رسالة مفقود عراقي إلى أُمِّه!

منذ 2014-05-10

أمي الحنونة تحية طيبة لكِ، وسلام من الله عليكِ أينما كنتِ، ولا أعرف، فداكِ روحي- هل أنتِ من الأحياء، أم من الأموات، مثلما أنكِ لا تعرفين مصيري منذ أن غادرتُ بيتنا قبل سنتين؟!

أمي أتذكرين حينما خرجتُ من البيت ذاهبًا لجامعتي في يوم تخرجي.. ولم أعد إلى بيتنا الطيب حتى الآن! في طريقي للجامعة أوقفني مجموعة من المسلحين الرسميين في نقطة تفتيش عسكرية حكومية، وطلبوا هويتي الشخصية التي أكدتِ عليَّ أن لا أنساها لأعود إليكِ سالِمًا، وما أن أعطيتهم هويتي -يا أمي- حتى طلبوا مني الترجُّل من السيارة، وبقية الركاب لا يتكلمون خوفًا من الاعتقال، وحينما نزلتُ وجدتُ نفسي في عالم آخر، فأنا الشاب المليء بالأحلام والرجولة سمعتُ من الشتائم والمسبَّات على شرفي وعِرضي ما لم أكن أتوقع أن أُذني تتقبَّله! المهم يا أمي اقتادوني لسيارة مكشوفة، وأخذوني معصوب العينين إلى مكانٍ لا أعرف هل هو بيت، أم مُعتَقل، وهل كنتُ في العراق، أم في بلدٍ آخر؟!

أمي الحنونة:

حينما وجدتُ من بين الحرس منْ يملك بعض الغيرة والنخوة، وطلبتُ منه أن يوصل لكِ هذه الرسالة، غامرتُ بروحي من أجل هذه الورقة؛ لأنني لم أكن أتوقع أن يكون من بين هؤلاء القتلة رجلٌ طيب يحمِل ذرة من الغيرة، إلا أنني حمدتُ الله ملايين المرات لأنني ما زِلتُ على قيد الحياة بعد أن مرَّت بضعة أيام دون أن أُعاقب، أو أُقتل بسبب هذه الرسالة.

أمي الطيبة:

مرَّت أيام.. وأيام، وأنا لا أعرف هل سيقتلونني أم لا، ولا أعرف هل يريدون فدية منكم، أم أن الأمر للتخويف فقط؟

وأنا منذ عامين، وأنا ميَّت بين الأحياء لا أدري بأيةِ لحظة يدخل عليَّ منْ يُفرِغ مسدسه براسي ليُنهي مأساتي ومأساتكم..

أعيش على كِسرة من الخبزِ وقدحٍ من الماء وصحنٍ نصفه فارغ، والنصف الآخر في آخره بعض حباتٍ من الرز الممزوجة بالمرق.

أمي الغالية:

أنا أُقبِّل الأرض التي تحت قدميكِ، من أجل أن ترضين عني، أرجوكِ من أجل حبكِ لي سامحيني إن كنتُ في يوم من الأيام قد أزعجتكِ، سامحيني فإن حبكِ هو الحب الصادق والفريد في هذه الدنيا، وكل ما سوى حبكِ هو حبٌّ ربما يكون في غالبه مليء بالزيف والزور.

أمي الحبيبة:

حينما وصلتُ إلى القبو، أو السجن، أو المُعتقل عرفتُ -فيما بعد- أنه لأحد الأحزاب الطائفية وتعرفين يا أمي أنه -مع الأسف الشديد- في أرقى المناطق العراقية، هل تُصدِّقين يا أمي إنني أحيانًا أسمع أصوات الآذان والأغاني والدبكات العراقية، والضحكات الطفولية، البريئة والصرخات القاسية القاتلة، وكلها كانت قريبةً مني!

لم أكن أتوقع أن ما حصل -ويحصل لي- هو حقيقة يمكن أن تقع في بلادنا، ومن رجالٍ يقولون نحن من العراقيين؟!

هؤلاء القتلة يدَّعون أنهم من العراقيين، لا يا أمي إنهم ليسوا مِنَّا هم غرباء يحملون الهوية العراقية، ومصيرهم الذل والخذلان والهزيمة بقوة الله، ثم بوحدتنا وحُبنا لبلادنا.

أمي الطيبة الحنونة:

روحي فداكِ، روحي فِداءً للعراق الغالي، لا تهتمي يا أمي المهم أنتِ بخير، والعراق بخير.

يا أمي إن قدَّر الله لي أن أعيش فسأعود لكِ، وسأبقى خادِمًا لكِ طوال عمري، وإن قدَّر الله لي أن أموتَ مظلومًا، فهذا قدري، فأُقبِّل يديكِ يا أمي، وأطلب منكِ أن لا تحزنيِ على فراقي، واكتبوا على قبري (هذا قبر الشاب فلان.. الذي ظُلِم من أبناء جِلدته، سلَّمهم، وسلَّم أمره لله الواحد الأحد).

أمي أوصيكم إن مِتُّ أن لا تأخذوا بثأري منْ أي أحدٍ من أبناء جلدتي، حتى لو عرفتم قاتلي؛ لأنني من أجل ديننا، ومن أجل حُبي للعراق سامحته، وتنازلتُ عن دمي في الدنيا، والله يحكم بيننا في الآخرة.

فأرجوكِ يا أمي سلِّمي لي على إخوتي، وقولي: لهم إنني أحبهم في الله، وأرجوكم نفِّذوا وصيتي.

أمي سلِّمي لي على كل أهل محلتنا، أنا أعرف أنهم يُحبونني وأنا أُحبّهم، وقولي لهم منْ قتلني لا يُمثِّل أي أحدٍ من العراقيين، ونحن على عهد الأخوة والمحبة بيننا.

أما زوجتي فقولي لها إنني أحبها، وقدري أن أتركها مُرغمًا، وقولي لها لا تحزني عليَّ، فإنني لن أنساها، وستبقى هي الحبيبة الأولى والأخيرة، أتمنى أن أعود لكِ ولها.

أمي إنني مشتاق لكل الأحبة، ولبيتنا الجميل، ولأصدقائي، ولمسجد الحي، ولكل الناس الطيبين..

وصدق القائل:

سلاماتٌ.. سلاماتٌ..

إلى بيتٍ سقانا الحب والرحمة..

إلى أزهاركِ البيضاء.. إلى تختي.. إلى كتبي..

إلى أطفال حارتنا.. وحيطان ملأناها..

يا أمي ادعي لي.. لعل الله يرحمني برحمته وأعود لكِ لأخدمكِ واخدم بلدي الحبيب، اللهم آمين.

 

جاسم الشمري  | 26/7/1432 هـ
[email protected]

 

 

  • 2
  • 0
  • 1,880

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً