يوميات صائم.. ابتلت العروق

منذ 2014-07-08

لقد حرص الصالحون دائما على تقوية تلك الصلة الشفافة بينهم وبين خالقهم.. وكانوا كثيرا ما يتألمون عند ذكر ذنوبهم وتقصيرهم في حق ربهم.

هي العروق الصائمة، مجريات الدم الدافق المسبح بحمد ربه، المتدفق من قلب طاهر نقي مخلص، تحمل بين جنباتها الحمد على النعماء والشكر على الآلاء ورجاء التفضل بالعفو والمغفرة من الله الرحمن.
هي العروق التي طالما جفت بالإهمال والانشغال والغفلة، ثم ها هي تؤوب وتعود وتتوب وتسجد بين يدي خالقها مستغفرة على مافات ..

إن المتأمل في حياة الناس وطبيعة خلقتهم وسعيهم، ثم نعم الله عليهم وتكرمه عليهم بتيسير أيام للعفو والمغفرة، ليجد حتما على العبد الصالح في رمضان أن يكون في خضوع دائم، وركوع وسجود لا انقطاع لهما، ومناجاة ودعاء لا نهاية لهما أمام ذاك الرب الكريم، لا إله إلا هو.

والعبد الذي ذلل جوارحه لطاعة ربه وسيرها للسير في مدارات مستحباته، وأشربها الرضا به ربا وبرسوله خاتما وبكتابه دستورا ليجد حلاوة الإيمان في كل سكنة وحركة وفي كل لمحة ونفحة.. ففي الصحيح «ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا وبمحمد رسولا وبالقرآن كتابا منزلا».

وفي الحديث القدسي الثابت: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه».

لقد حرص الصالحون دائما على تقوية تلك الصلة الشفافة بينهم وبين خالقهم.. وكانوا كثيرا ما يتألمون عند ذكر ذنوبهم وتقصيرهم في حق ربهم:
كان شداد بن أوس إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: "اللهم إن النار أذهبت مني النوم" فيقوم فيصلي حتى يصبح.
وقال نعيم بن حماد: "كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور من البكاء، لا يجترئ أحدٌ منا أن يسأله عن شيء".
قال الفضيل بن عياض: "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك".
وقام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه بآية يتلوها حتى أصبح: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية: 21] الآية.

وتحيطنا في أيام الصوم ثلاثة مفاهيم إيمانية: أولها: أن الصيام شرع لنا فيه من الأعمال الصالحة ما يكون سببا في تكفير ذنوبنا ورفعة درجاتنا.
وثانيها: أن الله تعالى فيه يوفق إلى العمل الصالح ولولا معونة الله وتوفيقه لما تيسرت لنا الصالحات.
وثالثها: أن الله أعد به - فضلا منه - الأجر المضاعف على الأعمال الذي يصل بالناس إلى يوم منتهاه العتق من العذاب.
وفي عبودية الصيام صار العابدون يتفاوتون في درجاتهم أمام ربهم لحظة ابتلال العروق، وربك لا يظلم الناس شيئا.

وبعض الناس إذا فعل بعض الطاعات والقربات في أيام معدودات اطمأن لعمله وركن إليه وارتاحت نفسه لطاعاته ورضي بما يقدم لله، بل تولد عنده شعور أنه أدى حق الله عليه، وقد يجره هذا الشعور إلى الإعجاب بعمله والسرور به والغرور به، نعم الصالحات تسعد أهل الإيمان، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو صالح، وقلب المؤمنين يفرح بالثواب.. ولكننا نحذر من الاغترار بالعمل، أن تعجبك عبادتك، والصالحون لا يفعلون ذلك؛ لأن الصالحين دائمًا يشفقون من ربهم ويخافون ألا يقبل منهم أعمالهم، ولا يأمنون على أعمالهم أن يكون قد شابها ما يردها عند الله فلا يقبلها سبحانه، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، قالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله عن هذه الآية فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: «لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون، ويصلون، ويتصدقون، ويخافون ألا يتقبل منهم» [أخرجه الترمذي].

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارًا عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه وقد أمر الله تعالى حجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198-199] وقال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، قال الحسن: "مدوا صلاتهم إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل".

 

خالد رُوشه

  • 1
  • 0
  • 1,541

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً