الصدق (1)
الصحفي الذي ينشر خيرا كاذبا، والسياسي الذي يقلب حقائق الأمور؛ ليخدع به الناس، وذو الغرض الذي ينال من الرجال والنساء فينشر الشائعات، والأكاذيب ويلقى التهم أولئك يرتكبون جرائم أشق على أنفسهم وعاقبتهم وخيمة.
صفة كمال لا تليق إلا بجلال الله تعالى اتصف بها الأنبياء والمرسلون والعباد الصالحون. من تحراها ورث الجنان ومن طيعها أصابه الخذلان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
الصدق من الأخلاق الحميدة التي عنى بها الإسلام ورغب العباد فيها لما لها من أثر في بناء الأمة وتقوية أركانها فهو كلمة طيبة ثابتة راسخة آثارها عظيمة وصداها يملأ الآفاق من اتصف بالصدق قوي وعلا ومن حاد عنه صغر وخزي
فما أحوجنا إلى الصدق في زمن عز فيه الصدق والصادقين وشاع فيه الكذب والأفاكين إلا من رحم رب العالمين.
الحمد لله أن بعث فينا نبيا *** يعلمُنا مكارم الأخلاق الزكية
الصدق في اللغة:
ضد الكذب لقوته في نفسه ولأن الكذب باطلا لا قوة فيه فهو مأخوذ من مادة (ص د ق) التي تدل على القوة في الشيء، وقيل هو من الصلب أي القوة.
قال الراغب: الصدق والكذب لا يأتيان في الكلام ماضيا كان أو مستقبلا وعدا أو غير وعد إلا خبرا ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا} [النساء:87].
وأما الصدق في الاصطلاح:
قال الراغب: الصدق مطابقة القول الضمير والمخبَر عنه معًا، ومتى أنخرم شرط من ذلك لم يكن صدقًا تامًّا[1]، فتارة يسمى صدقا وتارة يطلق عليه كذبا، ومثال ذلك: قول الكافر بغير اعتقاد محمد رسول الله. فقد يطلق عليه صدقا لمطابقة القول المخبر عنه، وقد يطلق عليه كذبا لمخالفة القول الضمير. وبالوجه الآخر إكذاب الله تعالى للمنافقين لما قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون من الآية:1]، فقد كذبهم الله تعالى لمخافة قولهم ضميرهم[2].
وقيل: الصدق استواء السر والعلن، والظاهر والباطن، وألا تكذب أحوالك أفعالك ولا أفعالك أحوالك، كما جعلوا الإخلاص لازم والصدق أعم فكل صادق مخلص وليس كل مخلص صادق.
وقال القشيري: الصدق ألا يكون في أحوالك شوب، ولا في اعتقادك ريب، ولا في أعمالك عيب (نضرة النعيم).
من دواعي الصدق:
قال الأمام الماوردي:
العقل من حيث كونه موجبا لقبح الذنب.
والشرع من حيث كونه موجبا للصدق.
والمروءة من حيث كونها مانعة للكذب دافعة إلى الصدق.
وحب الاشتهار فمن أشتهر بالصدق لا يرد قوله ولا يلحقه ندم[3].
كم مِن حسيب كريم كان ذا شرفٍ *** قد شانه الكذب وسط الحي إن عمدا
وآخر كان صعلوكًا فشرَّفه *** صدقُ الحديث وقول جانب الفندا[4][5].
فصار هذا شريفًا فوق صاحبه *** وصار هذا وضيعًا تحته أبدا[6].
مجالات الصدق:
قال ابن القيّم رحمه اللّه: والصّدق ثلاثة: قول وعمل وحال.
فالصّدق في الأقوال: استواء اللّسان على الأقوال كاستواء السّنبلة على ساقها.
والصّدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة، كاستواء الرّأس على الجسد.
والصّدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع وبذل الطّاقة.
فبذلك يكون العبد من الّذين جاءوا بالصّدق. وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صدّيقيّته. كما فعل أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه[7].
وقد أخبر سبحانه أنّه أكرم عباده المتّقين بأن جعل لهم: مدخل صدق ومخرج صدق ولسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق.
وحقيقة الصّدق في هذه الأشياء هو الحقّ الثّابت المتّصل باللّه، الموصل إلى اللّه، وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال، وجزاء ذلك في الدّنيا والآخرة[8].
- محاربة الإسلام للظنون
خلق الله تعالى السموات والأرض بالحق وأمر الناس أن يبنوا حياتهم على الحق فلا يقولوا إلا الحق ولا يفعلوا إلا الحق قال تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت:44].
وحيرةُ الناسِ وشقْوتُهُم إنَّما ترجع إلى ذهولهم عن هذا المنهاج القويم، وإلى تسلط الأوهام والظنون على أفكارهم؛ ولذا حارب الإسلام الظنون؛ لأنَّ الحقائقَ الراسخةَ هي التي يجبُ أنْ تغلبَ على خلق المسلم[9].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »[10].
قال صلى الله عليه وسلم: « »[11].
وقد نعى الإسلام أقوماً جعلوا الظن أساساً لحياتهم فملأ عقولهم بالأوهام وأفسدَ حاضرَهُم ومُسْتَقبلَهُم {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم من الآية:23]، {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28].
ولاحترام الإسلام للصدق حارب الكذابين وشدد عليهم عن عائشة أم المؤمنين قالت: ما كان من خلق ابغض إلى رسول الله من الكذب ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة.
ولقد كان السلف الصالح يتلاقون على الفضائل فإن أحدث فيهم أحدُ أمراً بدا كالأجرب بين الأصحاء فلا يطيبُ له مقامٌ حتى يبرأ من علته [12].
- المؤمنُ لا يكذبُ ؛ لأن الكذبَ رزيلةٌٌ محضةٌٌ تُنْبِىءُ عن مدى تغلغل الفسادُ في نقس صاحبها فهو آيةٌ من النفاق، هناك رذائل قد تصيبُ الإنسانَ تشبهُ الأمراضِ التي تعرضُ للبدن ولا يصحُ منها إلا بعد علاجِ: كالخوف، والجبن، وقد تكون هناك أعذار لمن يشعرون بوساوس الحرص، أو الخوف، ولكن لا عزر ألبته لمن يتخذون الكذب خلقا يعيشون به على خديعة الناس
قال رسول الله: « »[13]. قيل لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : أيكونُ المؤمنُ جبانًا؟ قال : « »، فقيل له: أيكون المؤمنُ بخيلًا؟ فقال: « »، فقيل له: أيكونُ المؤمنُ كذَّابًا؟ فقال: « »[14].
- ضروب الكذب:
الكذب على الناس، فالصحفي الذي ينشر خيرا كاذبا، والسياسي الذي يقلب حقائق الأمور؛ ليخدع به الناس، وذو الغرض الذي ينال من الرجال والنساء فينشر الشائعات، والأكاذيب ويلقى التهم أولئك يرتكبون جرائم أشق على أنفسهم وعاقبتهم وخيمة
قال رسول الله: « »[15].
وكَذِبُ الحُكامِ على الشعوب أشدً وطئةً فكِذبَةُ المنْبَرِ بلقاءٌ مشهورةٌ قال رسول الله: « »[16].
الكذب على الله ورسوله وقد توعدهم اله تعالى بوعيد شديد {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]،{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:17]،{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68].
ومن هذا الافتراء على الله كذب اليهود والنصارى فقالوا كما أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18].
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]،{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ} [التوبة:30]، {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73]،
والافتراء على الرسول بأن ينسبوا إليه شيئا لم يقله ولم يفعله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »[17].
وكذلك ما أدخله هؤلاء الكذابون في دين الله وأتخذه العوامُ دينا فقد حزرنا النبي من هؤلاء فقال: « »[18]. فهم الرويبطة الذين حذرنا منهم الرسول، فقيل: وما الرويبطة ؟ قال: « ة»[19].
وقال: « »[ 20].
فليست الكراهة لشخصه وإنما الكراهة لفعله وما ألحقه في الدين من بدعة.
وإذا الأمور تزاوجت *** فالصدق أكرمها نتاجا
الصدق يعقد فوق رأس *** حليفه بالصدق تاجا
والصدق يقدح زَنده *** في كلِّ ناحية سِراجا [21]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (الزريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني [270]).
(2) (المفردات للراغب [277] بتصريف).
(3) (أدب الدنيا والدين [261-262] الموسوعة الشاملة).
(4) الفند: الخطأ في القول والرأي.
(5) (القاموس المحيط [307] للفيروزآبادي).
(6) (روضة العقلاء[55] لابن حبان البستي).
(7) (مدارج السالكين لابن القيم [2/281]).
(8) (مدارج السالكين لابن القيم [2/ 281]).
(9) (الأخلاق للغزالي بتصريف).
(10) (البخاري [7/19] الموسوعة الشاملة).
(11) (الترمذي ت. شاكر [4/698]).
(12) (مكارم الأخلاق للغزالي).
(13) (الألباني (مشكاة المصابيح [4788] إسناده ضعيف).
(14) (الألباني (الذب الأحمد [43]).
(15) (البخاري [1386]).
(16) (الهيثمي (مجمع الزوائد [6/258]).
(17) (البخاري [1291]، ومسلم [4]).
(18) (مسلم [7]).
(19) (ابن ماجة [4036]).
(20) (علاء الدين مغلطاي (شرح ابن ماجه: [3/598]).
(21) (روضة العقلاء[53] لابن حبان البستي).
- التصنيف:
- المصدر: