العلمانية والإلحاد

- الخبر:
كشفت آخر الإحصائيات الموثقة عن وجود أكثر من مليار مُلحد في العالم، وأن نسبة الإلحاد في الشرق الأوسط هي الأقل على الإطلاق .

- التعليق:
بدايةً وقبل أن نشرع في التعليق على الخبر، لا بد من أن نبين أن الإحصائية بها عوار واضح لزِم التنبيه عليه، هو زيف هذه النسب وبُعدها عن الحقيقة؛ فالمنتدى الذي أجرى الإحصاء هو منتدى (بيو فوروم للدين والحياة العامة)، وهو مركز أبحاث أمريكي متخصص في الأديان والمعتقدات، وقد أظهرت نتائجه أن أكثر من 84% من سكان العالم هم من أتباع الأديان السماوية، أو من المؤمنين باعتقاد أو بشيء ما، أما الباقي فلا يؤمنون بشيء على الإطلاق، وهذه المنهجية في إعداد الدراسة جعلته يضع البوذيين والهندوس والطاويين وغيرهم من أتباع الديانات المخترعة الأرضية في عداد المؤمنين، والنسبة الحقيقية لأتباع الرسالات السماوية الثلاث هي 54.52% من إجمالي سكان المعمورة، ولكننا سوف نتكلم عن شق الإلحاد وَفْق منظور الإحصائية أو ظاهرة وجود أكثر من مليار شخص بلا أي اعتقاد، يولدون ويعيشون ثم يموتون كأنهم ما جاءوا ولا كانوا!

مشكلة الإلحاد هي ليست مشكلة دولة أو دين أو نظام، كما أنها ليست نتاج أجواء الانفتاح الفكري والثقافي، مشكلة الإلحاد هي مشكلة نفسية تتعلق في الأصل بوجود حالة خواء ديني ومعرفي تتراكم آثاره عبر السنين حتى تنتهي بصاحبه إلى الإلحاد، مشكلة اشترك في صنعها وتهيئة المناخ لظهورها الجهلُ والخرافة والتعنت والموروثات الأسطورية، لذلك كان العالم الإسلامي هو الأقلَّ من بين سكان العالم إصابة بهذه الظاهرة المخيفة.

الإلحاد مشكلة وظاهرة أوروبية صرفة، لم يكن للعالم الإسلامي فيها دخل أو نصيب، فقبل ثلاثة قرون لم يكن الإلحاد معروفًا أو ظاهرًا بحيث يصل لأن يكون قرابة الـ16% من سكان العالم مصنفين تحت خانته، فمن خلال الدراسة الوافية لتاريخ ظهور الحركات الإلحادية وانتشارها، وتمددها عبر أرجاء المعمورة نستطيع أن نقول إن الكنيسة الأوروبية هي السبب الرئيسي في ظهور هذه المشكلة وتضخمها حتى وصلت لهذا المستوى المخيف.

لقد كانت الكنيسة الأوروبية سببًا مباشرًا وغير مباشر في نشر الإلحاد والزندقة والكفر الكامل بوجود الله، وذلك لأن القائمين على هذه الكنيسة من الرهبان والقساوسة أدخلوا في دينهم كثيرًا من الخرافات والخزعبلات، وجعلوها عقائد دينية، كرفعهم عيسى عليه السلام من مرتبة البشرية إلى الألوهية، ومزجوا الحقائق العلمية الثابتة بالخرافات الدينية الرائجة، بل واحتكروا هذه العلوم والنظريات، فصارت هناك العلوم الكنسية والعلوم الدنيوية، وعندما بدأ عصر النهضة الأوربية واكتشف بعض العلماء حقائق جديدة عن الأرض والكون والحياة  تخالف ما عند الكنيسة من خرافات علمية، هب الرهبان والقساوسة ينكرون ذلك، ويتهمون من يعتقد بالحقائق الجديدة ويصدق بها بالكفر والزندقة ويوعزون إلى السلطات الحاكمة بقتلهم وحرقهم بالنار، ولقد لقي كثير من العلماء هذا المصير المؤلم جزاء مخالفتهم لآراء الكنيسة .

ولكن حركة العلم لم تتوقف واستطاع العلماء أن يقدموا كل يوم براهين جديدة على نظرياتهم العلمية وابتدأت آراء الكنيسة ومعتقداتها تُهزم كل يوم هزيمة جديدة، وكانت الجولة في النهاية لعلماء المادة على رجال الكهنوت فاندفع الناس نحو الإيمان بالعلم المادي كإله جديد سيحمل الرخاء والقوة والرفاهية للناس، ونبذ الكنيسة التي أرهقتهم بالخرافات والأساطير وكبلتهم بالإتاوات والغرامات والكفارات.

وعلى إثر ذلك ظهرت فكرة العلمانية التي بدأت بضرورة منع تدخل الدين في السياسة وشئون الحكم، وقصره على المعاملات الخاصة فقط، وبدأ الناس ينصرفون عن الدين شيئًا فشيئًا مع دخول الثورة الصناعية وتكشف كثير من المعارف والعلوم، وانزوى سلطان الكنيسة على عتبات أبوابها.

بدأت العلمانية في الانتشار والرواج بين أوساط الأوروبيين، وانتقلت عدواها إلى المستعمرات التابعة لها، وصارت هناك تربة خصبة مواتية لظهور أفكار أشد تطرفا من العلمانية الأولى، وظهرت لأول مرة الأفكار الإلحادية ممزوجة بصبغة البحث العلمي والنظري، فظهرت أفكار نيتشه وإنجلز، ثم ظهرت المذاهب الاقتصادية الإلحادية وخاصة الشيوعية التي بشر بها كارل ماركس (اليهودي الألماني الذي تنصر والده)، وبالرغم من أن هذا المذهب ينطلق من منطلق اقتصادي ويستهدف معالجة المظالم الرأسمالية الفردية، إلا أن القائمين على هذا المذهب الاقتصادي صبغوه بالصبغة العقائدية وأعطوه أبعادًا أخرى غير اقتصادية فزعموا أن الحياة التي يعيشها الناس حياة مادية فقط وأنه لا يوجد روح ولابعث ولا إله، وأن ظهور الأديان إنما كان من فعل الأغنياء ليلبسوا على الفقراء ويستغلوهم، وبهذا أصبح هذا المذهب الاقتصادي بفلسفته التي أطلقها على الأديان موجة جديدة من موجات الإلحاد والزندقة.

ولعل هذه الموجة الجديدة التي جاءت بها الشيوعية كانت أعتى موجات الإلحاد جميعًا، وذلك أن الشيوعية  لعبت على أوتار الدفاع عن الفقراء والمعوزين، والعدالة الاجتماعية ومكافحة الظلم، وهذه قضية عادلة وإنسانية فيذاتها، ولذلك انتشر الإلحاد سريعًا مع هذا المذهب الاقتصادي الجديد وكان النجاح الهائل الذي لاقته الدعوة الشيوعية بتفجير الثورة البلشفية في روسيا والاستيلاء على الحكم عاملًا كاسحًا في هدم الأديان ونشر الإلحاد وانتقاله ليصبح عقيدة عالمية فيما عرف سياسيًا بعد ذلك بحلف وارسو أو أوروبا الشرقية .

أيضًا من الأمور التي ساعدت على ظهور الإلحاد وتفشيه حتى أصبح ظاهرة عالمية، الانحطاط الذي أصبح عليه العالم الإسلامي الذي كان معقل الدين الصحيح في العالم، وتراجعه أمام الغزو الأوروبي والغربي على كل الأصعدة وفي كل المجالات، ففي الوقت الذي كانت روسيا المُلحدة الماركسية تتحول من دولة إلى اتحاد سوفيتي كبير وقوي، كانت الخلافة العثمانية المسلمة العريقة تنزوي وتتحول من اتحاد واسع ممتد في ثلاث قارات إلى دولة مذعورة قابعة في أقل من 5 % من مساحتها الأصلية، مما أوجد مقارنة ومقاربة ذهنية تربط بين التقدم والإلحاد، والتخلف والدين عند كثير من المنهزمين والضعفاء والمفتونين .

فالإلحاد إذن صنيعة أوروبية تسبب في وجودها طغيان الكنيسة الذي أوجد العلمانية التي أوجدت الإلحاد، فالإلحاد محصلة تراكمية من الجهل والتعنت والطغيان أدى في النهاية لهذا العدد المهول من البشر في خانة الضياع، وهذا يكشف لنا عن سر وجود عدد 2 مليون ومائة ألف مُلحد في بلادنا العربية والإسلامية، فالغالبية العظمى من هذا العدد هم من نصارى مصر والشام الذين كفروا بالكنيسة وما عندها من خرافات وضلالات وموروثات باطلة، ومعهم غلاة العلمانيين الذين فتنوا وتأثروا بإخوانهم الأوروبيين والغربيين. 

شريف عبد العزيز الزهيري