صاحب المرقعة أوْعَى من كل الحكام
منذ 2008-04-07
كتب أحد الكتاب من غلاة العلمانيين مقالًا طويلًا بعنوان "حتى لا يحكمنا لابسو المرقعات". ومن كلماته. "عجبًا لهؤلاء الإسلاميين يريدون دولة يحكمها البدو بشريعة الغاب، ويتولى أمرها الحفاة العراة، ولابسو المرقعات، وآكلو الضب. ونسوا أنّنا في عصر العلم،
كتب أحد الكتاب من غلاة العلمانيين مقالًا طويلًا بعنوان "حتى لا يحكمنا لابسو المرقعات". ومن كلماته… "عجبًا لهؤلاء الإسلاميين يريدون دولة يحكمها البدو بشريعة الغاب، ويتولى أمرها الحفاة العراة، ولابسو المرقعات، وآكلو الضب. ونسوا أنّنا في عصر العلم، والعقل، والمخترعات، حيث السيادة للعلم، وللعلم فقط لا للحفاء ولا للمرقعات".
وأقول لهذا العلماني المسرف على نفسه والمسرف على غيره، والجائر على الحقيقة أنّه بالغ وأسرف وتعدى خطوط الأدب في التعبير عما يعتقد، فمن أصحاب المرقعات هؤلاء من أثبت أنّه أوعى وأقدر وأذكى من حكام عصرنا جميعًا. وأنا أعلم ـ كما صرح في بعض جلساته الخاصة ـ أنّه يقصد بلابسي المرقعات عمر بن الخطاب. وأحب أن أطرح أمامه مشكلة واحدة عجز حكامنا عن التغلب على ما هو أقل منها بكثير… بكثير جدًّا، وأقصد بها مشكلة المجاعة في عام الرمادة أيام حكم عمر بن الخطاب سنة 18 هجريًّة، وسميت بعام الرمادة؛ لأنّ الرمادة معناها الموت، وقد هلك في هذه المجاعة، ثلثا النّاس، ولم يبق منهم إلاّ الثلث، وهو عامٌ انقطع فيه المطر تمامًا حتى اسودت الأرض، وصارت في لون رماد الفحم من انعدام الماء وحرارة الشمس، فخلت تمامًا من الشجر والعشب، وفيه هلكت الماشية، وجاع النّاس، وبلغ بهم الجوع أن استفوا الرمة (أي كانوا يحرقون جلد الحيوان وعظمه البالي ويدقونه ويستفونه). وفيه كلحت وجوه العرب واسودت فهي في لون الرماد من الجوع، وفيه كانت الريح تسفي بشدة ترابًا أسود كالرماد.
وفي هذا العام كما يقول الطبري: "جعل الوحش، يأوي إلى الإنس، وجعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنّه لمقفر". فماذا فعل عمر تجاه هذه المجاعة المفاجئة القاتلة؟
كتب العقاد في عبقرية عمر: "إنّ هذا الرجل لم تواجهه في ولاياته الواسعة صعوبة أكبر من ذلك... وكان اضطلاعه بتفريج الأزمات كاضطلاعه بتدبير الحاجات إلى التعمير والتنظيم".
بهذه الآليات من حزم وعزم، وقدرة على التدبير ومواجهة المشكلات، والنوازل استطاع عمر أن يواجه نكبة الرمادة التي نزلت بالمسلمين في جزيرة العرب، ولم يكن لها من قبل شبيه.
فبادر بإرسال كتب الاستغاثة والاستمداد إلى ولاته في الأمصار، وهي تشبه البرقيات في عصرنا، لما تتسم به من طوابع السرعة، والإيجاز والمباشرية، زيادة على توهج الشعور، فالمجال ليس مجال شرح وتفصيل، ومقدمات طوال، وعرض بلاغي؛ لأنّ المجاعة المهلكة لا تسمح بالاتساع لمثل ذلك، والوقت في هذه الحال عزيز عزيز.
وجاءت استجابة الولاة سريعة عملية، من عمرو بن العاص الذي أرسل إليه سفنًا بالبحر وقوافل بالبر.
وقدم عليه أبو عبيدة بن الجراح بأربعة آلاف راحلة (ناقة) محملة بالطعام، وبعث إليه معاوية بثلاثة آلاف بعير تحمل الدقيق، وبعث إليه بثلاثة آلاف عباءة، وبعث إليه والي الكوفة بألفي بعير تحمل الدقيق.
وكان أكثر سكان الصحراء أشد تأثرا بالمجاعة من غيرهم، فقصد المدينة آلافٌ منهم يعانون الجوع، فوكل عمر بعض الصحابة بالطبخ ومد الموائد لهم. واتخذ من مدينة الجار (وهي مدينة تقع على ساحل البحر الأحمر) مركزًا من مراكز التوزيع للمواد على القبائل المتفرقة، وكان عمر رضي الله عنه يوصي رسله وعماله بما يجب أن يفعلوه، ويقولوه، ويوجهوا إليه من أصابهم القحط والجوع.
فيروي أنّه عند قدوم أول الطعام وصى رسوله بما يأتي:
1ـ أن يعترض للعير (قافلة الطعام) فيميلها إلى أهل البادية.
2ـ أن يتخذ أهل البادية من الظروف (أكياس الطعام بعد تفريغها) لحفًا يلبسونها.
3ـ أن ينحر لهم الإبل، فيأكلوا ما شاؤوا من لحومها، ويدخروا ما شاؤوا من دهونها.
4ـ أن يصنعوا من الدقيق ما شاؤوا، ويدخروا منه كذلك.
وفي عام الرمادة أخَّـر عمر الصدقة، أي لم يجمع الزكاة من النّاس، فلما أمطرت السماء، وأذهب الله عن الأمة المحل والجدب، أمر سعاته في العام التالي أن يأخذوا عقالين، (أي زكاة عامين) فيقسموا عقالًا بين المحتاجين من أهل الناحية، ويقدموا على عمر بعقال.
وبعد أن أتى الله بالفرج، وأمطرت السماء، خشي عمر أن يستمرئ الأعراب الذين نزلوا بالمدينة، وما حولها حياة المدر (أي الحياة الحضرية)، ويركنوا إلى الدعة، والاسترخاء، فعمل على إخراجهم إلى منازلهم الأولى في البادية، وأعطاهم ما يكفيهم وما يحملون عليه ـ من الإبل ـ وكان يشرف على ذلك بنفسه.
وعاش عمر رضي الله عنه عام الرمادة حزينًا مهمومًا، على قوة عزمه، وحزمه، وصبره، وقوة إرادته، حتى قال خادمه أسلم: "كنا نقول: لو لم يرفع الله سبحانه وتعـالى المحْل (الجدب) عام الرمادة لظننا أن عمر يموت همًّا بأمر المسلمين".
وكان عمر يعلم علم اليقين أهمية التقوى، وشحن المسلمين بالطاقة الروحية التي تستمد من الدعاء، والاستغفار وطاعة الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [سورة الطلاق: 2 ـ 3]. فكان دائم الدعاء، وتذكير النّاس بالله.
ومن أهم عوامل التوفيق في التصدي لهذه النكبة، والتغلب عليها أنّ عمر رضي الله عنه كما ذكر الدكتور محمد حسين هيكل ـ رحمه الله ـ كان "القدوة المثلى" للنّاس في كل الأمور، فنزل بعيشه إلى مستوى حياة الفقراء الذين لم يكونوا يجدون إلاّ مائدته يجلسون إليها مع الألوف الجائعين لينالوا ما يُبقى عليهم الحياة، فكان يأكل معهم، ولا يرضى أن يتناول طعامه في بيته، حتى لا يظن أحد أنّه يؤثر نفسه بشيء لا يناله ذو الفاقة من قومه، وقد حقق بتصرفه هذا غرضين جليلين:
أولهما: الشعور بألم النّاس شعورًا يدفعه إلى مضاعفة الجهد في العناية بهم، والعمل لدفع الضر عنهم.
وآخرهما: طمأنينة السواد إلى أنّ أمير المؤمنين يشاركهم في بأسائهم وضرائهم، فلا تثور نفوسهم، بل يظلون راضين، بكل ما يصيبهم؛ لأنّ أكبر رجل في الدولة يشاركهم فيه. وقد بلغ عمر من هذين الغرضين خير ما يبلغه حاكم في أية أمة من الأمم.
وبهذه القدوة كان يلزم أهله، فكان إذا أراد أن ينهي النّاس عن شيء، تقدم إلى أهله، فقال: "لا أعلمن أنّ أحدًا وقع في شيء مما نهيت عنه إلاّ أضعفت له العقوبة".
وفي عام الرمادة حرم على نفسه السمن واللحم. قال خادمه أسلم: "... كان يأكل كسرات الخبز الجاف مغموسة في الزيت"، فقال: يا أسلم، اكسر عني حره بالنّار. فكنت أطبخه له، فيأكله، فيتقرقر بطنه عنه، فيقول: "تقرقر ما تقرقر، لا والله لا تأكله (السمن) حتى يأكله النّاس".
وبذلك التقت في عمر رضي الله عنه محاسن الذات، ومكرماتها قولًا وفعلًا، بحسن التدبير والتخطيط، ووراء كل أولئك إيمان بالله لا يضعف، وثقة بالله لا حدود لها، ومعايشة حقيقة صادقة للأمة في آلامها وآمالها، وكل أولئك يثمر النجاح والفلاح والتوفيق، والنصر الفائق المبين.
وتلقت الأمة المحنة متدرعة بالصبر، عائذة بالتقوى، فلم يهتز إيمانها، ولم تفقد يقينها وثقتها بالله، فاجتازت هذا الابتلاء بتوفيق، ونجاح بعد أن منحها مزيدًا من القوة، والصقل، والقدرة، واليقين.
هذا هو عمر البدوي الخليفة لابس المرقعة، فانظر أيّها العلماني المسرف على نفسه، وعلى الحق، وعلى غيره، كيف استطاع بحاسته الإيمانية، وفكره الثاقب، وهو الذي لم يدخل مدرسة، ولم يلتحق بجامعة، انظر إليه كيف استطاع أن يحل هذه المشكلة القاتلة، ووازن بين ما عرضته أنا في السطور السابقة، وبين سياسة حكامنا أمام مشكلات أقل وأصغر وأبسط بكثير وكثير جدًّا ممّا حدث أيام هذا الحاكم البدوي لابس المرقعة.
وأختم مقالي بالكلمة المأثورة "إذا لم تستح فاصنع وقل ما شئت"، والحياء شعبة من الإيمان، هداك الله وهدانا أجمعين.
د. جابر قميحة
بتاريخ 31 - 3 - 2008
المصدر: منقول
- التصنيف:
عبد الخالق
منذمحمد نجيب يوسف
منذمحمد الطاهر
منذأبو الرجال السواني
منذخالد تليج
منذدموع
منذأبوالبراء
منذمحب لعمر
منذام يحيا
منذ