لا إله إلا الله فضلها وآثارها
ومن تأمل حال العرب قبل أن يدينوا بهذه الكلمة وحالهم بعدما دانوا بها يتضح له ذلك جلياً، فقد كانوا من قبل أعداء متناحرين يفتخرون بالقتل والنهب والسلب فلما دانوا بها أصبحوا أخوة متحابين.
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا شبيه ولا مثيل ولا نظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ} [الشورى:11].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَايَغُرَّنَّكُم بِاللَّـهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
معاشر المؤمنين: يقول تعالى: {شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوالْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، وقال سبحانه: {اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:253 ]، وقال عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّـهُ} [محمد:19].
"لا اله إلا الله" أشرف الذكر، وشعار الإسلام، وركن الدين الأعظم، وعنوان التوحيد، فلا معبود في الكون بحق إلا الله، لا خالق، ولا رازق، ولا معطي، ولا مانع سواه، لا يفرج الكرب، ولا يغيث الملهوف، ولا يجيب المضطر، ولا يكشف البلوى إلا الله، لا يشفي إلا الله، لا يحيي ولا يميت إلا الله، فهو الذي يرفع ويخفض، ويعز ويذل، ويغني ويفقر.
ليس هناك أعظم من " لا إله إلا الله" فهي كلمة التوحيد والفرقان بين الشرك والإسلام.
أكَّد عليها تعالى في آيات كثيرة من كتابه المحكم، وكررها في آيتين متتاليتين ذكر فيهما بعض صفاته العلى وأسمائه الحسنى في سورة الحشر، قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ . هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ ال?مُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:22].
" إنها كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخُلقت لأجلها جميع المخلوقات: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وبها أرسل الله رسله قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} [النحل:2].
ولأجلها أنزل الله كتبه وشرع شرائعه، ولأجلها نُصبت الموازين ووُضِعت الدواوين وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نُصبت القبلة، وأُسَّست الملة، ولأجلها جُرَّدت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون.
فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين: (ماذا كنتم تعبدون، وماذا أجبتم المرسلين)، وجواب الأولى بتحقيق "لا إله إلا الله" معرفة وإقرارًا وعملاً، وجواب الثانية بتحقيق: "أن محمدًا رسول الله معرفة وانقيادًا وطاعة" (الزاد لابن القيم(2/1) بتصرف يسير).
"لا إله إلا الله" كلمة التقوى والعروة الوثقى وهي التي جعلها إبراهيم: {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] قال ابن عيينة: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرَّفهم "لا إله إلا الله"، وإن "لا إله الله" لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا" (كلمة الإخلاص لابن رجب 52- 53).
من قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه هدر، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم).
وهي أول ما يُطلب من الكفار عندما يُدعَوْن إلى الإسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن قال له: « » (أخرجاه في الصحيحين).
"لا إله إلا الله" أفضل الذكر، ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: « » (رواه أحمد والترمذي).
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « » (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن والحاكم وقال صحيح الإسناد).
"لا إله إلا الله" أثقل شيء في الميزان:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه الحاكم وابن حبان).
وروى الترمذي وحسنه، والنسائي والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، عن عبد الله بن عمرو: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ».
"لا إله إلا الله" مفتاح الجنة وأمان من العذاب: عن أبى ذر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه « » (رواه البخاري).
وعن أبى موسى عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي نفر من قومي، فقال: « » (رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات).
و"لا إله إلا الله" موجبة لشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم: عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري).
وهي أفضل الأعمال: قال صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه أحمد).
وهي سبب لمغفرة الذنوب ورفع الدرجات: عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه الترمذي وحسنه الألباني رحمه الله).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم).
و"لا إله إلا الله" منجية لمن قالها من النار وإن دخلها ابتداءً: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه البخاري).
وقال صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري).
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري ومسلم).
ولهذه الكلمة العظيمة فضائل كثيرة ذكر جملة منها الحافظ ابن رجب في رسالته (كلمة الإخلاص) منها: أنها ثمن الجنة، ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة،، وتوجب المغفرة، وهي أحسن الحسنات، وتجدد ما درس من الإيمان في القلب وتخرق الحجب حتى تصل إلى الله عز وجل، وهي الكلمة التي يصدّق الله قائلها، وهي أفضل الأعمال وأكثرها تضعيفًا وتعدل عتق الرقاب وتكون حرزًا من الشيطان، وهي أمان من وحشة القبر وهول الحشر، وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم.
ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، ومن فضائلها أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها فإنهم لابد أن يخرجوا منها (كلمة الإخلاص 45 - 66 بتصرف كبير).
هي أجمل الكلمات قُلْها كلما *** ضَجَّ الفؤادُ وضاقت الأزمان
ولشهادة التوحيد آثار حميدة على الفرد والجماعة من أهمها:
1ـ اجتماع الكلمة التي تثمر القوة للمسلمين، لأنهم يدينون بدين واحد وعقيدة واحدة، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [النساء:103].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62.63].
والاختلاف في العقيدة يسبب التفرق والنزاع والتناحر، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159].
وقال تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:58] فلا يجمع الناس سوى عقيدة الإيمان والتوحيد التي هي مدلول "لا إله إلا الله".
2- ومن آثار هذه الكلمة العظيمة: شيوع الأمن والطمأنينة في المجتمع الموحد الذي يدين بمقتضى "لا إله إلا الله" لأن كلاً من أفراده يأخذ ما أحل الله له ويترك ما حرم الله عليه تفاعلاً مع عقيدته التي تملي عليه ذلك.
فيكف عن الاعتداء والظلم والعدوان، ويحل محل ذلك التعاون والمحبة والموالاة في الله عملاً بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
ومن تأمل حال العرب قبل أن يدينوا بهذه الكلمة وحالهم بعدما دانوا بها يتضح له ذلك جلياً، فقد كانوا من قبل أعداء متناحرين يفتخرون بالقتل والنهب والسلب فلما دانوا بها أصبحوا أخوة متحابين كما قال تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [النساء:103].
- التصنيف: