قراءة شرعية في أوراق المحنة (1)

منذ 2014-05-13

أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟!، لا يوجد عاقل يرى المحنة التي وقعت ببلادنا ثم لا يتأمل فيها ليراجع نفسه أولا، ثم ليتلمس مراد الله تعالى وحكمته في تصريفها. ولا يوجد أحمق يرى هذه النازلة، إلا وسارع لتبرئة ساحته، وإلقاء اللوم على كل أحد سواه. إن المحنة إذا أحسنا النظر فيها والتعامل معها، تحولت إلى منحة عظيمة ورحمة واسعة، ولا يظلم ربك أحدا.

أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟!، لا يوجد عاقل يرى المحنة التي وقعت ببلادنا ثم لا يتأمل فيها ليراجع نفسه أولا، ثم ليتلمس مراد الله تعالى وحكمته في تصريفها. ولا يوجد أحمق يرى هذه النازلة، إلا وسارع لتبرئة ساحته، وإلقاء اللوم على كل أحد سواه. إن المحنة إذا أحسنا النظر فيها والتعامل معها، تحولت إلى منحة عظيمة ورحمة واسعة، ولا يظلم ربك أحدا.

إن الإجابة العامة للتعامل مع المحنة الحالية، لن تخرج عن العودة للكتاب والسنة، ففيهما الفلاح، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم
«تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله تعالى وسنتى»، وهو ما قصده الإمام مالك رحمه الله بقوله: "لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".

لا أزمة تستعصي على الحل في وجود القرآن والسنة، ولا حيرة في المنهج المطلوب في ظلهما، لكن المشكلة ستبقى في حسن الفهم، وفي بعث الأمة من جديد بنفس الأدوات ونفس الهدايات المبثوثة في القرآن والسنة، وبذات الطريقة التي تعامل بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن والسنة. لن تجد أحدا يختلف حول هذه المقدمات، ولكن يبدأ الاختلاف عند التطبيق.

هذا البحث يعتني بالنظر في الأسباب التي أبعدتنا عن فهم الصحابة الكرام للقرآن والسنة، وقد بلغت بالاستقصاء والتأمل ثمانية أسباب، أرجو إذا تواصينا بها وتشاورنا حولها، أن نضع أقدامنا على طريق الخروج من هذه المحنة العاتية، إلى سبيل التمكين وريادة البشرية إلى رحمة الله تبارك وتعالى.

  • السبب الأول: تقطيع القرآن وتجزيئه وتبعيضه، بحيث نأخذ منه فقط ما يوافق فكرنا، أو حزبنا، أو جماعتنا، أو كلام قادتنا أو مشايخنا، ونعرض عما سوى ذلك في القرآن الكريم.
    إن القرآن وحدة واحدة، ومنهج متكامل يفسر بعضه بعضا، وحاشا أن يكون كتاب الله تبيانا لكل شيئ، ثم لا يكون تبيانا لنفس الكتاب!. لقد وقع بعضنا في هذه المصيدة، التي وقع فيها اليهود من قبلنا فاستحقوا وعيد الله وتهديده لهم {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. والاستفهام هنا للتهديد والتوبيخ والتقريع على التفريق بين أحكام الله تعالى، وسأضرب هنا أولا أمثلة عملية نراها متكررة حولنا، لنلقي الضوء على هذا المعنى الذي أدى إلى انحرافات خطيرة عن المنهج السوي:
  1. يستشهد كثيرون بقوله تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، وهو قول حق ولا شك، ولكنه فقط بعض الكتاب. وفي البعض الآخر {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم فمجموع الآيتين يجعل الأصل في الدعوة مع الغافلين والتائهين وطلاب الحق يكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بأحسن من هذا، ولكن مع الظالمين بالمواجهة والحزم.
     
  2. تنكب بعض الجماعات على نفسها ذكرا وتعليما وتهذيبا، وتنعزل عن المجتمع، ويحتجون بقوله تعالى {فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ويرددونها كثيرا، ويتركون مهمة الرسل ومهمة خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، بدعوة الخلق والصبر على أذاهم، وكأن الآية الكريمة رخصة لترك الناس يعيثون في الأرض فسادا، مع أن الآية تهديد لهؤلاء بمصيرهم في الآخرة، والمؤمنون مطالبون بدعوتهم، وعدم السكوت على باطلهم، بالدعاء لهم ودعوتهم بالقول الحسن والمثل الجميل، إلى أن يصل الأمر الإلهي {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}، فأين هذا من اعتزالهم بالكلية؟
     
  3. يستشهد كثيرون بالأمر الإلهي لموسى عليه السلام عندما أرسله إلى فرعون {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}، لبيان أسلوب الدعوة حتى مع فرعون بالرفق واللين والرحمة، وهو قول حق ولا شك، ولكنه فقط بعض الكتاب. وفي البعض الآخر، أوامر إلهية أخرى لموسى عليه السلام بالصدع بالحق في وجه الطاغية، وأن يطالبه بالكف عن تعذيب بني إسرائيل، وأن يحررهم من قمعه وطغيانه، والأسلوب هذه المرة حازم حاسم، {اذهب إلى فرعون إنه طغى}، وقوله {فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى}. وأكثر هذه الآيات مكية، خوطب بها المسلمون الأوائل وهم مستضعفون .. فتأمله.
     
  4. وقد يقع التجزئ والتبعيض في نفس الأمر، وهذا أعجب وأبعد، كما نرى في امتثال قوله تعالى {وشاورهم في الأمر وقوله سبحانه {وأمرهم شورى بينهم}، فيمتثله البعض فقط داخل حزبهم أو جماعتهم، ولا يشم رائحة الشورى مع باقي المسلمين. وقد نفهم هذا ونقبله في الشئون والأنشطة الحركية للحزب أو الجماعة، ولكن في الأمور العامة التي تخص الأمة بأسرها، فلابد أن تستشار الأمة كلها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. والشاهد، أن التبعيض هنا في تنفيذ نفس الأمر.
     
  5. بعضنا لا يعرف من القرآن إلا ما يحض على مكارم الأخلاق، ولا يتكلم إلا في هذا، وهذا حق ولا ريب، ولكنه فقط بعض الكتاب، وبقية الكتاب بقية الإسلام من عقيدة وشريعة ومعاملات. ولقد رأينا جماهير عريضة ربما يتبعون أحد الدعاة أو العلماء، فتستقيم أخلاقهم، ويهذب سلوكهم، ولكنهم يتعاملون بالربا دون أن يطرف لهم جفن، ويوالون أعداء الدين دون أن يستشعروا أدنى حرج. وقد يتوسع بعضنا فيهتم بالعقيدة والعبادة والأخلاق، ثم يترك الشريعة ونظام الحياة. هذه الممارسات خرجت مسلمين في مواضع، علمانيين في مواضع أخرى!
     
  6. هذا الاجتزاء والانتقاء يصادم نصوص القرآن التي نراها أحيانا تأتي بنفس الصيغة، بل وفي نفس السورة. فالذين يركزون فقط على العبادات، يقرأون ونقرأ معهم قوله تعالى {كتب عليكم الصيام ثم في نفس السورة {كتب عليكم القصاصو {كتب عليكم القتال}. هو منهج واحد متكامل.

إن قوله تعالى {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} هو إنكار للتناقض الواقع، وإلا فالإيمان ببعض الكتاب ليس منكرا وحده، إلا إذا ضم إليه الكفر بالبعض الآخر. لقد عانى المسلمون قديما من ظهور البدع، وهي إضافة للدين ما ليس فيه، والتقرب إلى الله بما لم يشرعه، ولكننا الآن نعاني ممن يريدون أن ينتقصوا من الدين ما هو من صلبه وخصائصه وأصوله.

إن هذا الاتجاه لا يعني أن ما يجتزئه البعض باطل، بل هو حق في ذاته، لكنه يُذم إذا تُرك غيره مما يكتمل به الحق الذي أراده الله تعالى. 

يقول شيخ الأزهر الراحل، الشيخ محمد الخضر حسين تعليقا على التهديد الإلهي: "وإنما سمى سبحانه عصيانهم بالقتل والإِخراج من الديار كفراً؛ لأن من عصى أمر الله تعالى بحكم عملي معتقداً أن الحكمة والصلاح فيما فعله، بحيث يتعاطاه دون أن يكون في قلبه أثر من التحرج، ودون أن يأخذه ندم وحزن من أجل ما ارتكب. فقد خرج بهذه الحالة النفسية عن سبيل المؤمنين، وفي الآية الكريمة دليل واضح على أن الذي يؤمن ببعض ما تقرر في الدين بالدليل القاطع ويكفر ببعضه، يدخل في زمرة الكافرين لأن الإِيمان كل لا يتجزأ".

محمد هشام راغب

كاتب وداعية إسلامي

  • 6
  • 0
  • 5,708

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً