فتن الباطنية وأثرها في التاريخ الإسلامي (1) مقتل عمر

منذ 2014-05-05

إنّ الذي تولى كبر هذه الجريمة فارسيٌّ مجوسيّ كان عبدًا للمغيرة بن شعبة واسمه فيروز وكنيته أبو لؤلؤة. فهل كانت حادثة عادية أم إنها مؤامرة خُطّطّ لها بدقة، وأنّ جذورها أعمق مما ظن المسلمون، وطاقتها أكبر من طاقة أبي لؤلؤة والهرمزان وأعوانهم بالمدينة؟

ليس من المبالغة أن نقول إنه لا يوجد أمة من الأمم ابتليت بشيء أو بعداوة كما ابتليت الأمة الإسلامية بالفرق الباطنية التي تبطن الكفر المحض وتتظاهر بالإسلام، وتعمل من الداخل على هدم الإسلام بطرق شتى ووسائل مختلفة، وهذا البلاء مستمر حتى اليوم وليس تاريخًا مضى وانقضى.

وهذه الفِرَق ليس لها مثيل عند الأمم الأخرى، فالفتن والهرج هناك غالبًا ما يكون سياسيًا أو مذهبيًا واضحًا، أما في الأمة الإسلامية فإن التخريب من الداخل وباسم الدين أيضًا، وهو داء خفي قد لا يتنبه له بعض الناس، والتخريب ليس من جهة واحدة بل من عدة جهات؛ العقائد الفاسدة، الدس والتشويه في نصوص القرآن والسنة، الدسّ والتشويه في التاريخ الإسلامي، الشعوبية ضد الجنس العربي، التحالف مع الأعداء...الخ.

وقد تنبه لهذا الاستثناء في العداوة من قبل هؤلاء المؤرخ الأمريكي ول ديورانت إذ يقول عن الباطني الذي قتل الوزير السني نظام الملك: "وكان هذا القاتل عضوًا في طائفة من أعجب الطوائف في التاريخ، وكان نظام الملك قد اتهم هذه الطائفة في كتابه (سياسة نامة) بأن زعماءها من نسل المزدكية الشيوعية أهل فارس الساسانية"(قصة الحضارة [13/316]).

وهو يعني طائفة الحشاشين الإسماعيلية ورئيسها الحسن الصباح صاحب قلعة (الموت) في إيران. وقد صدق الشيخ رشيد رضا عندما قال: "وإنني أعتقد منذ عقلت أن دسائس المجوس هي التي فرقت كلمة سلفنا، ودسائس الإفرنج هي التي فرقت كلمة مسلمي عصرنا" (شكيب أرسلان: رشيد رضا وإخاء أربعين سنة [316]).

ويقول أيضًا: "الذي أستنبطه من طول البحث والمقارنة، أن أكثر الذين خالفوا نصوص الشريعة بأقوالهم وكتبهم من لابسي التصوف هم باطنية في الحقيقة ثم قلدهم كثير من المسلمين وهم لا يعرفون أصلها" (رشيد رضا: تاريخ الإمام [1/115]).

ويتابع الشيخ حديثه عن الباطنية: "لو أنّ المسلمين بذلوا من العناية لإعادة الخلافة إلى نصابها عُشْر ما بذلت فرق الباطنية لإفسادها، لعادت أقوى مما كانت وسادوا بها الدنيا كلها" (رشيد رضا: الخلافة [152]).

هذه الفرق وهذه الفتن كان أساسها في الغالب من المشرق ولها صلة بمجوس فارس، وهي مصداق لما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده نحو المشرق فقال: «ها، إن الفتن من ها هنا، إن الفتن من ها هنا، إن الفتن من ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان» (مسند الإمام أحمد [9/120]).

وإن وقائع التاريخ الإسلامي التي سجلت فتن الباطنية ومحاولاتهم لهدم الإسلام هي مما جعل العلماء يصارحون الأمة بما فعله هؤلاء وما زالوا يفعلون، يقول ابن تيمية: " فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد، فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة" (منهاج السنة [3/243]).

إنّ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو استقراء للتاريخ الإسلامي ومعرفة دقيقة بتفاصيله، وليس من قبيل الكلام العاطفي أو الإستفزازي وتصديق ذلك ما جرى من هذه الفرق وتعاونها مع المشركين الذين قادوا الحملات لاكتساح العالم الإسلامي كالتتار والصليبيين وتعاونهم في العصر الحديث مع أمريكا لاحتلال أفغانستان والعراق وما قام به النصيريون في سورية من قتل وحرق وتهديم للمدن.

يقول ابن القيم: "وهل عاثت سيوف المشركين من عبّاد الأصنام من عسكر هولاكو وذريته إلا من تحت رؤوسهم وهل عطلت المساجد وحرقت المصاحف وقتل علماء المسلمين إلا بسببهم" (مدارج السالكين [1/72]).

وفي العصر الحديث يكتب محمد كرد علي: "وفارس مورد بدع كثيرة في الإسلام منها؛ الزندقة والزنادقة ثم الباطنية، ومن الغريب أن شيعة جبل عاملة (جنوب لبنان) كانوا من حزب الصليبيين على المسلمين إلا قليلًا (غرائب الغرب [87] ،وانظر: خطط الشام [2/14]).

المقصود أن كل بلاد فارس على هذه الشاكلة في العصور الإسلامية الأولى، فقد كانت أصبهان وتبريز وغيرها مدن سنية وخرج منها علماء كبار في جميع فنون المعرفة، ولكن العرق المجوسي لم يقتلع من بعض سكانها، وكان منهم المؤامرات المتكررة على الدولة العباسية والعثمانية، وكان منهم المؤامرة على قتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

مقتل عمر رضي الله عنه

إنّ الذي تولى كبر هذه الجريمة فارسيٌّ مجوسيّ كان عبدًا للمغيرة بن شعبة واسمه فيروز وكنيته أبو لؤلؤة. فهل كانت حادثة عادية أم إنها مؤامرة خُطّطّ لها بدقة، وأنّ جذورها أعمق مما ظن المسلمون، وطاقتها أكبر من طاقة أبي لؤلؤة والهرمزان وأعوانهم بالمدينة؟

السبب الظاهر للحادثة

جاء في (طبقات) ابن سعد رواية عن الزهري قال: "كان عمر لا يأذن لسبي قد احتلم في دخول المدينة، حتى كتب المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة يذكر له غلامًا عنده صنعًا (يتقن عدة مهن) ويستأذنه أن يدخل المدينة ويقول: "إن عنده أعمالًا كثيرة، إنه حداد نقاشٌ نجار" فأذن له، فضرب عليه المغيرة كل شهر مئة درهم، فشكى الغلام (أبو لؤلؤة) إلى عمر شدة الخراج -ما يدفعه الى المغيرة- فقال له: "ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل"، فانصرف ساخطًا، فلبث عمر ليالي فمر به العبد، فقال عمر: "ألم أحدث أنك تقول لو أشاء لصنعت رحىً تطحن بالريح" فالتفت إليه عابسًا وقال: "لأصنعن لك رحىً يتحدث الناس بها"، فأقبل عمر على من معه فقال: "توعدني العبد"، فلبث ليالي ثم اشتمل على خنجر ذي رأسين نصابه في وسطه، فكمن في زاوية المسجد في الغلس حتى إذا خرج عمر يوقظ الناس للصلاة، فلما دنا منه وثب إليه فطعنه ثلاث طعنات (الطبقات [3/345]).

وأخرج البخاري عن عمرو بن ميمون قال: "إني لقائمٌ ما بيني وبينه إلا عبدالله بن عباس غداة أُصيب، وكان إذا مر بين الصفّين قال: "استووا" حتى إذا لم يرَ فيهم خللًا تقدّم فكبّر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبّر فسمعته يقول: "قتلني" -أو أكلني- الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكينٍ ذات طرفين لا يمر على أحد يمينًا ولا شمالًا إلا طعنه، فلما رأى رجل من المسلمين طرح عليه برنسًا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه" (انظر: يحي بن ابراهيم اليحيى، الخلافة الراشدة والدولة الأموية في فتح الباري[361ٍ]). إنّ رواية البخاري تذكر تفصيل ما حدث وأن الحادثة وقعت بعد أن بدأ عمر رضي الله عنه بالصلاة.

هل هذه جريمة عادية ؟

هل هذا لمجرد أن عمر رضي الله عنه لم يلبِ طلب هذا المجوسي؟ أم أنه مؤامرة مدبرة تدبيرًا محكمًا، "إنّ رفض عمر تخفيض خراج أبي لؤلؤة ليس سببًا كافيًا لإثارة حقد هذا الغلام حتى يقتل الخليفة، وإنما وراء هذه الحادثة حقدًا سياسيًا من قبل الفرس" (زاهية قدورة: الشعوبية [40]).

ليس غريبًا أن يكون هذا الحقد السياسي المجوسي، ففي خلافة عمر كانت الفتوحات الكبرى في بلاد فارس، كانت القادسية وكانت نهاوند وقضي على الإمبراطورية الفارسية قضاءًا نهائيًا. كان عمر قَفْلُ الفتنة كما يقول الإمام الذهبي، فلمّا استشهد قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان وتفرقت الكلمة، وقد جاء في صحيح مسلم كتاب الفتن أنّ عمر رضي الله عنه سأل حذيفة بن اليمان عن الفتن التي تموج موج البحر، قال حذيفة: "لا تخف يا أمير المؤمنين فإن بينك وبينها بابًا مغلقًا"، قال: "فيُكسَر الباب أو يُفتح؟"، قال: "بل يُكسر"، فقال عمر: "إذن لا يغلق أبدًا"، قلت: "أجل". وسأل جماعة من التابعين حذيفة: "هل يعلم عمر من الباب؟" قال: "نعم كما يعلم أن دون غد ليلة، الباب عمر" (صحيح مسلم شرح النووي [18/16]).

فهذه الشخصية العظيمة العبقرية كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم أغاظ الفرس المجوس، فكانت هذه المؤامرة، وهل من الطبيعي أن يقول هذا المجوسي لعمر: "لأصنعنّ لك رحىً تتحدث بها العرب" ولماذا نحر نفسه على طريقة الذين قتلوا قاتل الرئيس الأمريكي كينيدي لإخفاء من الذين خططوا لهذا الاغتيال.

إنه من الغريب أن تذكر هذه الحادثة الكبيرة دون تحقيق أو تعليق من المؤرخين وغيرهم الذين ذكروها في كتبهم وكأنها حادثة عادية من عبد ادعّى أنه ظُلم من سيده. هل هذا كله من قِبَل تحسين الظن وحتى لا يتهم ناس ابرياء؟؟! مع أن رواية عبد الرحمن بن أبي بكر تؤيد أنها مؤامرة، ومن الغريب أيضاً أن يورد صاحب (الاكتفاء) و(الطبري) أنّ كعب الأحبار قال لعمر رضي الله عنه: "إعهد فإنك ميت في ثلاث"، قال: "وما يدريك؟"، قال: "أجده في التوراة!!"، إنه من الصعب جدًا قبول دعوى كعب الأحبار أن هذا الخبر موجود في التوراة، وفي رواية ابن سعد أن كعب الأحبار قال لعمر: "ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيدًا"، يشكك الشيخ علي الطنطاوي في كعب الأحبار ويعتبره متهمًا فرعيًا في هذه القضية، ويشكك الشيخ رشيد رضا أيضًا بكعب الأحبار ورواياته وتوثيق البعض له. ويرى الشيخ الطنطاوي أنها "جريمة سياسية لو جرى فيها تحقيق قضائي لظهر أن في هذه الجريمة شركاء هم: الهرمزان وجُفينة، والدليل أن عبد الرحمن بن أبي بكر -وهو نزيه ليس له غرض- شاهد الهرمزان وجفينة يتناجيان هما وأبو لؤلؤة فلما رأوه سقط من بينهم خنجر له رأسان (ظهر أنه هو نفسه الذي قُتِل به عمر)، وكان الثلاثة من أعداء الإسلام وخصوم العربية، أما الهرمزان فقد خسر ملكه وأضاع بلاده وعاش في المدينة فكان من الطبيعي أن يحنق على الإسلام أشد الحنق، وأما أبو لؤلؤة فكان خبيثًا يحمل في صدره أشد الضغن على العربية والإسلام، وكان إذا رأى السبي الصغار مسح رؤوسهم وبكى وقال: "أكل عمر كبدي"، كان ذلك قبل رفع شكواه إلى عمر، وكان جفينه نصرانيًا يجتمع بهما ويشاركهما آراءهما " (هامش تاريخ الإسلام للذهبي وهو منقول من سيرة عمر لعلي وناجي الطنطاوي [2/607]). ويقترح الشيخ الطنطاوي أن يأخذ هذه القضية رجال القضاء ويدرسوها ويقيموا من أنفسهم محكمة تعطي حكمها على هؤلاء المتهمين.

ويبقى هنا سؤال، لماذا لم يمنع عمر رضي الله عنه هؤلاء الأعاجم من دخول المدينة، وقد كانت تلك رغبته وهو القادر على ذلك، وهو الخليفة، وقد قال لابن عباس: "قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة"، وفي رواية ابن سعد قال لابن عباس: "هذا من عمل أصحابك، كنت أريد أن لا يدخلها علج من السبي فغلبتموني" (الطبقات [3/352]). والجواب عن هذا أن رغبة عمر رضي الله عنه في المنع كان اجتهادًا منه، وهو اجتهادٌ صحيح، ولكنها الخلافة الراشدة التي لا تمنع ولا تعطي إلا بأمر الله ومن خلال النصوص الشرعية، وهذه الخلافة لا تُدين النوايا وتتوخى العدل المطلق، وفي مثل هذه الخلافة لا توجد الحراسة الشديدة والقصور والأبراج التي تحمي رئيس الدولة.

رضي الله عن عمر فقد كان يتمنى الشهادة في المدينة كما أخرج البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: "اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم" وذكر ابن سعد أنّ عوف بن مالك رأى رؤيا أن عمر شهيدٌ مستشهد، فلما قصها على عمر قال: "أنّى لي بالشهادة وأنا بين ظهرانيّ جزيرة العرب لست أغزو والناس حولي، ثم قال: بلى يأتي بها الله ان شاء الله".

محمد العبدة

رئيس تحرير مجلة البيان الإسلامية سابقًا وله العديد من الدراسات الشرعية والتاريخية.

  • 0
  • 0
  • 4,773

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً