قبل أن تزيغ القلوب

منذ 2014-05-09

ما ضاعت فلسطين إلا بضعف الإيمان، وما دمرت بلاد المسلمين إلا بضياع الإيمان. ولذلك كله لا نلوم إلا أنفسنا، ونلوم ما نحمله في قلوبنا من برود..


الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا، وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المعلم الجليل، المؤيد بجبريل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.


أخي المسلم: إن من أعظم نعم الله علينا أن هدانا للإيمان، فله الحمد، وله الثناء الحسن على أن دلنا على هذا الطريق، وقربنا منه، وأبعد غيرنا، ورزقنا الهداية بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وحرم غيرنا.
فلا إله إلا الله، كم لدعوته من أثر! ولا إله إلا الله كم لرسالته من نفع! ومن اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أرسل به محمدًا صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، ولا ينظر إليه يوم القيامة ولا يزكيه، وله عذاب أليم.


فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث» (صحيح البخاري)، وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (مجمع الزوائد: [8/265])، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، فما أحوجنا إلى الإيمان وما أفقرنا إلى الهداية.
فقد كنا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم أمة لا تاريخ لها، ولا نور، ولا برهان حتى بعث الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]. أمة كانت تعبد الوثن، أمة كانت تسجد للصنم، أمة كانت تشرب الخمر، وتزاول الزنا والفاحشة، فلا مبادئ لها، ولا قيم، ولا سلوك، ولا نظام.
وفي الحديث: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم» (صحيح مسلم).


لكي يحافظ الإنسان المسلم على الإيمان الذي مَنّ الله تعالى عليه به لا بدّ له من أسباب رئيسة، وهذه الأسباب:
1- المحافظة على الفرائض وأعظمها الصلاة:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]. فأول ما نبدأ بالصلاة، وأول ما يُفقد من الدين الصلاة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» (صحيح الترغيب: [568])، وقال صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» (صحيح ابن حبان).
فالصلاة في وقتها تدل على صدق العبد مع ربه، وتجديد الإقرار لله بالوحدانية.


كتب عمر إلى سعد رضي الله عنهما، وهو في القادسية: "يا سعد: الله.. الله.. الله.. في الصلاة، فإن أخوف ما أخاف عليكم ترك الصلاة"، فإذا تركت الصلاة فهو الانهزام بعينه، وإذا تركت الصلاة فهو الفشل، وإذا تركت الصلاة كان الجنوح إلى الزنا، والربا، والخمر، والإلحاد، والخروج عن القيم.
ولذلك عرف السلف الصلاة فقدروها حق قدرها، فقد حضرت الوفاة سعيد بن المسيب سيد التابعين فبكت ابنته عند رأسه فقال: "يا ابنتي، لا تبكي عليّ، والله ما أذن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد".

وقال الأعمش العابد الزاهد الكبير لابنته: "والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة أربعين سنة".
إن مصداقية التمثُّل بهذا الدين هي في الصلوات الخمس.
ولذلك قال عامر بن عبد الله بن الزبير: "يا رب أسألك الميتة الحسنة، قالوا: ما هي الميتة الحسنة؟
قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد"، فاستجاب الله له فقبض روحه وهو ساجد، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، وإيمان ليس فيه صلاة بخشوع ليس بإيمان.


فمن علامات النفاق: ترك الصلاة جماعة، حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: "كنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم نفاقه". وأما نحن فنشتكي أمراضنا وأدواءنا ومصاعبنا!
ما ضاعت فلسطين إلا بضعف الإيمان، وما دمرت بلاد المسلمين إلا بضياع الإيمان. ولذلك كله لا نلوم إلا أنفسنا، ونلوم ما نحمله في قلوبنا من برود، وسلبية لهذا الدين.


أمتي هل لك بين الأمم *** منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي حاسر *** أسفاً من أمسك المنصرم
ألإسرائيل تعلو راية في*** حمى المجد وظل الحرم
أوَ ما كنت إذا البغي اعتدى *** موجة من لهب أو من دم


2- التفكر في آلاء الله:
فمن أسباب المحافظة على الإيمان، عند أهل العلم وأهل الفضل: التفكر في آلاء الله، والتفكر في آيات الله الكونية، والتدبر في آيات الله الشرعية، فكل شيء من الكون يدلك على الله، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17-20].
وينقل بعض الدعاة إلى الله عن عالم من علماء أمريكا، يقول: "من دلّ النحلة على خليتها إذا فارقتها، أعندها هوائي"؟

قال: "بل علمها الله الذي علم كل شيء"، {الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الإِنسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4].
فالذي علّم النحلة هو الله جل في علاه، {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68]، فهو المعلم سبحانه، وآياته تشهد بوحدانيته.


وفي كل شيء له آية *** تدلّ على أنه واحدُ
فيا عجباً كيف يُعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحدُ


فمما يُربي الإيمان، ومراقبة الواحد الديان، واستظهار عظمة الله، والخوف من الله: التفكر في آيات الله.
نقل ابن كثير في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21]، عن الإمام مالك: أن هارون الرشيد سأله: "ما دليل قدرة الواحد الأحد"؟
قال: "اختلاف الأصوات، وتعدد اللهجات، واختلاف النغمات، تدل على فاطر الأرض والسماوات".
والإمام أحمد يقول، في تعريف بسيط لقدرة الباري، ولزيادة الإيمان التي تجدها في هذه الآيات: "يا عجباً، هذه البيضة، أما سطحها ففضة بيضاء، وأما باطنها فذهب إبريز، يخرج منها حيوان سميع بصير، أما تدل على السميع البصير"؟


يقول شاعر الإيمان في السودان:


قل للطبيب تخطفته يد الرّدى *** من يا طبيب بطبه أرداك
قل للمريض نجا وعُوفي بعدما *** عجزت فنون الطب من عافاك
والنحل قل للنحل يا طيرَ البوادي *** من ذا الذي بالشهد قد حلاّك
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمّهُ *** فاسأله من ذا بالسموم حشاك
واسأله كيف تعيش يا ثعبان *** أو تحيا وهذا السم يملأ فاك

 

إنه الله، الذي خلق كل شيء وقدره تقديرًا، ولذلك فإن عقيدة المسلم تزيد وتربو بما يرى ويشاهد من آيات الله البينات، ولذلك وجب علينا أن نتفكر في آيات الواحد الأحد.
 

عن عبد الله بن عباس قال: "بعثَتْ بنو سعدِ بنِ بَكْرٍ ضِمامَ بنَ ثعلبةَ وافدًا إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقدِمَ عليهِ وأَناخَ بعيرَهُ على بابِ المسجدِ ثمَّ عقلَهُ ثمَّ دخلَ المسجدَ ورسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ جالسٌ في أصحابِهِ، وَكانَ ضِمامٌ رجلًا جلدًا أشعرَ ذا غديرتَينِ فأقبلَ حتَّى وقفَ على رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في أصحابِهِ فقالَ: أيُّكمُ ابنُ عبدِ المطَّلبِ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: «أَنا ابنُ عبدِ المُطَّلبِ» قالَ محمَّدٌ قال: «نعم» فقالَ ابنَ عبدِ المطَّلبِ إنِّي سائلُكَ ومُغلِّظٌ في المسألةِ فلا تجدنَّ في نفسِكَ، قالَ: «لا أجدُ في نفسي فسَلْ عمَّا بدا لَكَ»، قالَ أنشدُكَ اللَّهَ إلَهَكَ وإلَهَ من كانَ قبلَكَ وإلَهَ من هوَ كائنٌ بعدَكَ آللَّهُ بعثَكَ إلينا رسولًا، فقالَ: «اللَّهمَّ نعم»، قالَ فأنشدُكَ اللَّهَ إلَهَكَ وإلَهَ من كانَ قبلَكَ وإلَهَ من هوَ كائنٌ بعدَكَ آللَّهُ أمرَكَ أن تأمرَنا أن نعبدَهُ وحدَهُ لا نشرِكُ بِهِ شيئًا، وأن نخلعَ هذِهِ الأندادَ الَّتي كانت آباؤُنا يعبدونَ معَهُ، قالَ: «اللَّهمَّ نعم»، قالَ فأنشدُكَ اللَّهَ إلَهَكَ وإلَهَ من كانَ قبلَكَ وإلَهَ من هوَ كائنٌ بعدَكَ آللَّهُ أمرَكَ أن نصلِّيَ هذِهِ الصَّلواتِ الخمسَ، قالَ: «اللَّهمَّ نعم»، قالَ ثمَّ جعلَ يذكرُ فرائضَ الإسلامِ فريضةً فريضةً الزَّكاةَ والصِّيامَ والحجَّ، وشرائعَ الإسلامِ كلَّها يُناشِدُهُ عندَ كلِّ فريضةٍ كما يُناشِدُهُ في الَّتي قبلَها، حتَّى إذا فرغَ قالَ فإنِّي أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ، وسأؤدِّي هذِهِ الفرائضَ وأجتنِبُ ما نَهَيتَني عنهُ ثمَّ لا أزيدُ ولا أنقص، قالَ ثمَّ انصرفَ راجعًا إلى بعيرِهِ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حينَ ولَّى: «إن يصدُقْ ذو العَقيصتَينِ يدخلِ الجنَّةَ» (مسند أحمد:118/4). فكل شيء يدلك على الله، السماء، والماء، والضياء، والسناء، والمطر، والشجر، والبشر، كل ذلك يقول بأن هناك إلهًا قديرًا حكيمًا.


3- النوافل:
أن تكون عبدًا لله، وليست العبودية، كما تقول المرجئة: إيمان يكن في القلب، وتصديق ومعرفة فقط، فهذا قد يوجد عند فرعون، وقارون، وهامان! الإيمان: صلاة ونافلة، والإيمان: دعاء وبكاء، والإيمان: توجه وتبتل إلى الحي القيوم.

في صحيح مسلم من حديث ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه قال: "يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة"، قال: «أو غير ذلك»؟ قال: "هو ذاك"، قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود»، وعن ثوبان رضي الله عنه في صحيح مسلم: «فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة».
فطريق الجنة مفروش بالنوافل.

وفي صحيح البخاري يقول صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: ما تقرب إليّ عبدي بأحسن مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به»، ومعنى هذا: أن من الناس مقتصدين وسابقين بالخيرات.
أما السابق فله نوافل، وله أذكار، وأنفاسه تسبيح، وله توجه للحيّ القيوم.

ألا إن أعظم ما يحفظ الإيمان: النوافل، ألا إن مصداقية المؤمن تكمن في النوافل، ألا إن كثرة السجود، والنوافل، وقراءة القرآن، سياجات وخطوات أمامية للدفاع عن الإيمان.
ألا إن أعظمنا قدرًا عند الله: أطوعنا للباري تبتلاً وإنابة إليه، وأكثرنا له عبودية تبارك الله العظيم.
وللنوافل فضل عظيم عند أهل العلم، ولهم أخبار بهيجة عن تبتلهم في الليالي، وعن كثرة ذكرهم وتدبّرهم.


وأما قضية الجفاف الروحي التي نعيشها هذا اليوم فسببها إرهاصات وثقافات أتت تقول للإنسان: لا داعي للنوافل، أتت تقول: إن القضايا النظرية لا بدّ أن تحلل تحليلاً عقليًا لنصل إلى حل لهذه الأمة.


وإني لأدعو نفسي وكل مسلم للتقرّب من الله بالنوافل، فإن في ذلك حلاً لمشاكلنا الإيمانية والأخلاقية، وهي كذلك حل لكل مشكلة تعترضنا وتقف في سبيل رقينا وتقدمنا.


إذا الإيمان ضاع فلا أمان *** ولا دنيا لمن لم يُحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين *** فقد جعل الفناء لها قرينا


فلا حياة لنا إلا بالإيمان، وضرورته أهم من ضرورة الماء والهواء، ففقدان الماء والهواء يترتب عليه الهلاك والموت، وأما فقدان الإيمان فهو الموت المحقق في الدنيا والآخرة.
وإذا ما حافظ الإنسان المسلم على إيمانه، فإنه يجد لتلك المحافظة على الإيمان ثمرات هنية ينتفع بها في دنياه وآخرته.


الثمرة الأولى: الحياة الطيبة:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، فالحياة الطيبة حرام على من أعرض عن الله عز وجل، وحرام عليه السعادة والسرور.
قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124-126].
قال أحد الصالحين، بعد ما تاب ورجع إلى الله: "لقد ذقت كل شيء فما وجدت كالتقوى".
وقال إبراهيم بن أدهم وهو مؤمن صالح، مقبل على الله: "نحن في عيش، لو علمه الملوك لجالدونا عليه بالسيوف".

العيش مع الله عز وجل هو بمثابة السعادة الكاملة بالإيمان، الذي جعل بعض الصحابة رضوان الله عليهم يرى الذهب ترابًا لا قيمة له، ويرى القصور كأنها ثكناتٌ من صخور، ويرى المناصب كأنها لا شيء، فإن مثل هذا، بإيمانه ويقينه وإقباله على الله، قد استكمل الإيمان.


الثمرة الثانية: الفوز بالجنة والنجاة من النار:
فأمر النار عظيم؛ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192].
تقول بعض الطوائف من المبتدعة: "نحن نعبد الله، لا طمعًا في جنته، ولا خوفًا من ناره"، فكذبهم أهل السنة والجماعة، وقالوا: "لا، إن من أعظم المطالب عند أهل الإسلام: الفوز بالجنة".

وهو الذي جعل حنظلة الصحابي رضي الله عنه الشاب يترك شهواته، ويترك زوجته في الليلة الأولى، ويترك أهله، وبيته، وأمواله، ويأخذ سيفه، ويقبل على الله، غير مغتسل من الجنابة، لعجلة أن يقدم روحه في سبيل الله. ويقول وهو في الطريق مخاطبًا ربه سبحانه وتعالى: "خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى".


ومن الذي باع الحياة رخيصةً *** ورأى رضاك أعز شيء فاشترى


قُتل، واستشهد في المعركة، وعلم الله أنه صادق، وارتفعت روحه الطيبة إلى الحي القيوم، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27-30]، وبعد أن استشهد التفت صلى الله عليه وسلم فرآه يغسل في صحاف ما بين السماء والأرض بماء المزن.
فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ صاحبَكم حَنْظلةَ تغسِلُه الملائكةُ فسَلُوا صاحبتَه» فقالت: خرَج وهو جُنُبٌ لَمَّا سمِع الهائعةَ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فذاك قد غسَلَتْه الملائكةُ».(صحيح ابن حبان).
فهنيئاً لك الخلود والعيش الطيب يا حنظلة رضي الله عنه.
وهناك الكثير من النماذج التي ربّاها محمد صلى الله عليه وسلم.


فمنهم: جعفر الطيار رضي الله عنه يأتي في معركة مؤتة، فتقطع يمينه، ثم يحمل الراية باليسرى، فتقطع اليسرى، فيحتضن الراية فتكسر الرماح في صدره فيقول مبتسمًا:


يا حبذا الجنة واقترابها *** طيّبة وبارد شرابها
والروم رومٌ قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها


وعن جابر رضي الله عنه قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا جابرُ ما لي أراكَ منكسِرًا؟» قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ استُشْهِدَ أبي، وترَكَ عيالًا ودَينًا، قالَ: قال: «ألا أبشِّرُكَ بما لقيَ اللَّهُ بِهِ أباكَ؟» قالَ: بلَى يا رسولَ اللَّهِ. قالَ: «ما كلَّمَ اللَّهُ أحدًا قطُّ إلَّا من وراءِ حجابهِ، وأحيى أباكَ فَكَلَّمَهُ كِفاحًا. فقالَ: تمنَّ عليَّ أعطيكَ قالَ: يا ربِّ تُحييني فأُقتَلَ فيكَ ثانيةً. قالَ الرَّبُّ تبارك وتعالى: إنَّهُ قد سَبقَ منِّي أنَّهم لا يُرجَعونَ قالَ: وأُنْزِلَت هذِهِ الآيةُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا...} [آل عمران:169] الآيةُ» (سنن الترمذي).


وفي صحيح البخاري من حديث جابر رضي الله عنه قال: "لما قتل أبي، جعلت أكشف الثوب عن وجهه أبكي، وينهوني عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه»".

إن البلشفي الأحمر الذي يدافع عن مبادئ لينين، وماركس، لا يفعل هذا، لأنهم يقاتلون لمبادئ رخيصة، ويفرون من المعارك لأنهم يريدون الحياة.
وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يريدون ما عند الله، ولذا فإنهم يتطلعون دائمًا إلى الجنة، ولا شيء سواها.


الثمرة الثالثة: الجنة:
إنك إذا بُخِستَ حقًا من الحقوق، أو حرمت طعامًا، أو لم تحصل على منصب، أو لم تحصل مالاً، أو شهوة لأجل أن لا يمس إيمانك، فاعلم أن الجنة تنتظرك؛ لأنك بصبرك هذا قد صدقت مع الله.


الثمرة الرابعة: حفظ الله للعبد:
هذا حديث يجب على كل مسلم ومسلمة أن يحفظه لأهميته الكبرى في الاعتقاد، والعمل، والسلوك.
عند الترمذي، وأحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: «يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف».

قال بعض السلف: "والله، إن الله يحفظ العبد الصالح في أهله، وفي ماله، وفي دُويرة أهله"، ومن ضيع الله، ضيعه الله، سنة من سنن الله الكونية، والأمرية الشرعية: أن من ضيع الله في أوامره، ضيعه الله في مستقبله، وفي علمه، وحياته كلها، وبعد مماته، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].


وأخيراً هناك ثلاث وصايا لا بدّ من الاستفادة منها:
1- الوصية الأولى:
الحرص على العلم الشرعي، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
العلم: قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحصيل لمعرفة مصدر التلقي عندنا أساس عظمتنا، وأين حبلنا الممدود من الأرض إلى السماء؟ الكتاب والسنة أساس رقينا.


العلم قال الله قال رسوله *** قال الصحابة هم أولوا العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة *** بين الرسول وبين قول فلان


2- الوصية الثانية:
نبذ الخلاف، وعدم التهويش، وإطاعة الشيطان في التحريش، فإن هذا من الأمراض التي هدم به كياننا، وضربت به أمتنا ضربة ما بعدها ضربة، وأن نتآلف، وأن نتقارب، وأن ننسى الجفاء، وأن نستبعد الكلمة الغليظة بالكلمة السهلة اللينة التي تؤلف القلوب، وتحبب النفوس، وتجمع الشمل.


3- الوصية الثالثة:
أن نتنبه إلى الأخطار المحدقة، نعلم الواقع والمؤامرات التي تحاك ضد الأمة الإسلامية؛ لأننا ما أوتينا إلا من عقر دارنا، وما ابتلينا إلا بذنوبنا وخطايانا، ويوم نسدد، ونجدد مسيرتنا مع الله، ونحفظ الله يحفظنا الله، ويرعانا الله، ويهدينا الله. {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193].
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
ربنا كفّر عنا سيئاتنا، وتقبّل منا أحسن ما عملنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي وعدته لعبادك المؤمنين الصالحين.


هذه بعض الأمور التي أراها نافعة لكل مسلم ومسلمة للحفاظ على دينه وخلقه، وعلى الإيمان الذي هو أعظم نعمة من الله على الإنسان.

راجيًا منه سبحانه وتعالى أن ينفع بهذا العمل المتواضع، آملاً منه سبحانه أن يجعله في ميزان حسناتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

عائض بن عبد الله القرني

حاصل على شهادة الدكتوراة من جامعة الإمام الإسلامية

  • 8
  • 0
  • 10,169

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً