أب فقد معناه
إن الدنيا بجميع زخرفها وزينتها لا تساوي نظرة راضية من الفتاة لوالدها ليلة عرسها تبتسم في سعادة، فلا يدري الأب إن كان قلبه في جسده أم راح يشاركها ركب سعادتها.
كانت حروفها باكية كأنها قد عجنت بدموعها، حين تستمع إليها فكأنك تستمع إلى قلب مذبوح ينطق بشفتين!
قالت: ما أظن فتاة على وجه البسيطة قد اكتحلت عيناها مثلي بالأسى، لقد أسقمتني الهموم وأذابتني حتى كأنها محدودة بي من كل ناحية، قلت: أفصحي قالت: إن أبي هداه الله ينظر إليّ على أنني سلعة وليس فتاة، بل وابنة له، فكلما تقدم لي شاب يملك من نفسه همة الشباب، ومن دينه أمانة وخلقًا رفضه أبي بحجة أنه متوسط الحال، فهو لا يملك ما يملكه أبي من ثروة، ولم يكن في نظره إلا أحمق قد تطاول فقره على ثروة أبي، ثم لا يلبث أبي أن يعرض عن الشاب إعراضًا يشعره بالطرد، فيخرج منكسرًا على أنه لا يعيبه إلا عيب واحد لا تراه إلا عين واحدة هي عين أبي، كم لمحت له على استحياء، وصرحت له أمي، لكنه لم يفلح معه تلميح ولا تصريح حتى تجاوزت الثلاثين من عمري وأنا أشرب حزني، أرى الناس من حولي يعيشون ثم يموتون، وأنا وحدي التي جاءت الدنيا لتعيش سكرات الموت ثم تموت، فالموت بالنسبة لكل الناس واحد وموتي متكرر! ضاقت بي الدنيا ومللت حياتي، ورحت أسأل الله الموت لأستريح من همي وغمي، لكني لم أجد الموت!
قاطعتها وأنا أرى دموعا تسقط من عيني ما استأذنت إلا رفقًا بنيتي بقلب شيخ كبير تكاد كلماتك أن تفتك به وتقطع حصونه، توقفت الفتاة عن الكلام، لكنها لم تتوقف عن النشيج، عندها شعرت بعاطفة الأبوة تتحرك في كل ذرة من ذرات كياني، كدت أن أقول لها: ما أملك لأبيك أن نزع الله من قلبه الرحمة، لولا أني خشيت أن يحملها قولي إلى ما لا يحمد عاقبته، عدلت عن هذا القول، ورحت أسمعها كلمات طيبة، وأنا أثق أن كلماتي وإن خففت شيئا من آلامها، لكنها أبدًا لن تزيلها اللحظة الوحيدة التي تمنيت أن أجمع آباء الدنيا فأسألهم الواحد بعد الآخر هل أنت على ما قالت؟
يا إلهي ما أعجب أمر هذا الأب الذي لطالما سأل ربه الولد، فلما كان له ما تمنى إذا به يئده حيًا: بيده، ألا ما أشد ظلم الأب عندما يستعذب عذاب ابنته، ويغض الطرف عن مطالب فطرتها، فإذا هو يفعل بها كما يفعل تاجر الجواري في سوق النخاسة، يقدم فلذة كبده لمن يدفع أكثر أو يعود بها إلى البيت منتظرًا من يروي غلته ويشبع نهمه، لا يبالي بمشاعر ابنته وحسرتها، فإذا هي تتأوه تأوه المذبوح فتذبل ثم تذبل ثم تموت، أو تعيش وهي تنظر إلى أبيها نظرة المظلوم إلى ظالمه اللهم غفرًا غفرًا.
لقد وضع الله في الأب عاطفة فطرية تجعله محبوبًا من أبنائه، لأنه دائمًا ما يقدم لهم أسباب محبته من رصيد تلك الفطرة، فمن أين جاء هذا الركام ليغطي صفاء الفطرة وروعتها؟ حتى غدا بعض الآباء يحرمون بناتهم حقوقهن مقابل أن يملأ الواحد منهم حجره مالًا، ومعه يفقد معناه الجميل، ليصبح في عيون من حرمهم لا يزيد عن قدر هذه الوردة التي ذبلت، فهي لا تزيد عن مجموعة من القش مجتمعه.
إن الدنيا بجميع زخرفها وزينتها لا تساوي نظرة راضية من الفتاة لوالدها ليلة عرسها تبتسم في سعادة، فلا يدري الأب إن كان قلبه في جسده أم راح يشاركها ركب سعادتها، تحتضنه مودعة، ومعه تودع عالمها الصغير إلى عالم أكبر قد رسمت خطوطه بأحلامها، وصنعت معانيه بيدها مع رفيق دربها، إنها ابتسامة مشرقة تعطي للأب معناه، وتغمر قلبه سعادة، تلك السعادة التي يقولون عنها إنها الدنيا التي هي أوسع من الدنيا.
محمد عبد القادر
- التصنيف: