نحن لسنا عورة
نحن النساء لنا وضع خاص؛ فالمشاعر عندنا فياضة، وبمجرد نية العمرة أو الزيارة تجد القلوب قد حنت والعيون قد ذرفت، والأرواح والأبدان قد استعدت، ولكننا للأسف إذا وصلنا الحرمين وجدنا من التضييق ما يجعلنا نحس أننا أقل بشرية وإيماناً وعملاً وأجراً!
- التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة -
قد يسافر المرء حول العالم فيرى من جمال الخضرة، وترقرق الماء ومباهج الحياة ما يسعد العقل والقلب، ولكن المرء لا يبلغ السعادة الحقيقية إلاّ برحلة يغذي فيها الروح والجسد، يكاد فيها لفرط شوقه يسبق الطائرات والمركبات، وكأنه ترك روحه في ذلك المكان وهو عائد للاجتماع بها، ينسى المسافر في رحلة العمرة والحج كل متاعب السفر ومشقة الرحلة ومقارعة البشر؛ فهو ذاهب للتطهير من كل أدران الحياة، ينتظر تلك اللحظة التي تكتحل فيها عيناه بالبيت الحرام وروضة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيبلغ قدر التشريف والمهابة والجلال الذي يدعو به كل من يزور المسجد الحرام: "اللهم زدْ هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وأمناً، وزدْ من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبِراً".
هي رحلة يقطع لها البعض أكباد الإبل محبة وطوعاً وكرامة؛ فالمسافة لا تشكل عائقاً في قاموس المرتحل، وفي سالف الزمان كان الحاج يُوَدّع كأنه لن يرجع بسبب مخاطر الطريق وطول مدة السفر، ولم يكن ذلك يثني الراغبين والمقبلين، ونحن النساء لنا وضع خاص؛ فالمشاعر عندنا فياضة، وبمجرد نية العمرة أو الزيارة تجد القلوب قد حنت والعيون قد ذرفت، والأرواح والأبدان قد استعدت، ولكننا للأسف إذا وصلنا الحرمين وجدنا من التضييق ما يجعلنا نحس أننا أقل بشرية وإيماناً وعملاً وأجراً!
نقطع المسافات لتقرّ عيوننا برؤية الكعبة المشرفة، فنمنع من الصلاة أمامها، ونوضع في شبه قفص بعيداً عنها وعن صحن الكعبة! الكعبة التي يجب ألاّ تفارق ناظرينا حتى نستحق فضل الرحمات والأجور التي خصصها الله للناظرين، لا نكاد نراها إلاّ إذا أردنا الطواف! والحجة درء المفاسد وستر النساء عن أعين الرّجال! والسؤال: أليس هذا موطن الستر؟
وإذا لم يكن الستر في بيت الله الحرام فأين نجده؟ هل يعقل أن تحس النساء في بيت الله الحرام أنهن لسن أكثر من عورة يجب سترها، حيث الستر الحقيقي هو أكثر من حجاب خارجي وحجز وسجن في مواضع معينة، بل لباس تقوى، وباطن إنابة وإخبات، وترّفع عن محارم الله هي جميعها أساس المفاضلة بين عباد الله رجالا ونساء؟ هل يُعقل أن تحس المرأة أنها أمام الله أقل درجة من الرجال في التكليف والأجر بسبب جنسها الذي لم تملك الخيار فيه!
عندما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ نمنع إماء الله مساجد الله، هل قُيّد الأمر بشروط غير الأمان ولزوم المرأة لحجابها؟ ألا تسقط بعض اعتبارات منع الاختلاط ومفاسده في هذا المكان، فيطوف الرجال بجانب النساء دون التفات إلى شهوات الجسد؟! فالمقام مقام تقوى لا مقام دنيا، والكل متوجه الى الله بكليته ينادي: نفسي نفسي! طلباً للهداية والرحمة والمغفرة.
قد يكون في المكان بعض ضعاف النفوس، ولكن هل يُعطى ضعاف النفوس المجال للتأثير على القوانين والتشريعات، فيُؤخذ البار بذنب الفاجر، ويُؤخذ بسوء الظن لا حسنه في أطهر بقاع الأرض؟ إن السوءة والعورة الوحيدة التي يجب أن يلتفت إليها من يحجرون على النساء في الحرمين هي سوءة الذنوب، والتي هي أصل الفواحش؛ فقد نزع الله عن آدم وحواء الستر لما عصيا الله، وسُترا بعد الاستغفار عن الذنب والتوبة، إن كل من يفد على الله في بيته الحرام رجالاً ونساءً يأتي وقد كشفته الذنوب، وفضحته فيما بينه وبين الله، يأتي ليطلب الستر، لذا كان من مأثور الدعاء: "اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض عليك"، والرجال والنساء في ذلك سواسية.
إن الحجاب الذي تلبسه الكثير من المسلمات عن قناعة وليس فقط زياً خارجياً تتنوع أشكاله، بشرط ألاّ تختلف صفاته من ألاّ يصف ولا يشف، ولا يكون لباس شهرة، إنه مع هذه كلها حجاب عن الخضوع بالقول، حجاب عن الاختلاط في غير داع، حجاب يحفظ الحرمات والعورات والأسرار التي سترها الله؛ فقد مدح الله المؤمنات بقوله: {..فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ..} [النساء:34]، إن الحجاب ما لم يكن لباس تقوى في القلب، ولباس ستر للجسد، ولباس قناعة في العقل لن يستر امرأة لا تريد الستر، وستبقى عورة ظاهرة ولو لبست من الثياب أذرعاً وحُبست وراء الجدران.
والأمر ليس أحسن حالاً في روضة المصطفى؛ فبينما هي مفتوحة للرجال على مصراعيها في معظم الأوقات، تُفتح في أوقات قليلة ومساحات محددة للنساء، ويحتاج الوصول إليها الفوز بسباق ماراثوني ودفس ورفس كل من يعترض طريقنا، وهذا يتنافى مع أخلاق الرحمة وخلق عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يرفعون صوتاً في حضرة الرسول، ونحن نصيح ونتسابق حتى ندرك موضع قدم لنصلي في الروضة.
هذه الروضة التي هي من رياض الجنة، ندخلها وقد قُطعت أنفاسنا من كثرة الركض، ونصلي فيها ونحن نُدفع يمنة ويسرة، وقد تُداس رؤوسنا بالأقدام بسبب الاكتظاظ والدفع، كان من النساء الكثيرات من كبيرات السن اللواتي لا يستطعن المشي إلاّ قليلاً، وكان الوصول شبه مستحيل عليهن، فجلسن في زاوية يذرفن الدموع على العجز والكبر، إيمان العجائز الذي دعا الصالحون بمثله قعد بهن في عصرنا الذي يُضيق فيه على المرأة، وتُحرم من بلوغ روضة الحبيب، وأيضاً في هذه الحالة من ضيق المكان والوقت ما يُحمّل كل النساء وزر بعض المخطئات ومتبعات البدع.
إن سياسة التعامل وقوانين الحرمين لا يجب أن تخضع لآراء حركة دينية واحدة، مهما كان فضلها الإصلاحي على الإسلام، بل عليها أن تتبع سيرة محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يؤخّر النساء لا في حل أو ترحال، أو حرب أو سلم، بل كانت صفوف النساء في المسجد تلي صفوف الرجال، وكانت النساء يخرجن للمسجد والصلوات، وما مُنعن من ذلك لأنهن إناث أو عورة يجب إخفاؤها.
قد نلتمس العذر نحن المسلمات أباً عن جد، وقد نفهم الحال والمقاصد العليا، ولكن ماذا عن الأجنبيات اللواتي أسلمن حديثاً، والمسلمات اللواتي التزمن حديثاً بالدين، القادمات من مجتمعات المرأة فيها في الصفوف الأولى ومراكز القيادة؟ هل نقول لهن الإسلام يؤخركن حتى بين يدي الله، وفي بيته الحرام، ومسجد نبيه؟ معاذ الله أن نخرج على الشرع كما فعلت بعض النساء بالمطالبة بمنازعة الرجال الإمامة، ولكننا نعلم أن الله أمرنا بالحجاب، وليس بالاحتجاب، والفارق بينهما كبير؛ فالحجاب حفظ وكرامة وتشريف، والاحتجاب حجر وانتقاص وعزل.
النساء لسن عورة، ولسن أقل درجة أو استحقاقاً أمام الله، وصدق سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
ديمة طهبوب