا. فأنى يكون على شرطه؟ وقد صرح بذلك الذهبي نفسه في (الميزان) ثم كأنه ذهل عنه. فسبحان من لا يسهو.

أما مخالفة همام لشريك فأخرجها أبو داود في سننه [3/69 عون] والبيهقي [2/99] عنه ثنا شقيق أبو الليث قال: "حدثني عاصم بن كليب عن أبيه مرسلًا بنحوه". قال البيهقي: "قال عفان: هذا الحديث غريب، وقد خالف شقيق شريكًا القاضي أرسله". قلت: ولكن شقيق هذا مجهول. قال الذهبي: "شقيق بن عاصم بن كليب وعنه همام لا يعرف" وأقره الحافظ في (التقريب) فقال: "مجهول".

وأخرجه أبو داود والبيهقي من طريق همام ثنا محمد بن جحادة عن عبد الجبار ابن وائل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولكنه حديث واهٍ. فعبد الجبار لم يسمع من أبيه. كما قال الحافظ في (التلخيص) [1/245]. ولم يعتبر الحافظ الحازمي هذه الطريق شيئًا فقال في (الاعتبار) ص:[161]: "والمرسل هو المحفوظ".
فتبين مما قد ذكرته أن حديث وائل ضعيف بعلتين:
الأولى: ضعف شريك.
الثانية: مخالفة همام له. والله أعلم.

تنبيه:
وقع في (موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان) للحافظ نور الدين الهيثمي بدل "شريك" " إسرائيل" وكنت في بادئ أمري أظنها متابعة منه لشريك. وجعلت أتعجب في نفسي كيف خفيت على الدارقطني وغيره حتى قالوا: "لم يروه عن عاصم إلا شريك" غير أني قلت في نفسي لعلها تصحفت عن شريك ثم إنه لا يمكن القطع في مثل هذا دون دليل قوي. وظللت هكذا حتى وصلني الجزء الثاني من (ضعيفة) شيخنا الألباني حفظه الله تعالى فإذا الأمر على ما كنت أحسب والحمد لله.

قال شيخنا حفظه الله تعالى: [2/329]: "وقع في الموارد: "إسرائيل" بدل "شريك" وهو خطأ من الناسخ وليس من الطابع، فقد رجعت إلى الأصل المخطوط المحفوظ في المكتبة المحمودية في المدينة المنورة فرأيته في [ق 35/1]: "إسرائيل" كما في المطبوعة عنه فليتنبه" اه.

الوجه الثاني:

قال شيخ الإسلام ابن القيم رضي الله عنه: "وحديث أبي هريرة لعل متنه انقلب..." الخ.

قلت: أصاب شيخ الإسلام أجرًا واحدًا. فما قاله أقرب إلى الرجم بالغيب منه إلى التحقيق العلمي. وقد رده الشيخ على القاري رحمه الله تعالى في (مرقاة المفاتيح) [1/552] فقال: "وقول ابن القيم أن حديث أبي هريرة انقلب متنه على راويه فيه نظر إذ لو فتح هذا الباب لم يبق اعتماد على رواية راوٍ مع كونها صحيحة" اه.
وصدق يرحمه الله. فلو فتح هذا الباب لرد الناس كثيرًا من السنن دونما دليل بحجة أن راويه أخطأ فيه ولعله كذا.

الوجه الثالث:

أن الأحاديث التي أوردها معلولة لا تقوم بمثلها حجة! فلا يعول على شيء منها عند أئمة النقد. والحديثان اصلهما حديث واحد. فأخرجه ابن أبي شيبة [1/263][2]، وكذا الطحاوي [1/255]، والبيهقي [2/100] من طريق محمد بن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة مرفوعًا. فذكره.

قلت: وإسناده ساقط! وآفته عبد الله بن سعيد هذا فقد كذبه يحيى القطان. وقال أحمد: "منكر الحديث متروك الحديث...". وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه الضعف عليه بين" وقال الحاكم أبو أحمد: "ذاهب الحديث" والكلام فيه طويل الذيل. ولذا قال الحافظ في (الفتح) [2/291]: "إسناده ضعيف".

الوجه الرابع:

قال شيخ الإسلام ابن القيم: "إن كان حديث أبي هريرة محفوظًا فهو منسوخ...".

قلت: وهو تعلق متداعٍ! وقد سبقه إليه ابن خزيمة والخطابي. ولكن الحديث الذي زعموا أنه ناسخ حديث ضعيف. فكيف ينهض لنسخ حديث صحيح؟ وهذا الحديث أخرجه ابن خزيمة في (صحيحه) [1/319]، والبيهقي [1/100]، والحازمي في (الاعتبار) من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كميل قال: "حدثني أبي عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه". فذكره. ولكن إسناده ضعيف جدًا! وله علتان بل ثلاثة:

الأولى: إبراهيم بن إسماعيل هذا قال فيه ابن حبان: "في روايته عن أبيه بعض المناكير" وكذا قال ابن نمير. وقال العقيلي: "لم يكن إبراهيم يقيم الحديث".

الثانية: أبوه إسماعيل بن يحيى متروك كما قال الأزدى والدارقطني. وقد ألمح إلى ذلك الحافظ فقال في (الفتح) [2/291]: "وقد ادعى ابن خزيمة النسخ ولو صح حديث النسخ لكان قاطعًا للنزاع. ولكنه من أفراد إبراهيم بن إسماعيل بن سلمة بن كميل عن أبيه وهما ضعيفان".

الثالثة: يحيى بن سلمة واهٍ. تركه النسائي، وقال أبو حاتم وغيره: "منكر الحديث" وقال ابن معين: "لا يكتب حديثه". وقال الحافظ الحازمي: "أما حديث سعد ففي إسناده مقال ولو كان محفوظًا لدل على النسخ غير أن المحفوظ عن مصعب عن أبيه حديث نسخ التطبيق. والله أعلم" اه. وقال النووي في (المجموع) [3/422]: "ولا حجة فيه لأنه ضعيف". قلت: وأقره شيخ الإسلام ابن القيم في (الزاد) ورغم ذلك أورده كناسخ!. وقال شيخنا الألباني في تعليقه على (المشكاة) [1/282] بعد قول الخطابي في النسخ: "وهذا يعني قول الخطابي في دعوى النسخ أبعد ما يكون عن الصواب من وجهين: 

الأول: أن هذا إسناد صحيح يعني حديث أبي هريرة وحديث وائل ضعيف.
الثاني: إن هذا قول وذاك فعل والقول مقدم على الفعل عند التعارض.
ثم وجه ثالث: وهو أن له شاهدًا من فعله صلى الله عليه وآله وسلم. فالأخذ بفعله الموافق لقوله أولى من الأخذ بفعله المخالف له وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى. وبه قال مالك وعن أحمد نحوه كما في (التحقيق) لابن الجوزي" اه.

الوجه الخامس: 

قال شيخ الإسلام ابن القيم رضي الله عنه: "وحديث أبي هريرة مضطرب المتن...."! 

قلت: ليس كما قال. فالاضطراب هو أن يُروى الحديث على أوجه مختلفة متقاربة. ثم إن الاختلاف قد يكون من راوٍ واحدٍ بأن رواه مرة على وجه، ومرة أخرى على وجه آخر مخالف له، أو يكون أزيد من واحد بأن رواه كل جماعة على وجه مخالف للآخر. والاضطراب موجب لضعف الحديث لأنه يشعر بعدم ضبط رواته. ويقع في الإسناد والمتن كليهما. ثم إن رجحت إحدى الروايتين أو الروايات على الأخرى بحفظ راويها أو كثرة صحبته أو غير ذلك من وجوه الترجيحات فالحكم للراجحة ولا يكون الحديث مضطربًا. هذه هي القاعدة التي وضعها أسلافنا رضوان الله عليهم للحديث الذي يتنازع في أنه مضطرب. فإن علم ذلك فإن الحديث المعارض لحديث الباب حديث ساقط الإسناد لضعف عبد الله بن سعيد الشديد حتى لقد اتهمه يحيى القطان بأنه يكذب. وتقدم شرح ذلك. فيزول الاضطراب بترجيح حديث أبي هريرة الذي هو حجة لنا في الباب. والله الموفق.

الوجه السادس: 

قول البخاري: "محمد بن عبد الله بن الحسن لا أدري أسمع من أبي الزناد أو لا".

قلت: ليس في ذلك شيء بته. وشرط البخاري معروف. والجمهور على خلافه من الاكتفاء بالمعاصرة إذا أمن من التدليس. ولذا قال ابن التركماني في (الجوهر النقي): "محمد بن عبد الله بن الحسن وثقه النسائي، وقول البخاري: "لا يتابع على حديثه" ليس بصريحٍ في الجرح، فلا يعارض توثيق النسائي" اه.
ومحمد هذا كان يلقب بالنفس الزكية وهو براء من التدليس فتحمل عنعنته على الاتصال.

قال المباركفوري في (تحفة الأحوذي) [2/135]: "أما قول البخاري: "لا يتابع عليه" فليس بمضرٍ فإنه ثقة ولحديثه شاهد من حديث ابن عمر" ا.ه. وسبقه الشوكاني إلى مثل ذلك في (نيل الأوطار) [2/284]، وانتصر لذلك الشيخ المحدث أبو الأشبال أحمد بن محمد شاكر في (تعليقه على المحلى) [4/128-130] فقال بعد أن ساق حديث أبي هريرة: "وهذا إسناد صحيح".

محمد بن عبد الله بن الحسن هو النفس الزكية وهو ثقة. وقد أعل البخاري الحديث بأنه لا يدري سمع محمد من أبي الزناد أم لا. وهذه ليست علة.

وشرط البخاري معروف لم يتابعه عليه أحد، وأبو الزناد مات سنة [130] بالمدينة. ومحمد مدني أيضًا غَلَبَ على المدينة ثم قتل سنة [145] وعمره [53] سنة فقد أدرك أبا الزناد طويلًا " ا.ه.

الوجه السابع: 

إعلال الدارقطني أنه تفرد به الدرواردي. 

قلت: فيه نظر. فإن الدراوردي واسمه عبد العزيز بن محمد ثقة من رجال مسلم فتفرده لا يضر الحديث شيئًا. غير أنه لم يتفرد به. فقد تابعه عبد الله بن نافع عن محمد بن عبد الله به. أخرجه أبو داود [841]، والنسائي [2/207]، والترمذي [2/57-58 شاكر]. وقد تعقب الحافظ المنذري الدارقطني بمثل ذلك، والشوكاني في (نيل الأوطار) [2/286]. "ولا ضير في تفرد الدراوردي فإنه قد أخرج له مسلم في (صحيحه) واحتج به وأخرج له البخاري مقرونًا بعبد العزيز بن أبي حازم. وكذلك تفرد به أصبغ فإنه حدث عنه البخاري في (صحيحه) محتجًا يه" ا.ه. وأقره صاحب (تحفة الأحوذي) [2/135].


الوجه الثامن:

قال شيخ الإسلام ابن القيم رضي الله عنه: "وحديث وائل له شواهد أما حديث أبي هريرة فليس له شاهد".

قلت: أبعد شيخ الإسلام النجعة في ذلك! فإن شاهد حديث أبي هريرة أقوى من شواهد حديث وائل مجتمعة كما يأتي شرحه قريبًا إن شاء الله تعالى.

أما شاهد حديث أبي هريرة فهو من حديث ابن عمر. أخرجه البخاري في (صحيحه) تعليقًا [6/78-79 عمدة]، ووصله ابن خزيمة [1/318-319]، وأبو داود كما في (أطراف المزي) [6/156]، والطحاوي (شرح المعاني) [1/254]، وكذا الدارقطني [1/344]، والحاكم [1/226]، والبيهقي [2/100]، والحازمي في (الاعتبار) ص [160]، وأبو الشيخ في (الناسخ والمنسوخ) كما في (التعليق) ق [77/1] للحافظ من طريق الدراوردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه. وقال: "كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك"[3]. قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. وهو كما قالا[4].

أما البيهقي فقال: "كذا قال عبد العزيز ولا أراه وهمًا" يعني رفعه، فتعقبه ابن التركماني: "حديث ابن عمر المذكور أولًا أخرجه ابن خزيمة في (صحيحه) وما علله به البيهقي من حديثه المذكور فيه نظر لأن كلًا منهما معناه منفصل عن الآخر. وحديث أبي هريرة المذكور أولًا دلالته قولية وقد تأيد بحديث ابن عمر فيمكن ترجيحه على حديث وائل لأن دلالته فعليه على ما هو الأرجح عند الأصوليين" ا.ه.

قلت: هذا حديث ابن عمر[5] الذي هو شاهد حديث أبى هريرة وهو حسن بانضمامه إلى سابقه كما ترى فلننظر في شواهد حديث وائل بن حجر.

الشاهد الأول:

حديث أنس: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انحط بالتكبير فسبقت ركبتاه يديه". أخرجه الدار قطني [1/345]، والحاكم [1/226]، والبيهقي [2/99]، وابن حزم في (المحلي) [4/129]، والحازمي في (الاعتبار) ص [159] من طريق العلاء من إسماعيل العطار ثنا حفص بن غياث عن عاصم الأحوال عن أنس به.
قال الدارقطني وتبعه البيهقي: "تفرد به العلاء بن إسماعيل عن حفص بهذا الإسناد".
وقال الحافظ في (التلخيص) [1/254]: "قال البيهقي في (المعرفة) تفرد به العلاء وهو مجهول". وأقر ابن القيم ذلك!

أما الحاكم فقال: "صحيح على شرط الشيخين" [6] ووافقه الذهبي! وهذا عجب، فقد عرفت علة الحديث.
ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه في (العلل) [1/188]: "حديث منكر" وأقره في "الزاد"!

قلت: ومما يدل على نكارة هذا الخبر ما أخرجه الطحاوي في (شرح المعاني) [1/256] من طريق عمر بن حفص بن غياث ثنا أبي الأعمش قال: حدثنى إبراهيم عن أصحاب عبد الله: علقمة والأسود قالا: "حفظنا عن عمر في صلاته أنه خرَّ بعد ركوعه على ركبتيه كما يخر البعير ووضع ركبتيه قبل يديه"!

فأنت ترى أن عمر بن حفص وهو من أثبت الناس في أبيه قد خالف العلاء فجعله عن عمر لم يتجاوزه فهذه علة أخرى. وقد أقرها الحافظ في (اللسان) فقال: "وقد خالفه عمر بن حفص بن غياث وهو من أثبت الناس في أبيه فرواه عن أبيه عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة وغيره عن عمر موقوفًا عليه. وهذا هو المحفوظ" ا.ه.

ثم إن العاقل لو تأمل الأثر الوارد عن عمر رضي الله عنه لوجد أنه حجة لنا لا علينا. وذلك أنه قرر أن عمر كان يخر كما يخر البعير، ثم وضح الكيفية فقال: "يضع ركبتيه قبل يديه" ونحن مأمورون أن نخالف البعير فوجب وضع اليدين قبل الركبتين وهذا بين لا يخفى على المنصف إن شاء الله تعالى. ولست أدري كيف أورده شيخ الإسلام ابن القيم في (الزاد) محتجًا به؟!
ثم هب أن حديث أنس رضي الله عنه يكون صحيحًا فإنه لا حجة فيه لأمرين كما قال ابن حزم:

"الأول: أنه ليس في حديث أنس أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه، وإنما فيه الركبتان، واليدان فقط، وقد يمكن أن يكون السبق في حركتهما لا في وضعهما فيتفق الخبران.
الثاني: أنه لو كان فيه وضع الركبتين قبل اليدين لكان ذلك موافقًا لمعهود الأصل في إباحة ذلك ولكان خبر أبي هريرة واردًا بشرع زائد رافعٍ للإباحة السالفة بلا شك ناهية عنها بيقين ولا يحل ترك اليقين لظن كاذب"!

الشاهد الثاني: 
حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "كنا نضع قبل اليدين الركبتين فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين" وقد تقدم شرح علته.

الشاهد الثالث:
حديث وائل بن حجر: "صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم سجد فكان أول ما وصل إلى الأرض ركبتاه".
أخرجه البيهقي [2/99] من طريق محمد بن حجر ثنا سعيد بن عبد الجبار بن وائل عن أمه عن وائل بن حجر به.
قلت: وهو حديث ضعيف لا يحتج به، وله علتان.
الأولى: محمد بن حُجر هذا، قال البخاري: "فيه بعض النظر" وقال الذهبي: "له مناكير".
الثانية: سعيد ابن عبد الجبار قال النسائي: "ليس بالقوي" وليس هو سعيد بن عبد الجبار القرشي الكرابيسي فإن هذا من شيوخ مسلم.

الشاهد الرابع:
أن عبد الله بن مسعود كان يضع ركبتيه قبل يديه.
قلت: أخرجه الطحاوي [1/256] من طريق حماد بن سلمة عن الحجاج بن ارطاة قال: قال إبراهيم النخعي: "حفظ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كانت ركبتاه تقعان إلى الأرض قبل يديه" ولكن إسناده ضعيف واهٍ مع كونه موقوفًا!
فالحجاج بن أرطاة ضعيف الحفظ مدلس وقد استخدم ما يدل على التدليس قطعًا: "قال إبراهيم..." ثم إن إبراهيم النخعي لم يدرك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وحتى لو صح لما كان فيه حجة لكونه موقوفًا.
ولا تعارض سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفعل الصحابي، والله الموفق.

الشاهد الخامس:
"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يضع ركبتيه قبل يديه" أخرجه ابن أبي شيبة [1/63]، وعبد الرزاق [2/176 ]، عن الأعمش، عن إبراهيم، أن عمر كان يضع... فذكره.

ثم أخرجه ابن أبي شيبة من طريق يعلى، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر أنه كان يقع على ركبتيه.

قلت: والوجه الأول منقطع لأن إبراهيم لم يدرك عمر، وأما الثاني فصحيح، إلا ما كان من عنعنة الأعمش، ولكن الذهبي مشاها فيما روى عن أبي صالح وإبراهيم وجماعة.
ويجاب عنه بمثل الجواب المتقدم في أثر ابن مسعود. والله أعلم.

قال الشيخ المحدث أبو الأشبال في (شرح الترمذي) [2/58-59]: "وحديث أبي هريرة نص صريح ومع هذا فإن بعض العلماء ومنهم ابن القيم حاول أن يعلله بعلةٍ غريبة فزعم أن متنه انقلب على راويه وأن صحة لفظه لعلها: "وليضع ركبتيه قبل يديه" ثم ذهب ينصر قوله ببعض الروايات الضعيفة وبأن البعير إذا برك وضع يديه قبل ركبتيه فمقتضى النهي عن التشبه به هو أن يضع الساجد ركبتيه قبل يديه. وهو رأي غير سائغ لأن النهي هو أن يسجد فينحط على الأرض بقوة وهذا يكون إذا نزل بركبتيه أولًا والبعير يفعل هذا أيضًا ولكن ركبتاه في يديه لا في رجليه وهو منصوص عليه في (لسان العرب) لا كما زعم ابن القيم" ا.ه.

الوجه التاسع:

قال شيخ الإسلام ابن القيم رضي الله عنه: "وركبة البعير ليست في يده...".

قلت: فيه نظر وركبة البعير في يده ونص أهل اللغة على ذلك وإن أنكر شيخ الإسلام.
قال ابن منظور في (لسان العرب) [14/236]: "وركبة البعير في يده".

وقال الأزهري في (تهذيب اللغة) [10/216]: "وركبة البعير في يده. وركبتا البعير المفصلان اللذان يليان البطن إذا برك، وأما المفصلان الناتئان من خلف فهما العرقوبان".

وقال ابن سيدة في (المحكم والمحيط الأعظم) [7/16]: "وكل ذي أربع ركبتاه في يديه، وعرقوباه في رجليه".

وقال ابن حزم في (المحلى) [4/129]: "وركبتا البعير هي في ذراعيه".

وروى أبو القاسم السرقسبطي في (غريب الحديث) [2/70] بسند صحيح عن أبي هريرة أنه قال: "لا يبرك أحد بروك البعير الشارد ". قال الإمام: "هذا في السجود يقول: لا يلزم بنفسه معًا كما تفعل البعير الشارد غير المطمئن المواتر ولكن ينحط مطمئنًا يضع يديه ثم ركبتيه". ذكره شيخنا الألباني في (صفة الصلاة).

يؤيد ذلك كله ما أخرجه البخاري [7/239 فتح]، وأحمد [4/176]، والحاكم [3/6]، والبيهقي في (الدلائل) [2/485 487] في قصة سراقة بن مالك رضي الله عنه قال: "... وساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين[7]..." فهذا يؤيد أن الركبة في يد البعير. فلا متعلق لشيخ الإسلام فيه.

والحمد لله على التوفيق.

وقال الطحاوي في (المشكل) بعد أن روى حديث أبي هريرة: "فقال قائل: هذا كلام مستحيل، لأنه نهاه إذا سجد أن يبرك كما يبرك البعير. والبعير ينزل يديه، ثم أتبع ذلك بأن قال: ولكن ليضع يديه قبل ركبتيه، فكان ما في هذا الحديث مما نهاه عنه في أوله، قد أمره به في آخره ؟! فتأملنا ما قال ذلك، فوجدناه محالًا، ووجدنا ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستقيمًا لا إحالة فيه! وذلك أن البعير، ركبتاه في يديه، وكذلك كل ذي أربع من الحيوانات، وبنو آدم بخلاف ذلك، لأن ركبتهم في أرجلهم، لا في أيديهم. فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث المصلي أن يخر على ركبتيه اللتين في رجليه ولكن يخر في سجوده على خلاف ذلك، فيخر على يديه اللتين ليس فيهما ركبتاه بخلاف ما يخر البعير على يديه اللتين فيهما ركبتاه. فبان بحمد لله ونعمته أن ما في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلام صحيح لا تضاد فيه ولا استحالة. والله نسأله التوفيق" ا.ه.

 

فصل:

فإن قال قائل: ألا يمكن أن تقوي شواهد حديث وائل بن حُجر وهي كثيرة بعضها بعضًا ويصير الحديث حسنًا لغيره كما تفعلون أنتم في أحاديث غير هذا ؟!

قلت: ألا ليت! غير أن القواعد التي وضعها أهل الحديث رضي الله عنهم لا تعين على مثل ذلك.

فالحديث الضعيف لكي يتقوى لا بد أن يكون الضعف غير شديد كما هو الحال في شريك ويكون متابعة أخف منه ضعفًا أو مثله على أقل تقدير أو يكون شاهده قويًا. وهاتان الحالتان مفقودتان هنا أما أولًا فإنه لا متابع لشريك أصلًا، وأما ثانيًا فشواهد الحديث بعضها أشد وهنا من الآخر. وقد مر بك التحقيق.

 

تنبيهات:

الأول: قال ابن الجوزي في (التحقيق) [1/346]: "والسنة أن يضع ركبتيه قبل يديه إذا سجد. وقال مالك: السنة أن يسبق بيديه وعن أحمد نحوه. ولنا أحاديث. ثم ذكر حديث وائل وأنس. وقال: واحتجوا بأحاديث... وذكرها ثم قال: "والجواب أن أحاديثنا أشهر في كتب السنة وأثبت! وما ذهبنا إليه أليق بالأدب والخشوع" ا.ه.

قلت: وهذا جواب هزيل! بل أوهى من بيت العنكبوت! وقد تعجبت أن يجيب حافظ كابن الجوزي بمثل هذا.
وفي قوله هذا أكبر دليل على أنه لم يجد ما يرجح به حديث الركبتين. فتأمل.

ولذا فقد تعقبه الحافظ ابن عبد الهادي في (تنقيح التحقيق) [1/348] بقوله: "وليس هذا الجواب بقاطع للخصم، فإن أحاديثهم أيضًا مشتهرة في كتب السنة كشهرة أحاديثكم" ا.ه، وصدق يرحمه الله فلو كان حل الاختلاف بين الأحاديث هكذا فلا تجد ما يقنع به المتنازعون. فابن الجوزي يقول إن النزول بالركبتين أليق بالخشوع، وابن العربي يقول في (العارضة) [3/68-69]: وقال علماؤنا: والنزول باليدين أقعد بالتواضع وأرشد إلى الخشية"!

الثاني:
رمز الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى إلى حديث أبي هريرة بالصحة فتعقبه الشارح المناوي في (فيض القدير) [1/373]: "رمز المؤلف لصحته اغترارًا بقول بعضهم: سند جيد! وكأنه لم يطلع على قول ابن القيم: وقع فيه قلب من بعض الرواة فإن أوله يخالف آخره. فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير، إذ هو يضع يديه أولًا! وزعم أن ركبتي البعير في يديه لا في رجليه كلام لا يعقل لغة ولا عرفًا! على أن الحديث معلول بيحيى بن سلمة بن كهيل ولا يحتج به. قال النسائي: "متروك"، وقال ابن حبان: "منكر الحديث جدًا" وأعله البخاري والترمذي والدارقطني بمحمد بن عبد الله بن حسن وغيره" ا.ه.

قلت: يرحم الله المناوي فإنه قد اختلطت عليه الأحاديث. فالقول بأن حديث أبي هريرة والذي هو حجتنا في هذا الباب معلول بيحيى بن سلمة بن كهيل وهو واهٍ زعم خاطئ بل هو راوي حديث: "كنا نضع اليدين قبل الركبتين...الخ" وقد تقدم الكلام عليه والحمد لله تعالى. أما بقية ما ذكره فقد تقدم الجواب عنه. والله المستعان.

الثالث:
قال الشيخ علي القاري في (مرقاة المفاتيح) [1/552] نقلًا عن ابن حجر الهيثمي الفقيه أن لحديث وائل طريقين آخرين يجبر بهما فتعقبه شيخنا الألباني في (تحقيق المشكاة) [1/282] بقوله: "ولا تغتر بما حكاه الشيخ القاري عن ابن حجر الفقيه أن له طريقين آخرين فإنه من أوهامه".

قلت: لعل ابن حجر يقصد بقوله أن له شاهدين. فإن كان ذلك فالتعبير بـ(طريقين) بدل (شاهدين) ليس مشهورًا، وإن كان سائغًا. وإن قصد أن له طريقين فالأمر كما قال شيخنا والله أعلم.

الرابع:

قال الشوكاني في (نيل الأوطار* [2/284]: "وقد حاول المحقق المقبلي الجمع بين الأحاديث بما حاصله أن من قدم يديه أو ركبتيه وأفرط في ذلك بمباعدة سائر أطرافه وقع في الهيئة المنكرة. ومن قارب بين أطرافه لم يقع فيها سواء قدم يديه أو ركبتيه.! وهو مع كونه جمعًا لم يسبقه إليه أحد تعطيل لمعاني الأحاديث وإخراج لها عن ظاهرها ومصير إلى ما لم يدل عليه دليل" ا.ه، وصدق يرحمه الله تعالى.

الخامس:
يذهب ابن حزم إلى وجوب وضع الساجد يديه قبل ركبتيه. فقال في (المحلى) [4/129]: "وفرض على كل مصلٍ أن يضع إذا سجد يديه على الأرض قبل ركبتيه ولا بد" ا.ه.

السادس:
حكى المروزي في (مسائله) بسند صحيح عن الأوزاعي أنه قال: "أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم". ذكره شيخنا الألباني في (صفة الصلاة) ص [83].

وذكره الحازمي في (الاعتبار) عن الأوزاعي. وفي (عون المعبود) [3/71]: "وقال ابن أبي داود: وهو قول أصحاب الحديث، وقال الحافظ ابن سيد الناس: أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح.... قال: وينبغي أن يكون حديث أبي هريرة داخلًا في الحسن على رسم الترمذي لسلامة رواته من الجرح" ا.ه.

السابع:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (الفتاوى) [22/449]: "أما الصلاة بكليهما فجائزة باتفاق العلماء. إن شاء المصلي يضع ركبتيه قبل يديه، وإن شاء وضع يديه قبل ركبتيه، وصلاته صحيحة باتفاق العلماء ولكن تنازعوا في الأفضل" ا.ه.

قلت: ثم ساق شيخ الإسلام الرأيين السابقين ولم يرجح واحدًا منهما. وقد علمت أن الراجح هو النزول باليدين، فيكون هو الأفضل بلا ريب. وهذا يرد على النووي رحمه الله قوله في (المجموع) [3/421]: "ولا يظهر ترجيح أحد المذهبين من حيث السنة"، وذلك أن الإمام رحمه الله لم ينشط لتحقيق المسألة، ولكنه اكتفى بنقل أدلة الفريقين، كما يومي قوله: "ولكني أذكر الأحاديث الواردة من الجانبين" مع أن مقتضى نقده يشير إلى تقوية النزول باليدين. والله أعلم، وأما الصلاة فصحيحة بكليهما كما أشار شيخ الإسلام رحمه الله فيما تقدم عنه. والله أعلم.

والحمد لله أولًا وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا.

 
______________
[ا]: بتصرفٍ من كلامٍ للذهبي في (تذكرة الفاظ).

[2]: ومن طريقه أخرجه أبو يعلى ج [1] رقم [6540]، وذكره الترمذي [269] معلقًا.

[3]: قال الحاكم: "فأما القلب في هذا فإنه إلى حديث ابن عمر أميل لروايات في ذلك كثيرة عن الصحابة والتابعين" ا.ه.
قلت: وأطرف ما سمعته في تفسير قول الحاكم هذا ما زعمه بعضهم أن قول الحاكم :"والقلب إلى حديث ابن عمر أميل" أن هذا تصريح من الحاكم بأن حديث ابن عمر مقلوب! وما رأيت كاليوم عجبًا! فالمسكين ظن أن "القلب" معناه أن الحديث انقلب على راويه. وليس كذلك بل يريد الحاكم بقوله ترجيح حديث ابن عمر، وأن قلبه يميل إلى ذلك لما له من الشواهد الكثيرة عن الصحابة والتابعين. والله أعلم.

[4]: ثم استدركت فقلت: بل ليس على شرط مسلم، فهذه الترجمة "الدراوردي، عن عبيد الله" لم يخرج مسلم شيئًا منها في (صحيحه) وقد تكلم بعض العلماء في رواية الدراوردي عن عبيد الله ابن عمر خاصة، وقد أشار لذلك أبو داود فيما نقله المزي عنه في (الأطراف) ويبدو أن رواية أبي داود لهذا الحديث وقعت في نسخة ابن داسة أو ابن العبد ولم تقع في نسخة (اللؤلؤي) التي بأيدينا والله أعلم.

[5]: وصرح صاحب (عون المعبود) [3/71] بأن حديث ابن عمر: "إسناده حسن". فإن قلت: قد روى عن ابن عمر خلاف ذلك. فقال ابن أبي شيبة في (المصنف) [1/263] حدثنا يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يضع ركبتيه إذا سجد قبل يديه، ويرفع يديه إذا رفع قبل ركبتيه. قلت: بل هذه الرواية منكرة، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى كان رديء الحفظ، وقد خالفه عبيد الله بن عمر كما تقدم وهو أوثق منه بطبقات. والله أعلم.

[6]: وقع في (المستدرك) قول الحاكم: "أما حديث أنس، فحدثنا أبو العباس بن محمد الدوري..." وهذا خطأ قطعًا، صوابه "حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوري..." وهكذا رواه عنه البيهقي على الصواب. فليصحح من هنا، والله الموفق.

[7]: أخرج هذا الحديث من ذكرنا من طريق ابن شهاب، أخبرني عبد الرحمن بن مالك المدجلي، وهو ابن اخي سراقة بن جشعم، وأن أباه أخبره أنه سمع سراقة يقول: "جاءتنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية لكل واحد منهما لمن قتلهما أو أسرهما...." الحديث بطوله. قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي!

قلت: لا، وقد وهما من وجهين: الأول: في استدراك هذا على البخاري. وقد أخرجه كما أخرجه كما ترى من طريق ابن شهاب. الثاني: أن مسلمًا لم يخرج لعبد الرحمن بن مالك شيئًا، فلا يكون على شرطه. ثم رأيت الحاكم رحمه الله أخرجه في موضع آخر [3/67] مختصرًا من طريق الليث عن عقيل، عن ابن شهاب به وقال: (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي! وهو وهم، والصواب أنه على شرط البخاري لما قدمنا لك آنفًا.

أبو إسحاق الحويني

أحد الدعاة المتميزين ومن علماء الحديث وقد طلب العلم على الشيخ الألباني رحمه الله

  • 54
  • 3
  • 120,223

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً