وفديناه
إن النصر صناعة تكاملية على عين الله أعطى للمرأة والرجل كلا نصيبه فيها؛ فانظر وانظري أين نصيبك ودورك، فإن التاريخ لا ينقضي إلا إذا أردنا له أن يموت، وإن الفداء من الله مبذول دائمًا إذا قدمنا له النفوس وما حُبب إليها من زينة الدنيا..
- التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة - الطريق إلى الله -
للتعامل مع المصائب على مر العصور تقاليدها وعاداتها، ولكن الله يصطفي من عباده من يضرب دروس التميز في أصعب الظروف، ليعلم الناس أن العقيدة في النفس تنعكس خلقًا وعملاً، ومتى أخذ المرء بأسبابها ارتفع عن مصاف عامة البشر، فتصير رؤيته واستجاباته وصناعته للأحداث تدور في فلك ما قاله الجنيد عن هذه النوعية من البشر: "فإن تكلم فبالله، وإن نطقَ فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكنَ فمعَ الله، فهوباللهِ وللهِ ومع الله"، اختلف الناس في أعمالهم فاختلفوا في أقدارهم عند الله، وكان لا بد من التمايز في الدنيا والآخرة، فجعلهم الله أعلامًا في تاريخ الأعمال الخالدة يستشهد الناس بسيرهم على مر العصور؛ ليعلموا أن الخير والقدوة باق لمن أراد الاتباع.
ميسون الدمشقية تأتيها النساء لتعزيها في استشهاد إخوانها الأربعة، فتأبى أن تكون امرأة تتلقى دعاء العزاء لفظيًا فقط، بل في ذات المشهد وفي حمأة الموقف تريد أن يكون لمعنى (عظم الله أجركم) تطبيقًا عمليًا، ينتقل بها من حالة الفقد والفزع والألم إلى حالة الصبر والرضى، ومزيد من التقديم والاقتداء، لم تقبل العزاء ولا انتظرته..
بل جمعت النساء وقالت لهن: "من أرادت أن تعزيني فلتفعل مثلي"، وقدمت أغلى ما يمكن أن تقدمه امرأة في زمانها، فالله سبحانه وتعالى أنشأ النساء في الحلية وحبب إليهن الجمال والزينة، ولكن ميسون لم تكن كسائر النساء فالله اصطفاها ليجري على يدها رسالة ودرسًا تظل نبراسًا لمن بعدها، قصت ميسون جديلتها وعقدتها، وقالت: "من أرادت من النساء أن تعزيني فلتفعل مثلي لتكون لجامًا لفرس مجاهد يقاتل الصليبيين"، ففعلت النساء مثل فعلها وما تأخرت واحدة، تخلت النساء عن جمال الدنيا ليعانقن جمال المجد والخلود؛ فقدمن غاليًا لأغلى منه، وخرجن عن المألوف والمتوقع من بنات حواء، فحركن طوفان الغضب والهمة في إمام المسجد الأموي الذي هاله المشهد وهاله الطلب: "اجعل جدائلنا لجام خيول المجاهدين".
فقام من فوره على المنبر باكيًا صائحًا: "أيها الناس هل من أحياء بيننا أم الكل قد مات؟! الأرض قد اغتصبت والنساء انتهكت حرماتها، دخلوا بيت المقدس فقتلوا سبعين ألفاً، الأطفال يصرخون والنساء تصرخ والعجائز لا يستطيعون الهرب! أين كنتم ساعتها؟ كل منكم ضيع الأرض التي أنفق أجداده فيها بدمائهم! هل من أحياء ما زالوا؟ يا ناس أتدرون مما صنعت هذه اللجم والقيود؟ لقد صنعتها النساء من شعورهن، لأنهن لا يملكن شيئًا غيره، هذه والله ضفائر المخدرات التي لم تكن تبصرها عين الشمس صيانة وحفظًا، قطعنها لأن تاريخ الحب قد انتهى وابتدأ تاريخ الجهاد في سبيل الله، إنها من شعور النساء! ألم يبق في نفوسكم شعور؟!".
في ذلك الزمن كان في نفوس الرجال شعور فهبوا إلى المعركة وانتصروا فيها، فيروي التاريخ عن فارس شاب أمعن في الصليبيين تقتيلاً وكأن ليس غيره في الميدان، ثم جاء إلى قائد الجيش وقال له: "لا أريد من الغنائم شيئًا سوى أن أفتدي جديلة أمي".
هكذا صنعوا التاريخ وحركوا الأحداث وغيروا الواقع، بعد أن استطال الضعف والهوان! هكذا يصنع التاريخ ليس بالوقوف على أطرافه أو انتظار معجزة وإنما بالعمل على استجلاب قدر الله ونصرته، عندما يكون مستوى التصدي بعظم التحدي، عندها يكون النصر مدهشًا عظيمًا شافيًا، يجبر الخاطر الجمعي للأمة في مصائبها وخواطر الأفراد في همومهم الشخصية، فيغدو للتضحية معنى وتشريف ورفعة.
عندما اختبر الله إبراهيم ونجح أيما نجاح في الاختبار، وانتصر أيما انتصار على نفسه، فسهلت عليه كل المعارك، بعدها تكلل النصر وتكللت المثوبة والفرح، وجاء الإنقاذ والفداء، هذه السنن وهذه الأقدار مبثوثة في كل زمان ومكان تعطي نفس النتائج إذا توفرت المقدمات.
إن النصر صناعة تكاملية على عين الله أعطى للمرأة والرجل كلا نصيبه فيها؛ فانظر وانظري أين نصيبك ودورك، فإن التاريخ لا ينقضي إلا إذا أردنا له أن يموت، وإن الفداء من الله مبذول دائمًا إذا قدمنا له النفوس وما حُبب إليها من زينة الدنيا، الشهامة والنخوة والحرقة لها رجالها ونساؤها في كل زمان ومكان، الفائز فقط من اختاره الله ليكون من ثلتهم.
ديمة طهبوب