شجرة ولا عمر لها
وتزداد نظرية المؤامرة وضوحاً عندما تلاحظ الارتباط بين ظهور هذه الحكايات وبين انتشار العاطفة الإسلامية والروح الإسلامية مما يدفعك إلى تفسير هذه الظواهر بأنها محاولة لإبعاد تيار الصحوة عن مساره الطبيعي ....
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول
الله، أما بعد،
تناقلت وسائل الإعلام بشكل مكثف قصة شجرة تم اكتشافها في أحد الطرق
الصحراوية الخارجة من القاهرة، منقوش عليها "الله" و"محمد" و"طه"، وتم
الإعلان عن تشكيل لجنة من أساتذة الزراعة؛ لتحديد ما إذا كانت هذه
الكلمات مخلوقة في الشجرة يوم خلقت أم أنها نحتت فيها بفعل فاعل، ثم
مع نمو الشجرة بدا النحت وكأنه أصيل فيها يوم خلقت.
وبطبيعة الحال لم ينتظر الناس رأي هذه اللجنة، وإنما سارعوا إلى
اعتبارها مزاراً وجعلوا يترددون عليها ويتبركون بها، واستكمالاً لباقي
مشاهد هذه القصة المتكررة فقد صارت ساحة هذه الشجرة مرتعاً خصباً
للفتيان والفتيات الباغين للهو واللعب بعيداً عن مراقبة الأهل، وفي
هذه الساحة المباركة كما صارت قبلة للصوص والنشالين، فاجتمع في ساحة
هذه الشجرة سرقة أموال الناس، وسرقة أعراضهم، والأدهى والأطم سرقة
عقائدهم، ونريد أن ننبه هنا على عدة أمور:
1- بين الحين والآخر تظهر حكايات عن مخلوقات مكتوب عليها "الله" أو
"محمد" أو غيرها من الألفاظ، وفي معظم الأحيان -إن لم يكن في كلها-
يظهر عدم صدق ذلك، وعلى الرغم من دخول ذلك في قدرة الله قطعاً فهو على
كل شيء قدير، إلا أن هذا لا يعني أن نصدق كل ادعاء قبل التثبت
منه.
2- وفي هذه القصة ترى بوضوح الدليل على أن هذه الكتابة كانت بفعل فاعل
من اسم "طه"، وهو ليس من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، بل الطاء
والهاء حرفان مقطعان في أوائل السورة المعروفة كـ "الم" وغيرها من
الحروق المقطعة، ولما جاء بعدها { مَا
أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } [طه: 2]
ظن بعض من لاعلم له أن "طه" كانت نداء للنبي صلى الله عليه وسلم
باسمه.
3- ولع الناس بهذه الحكايات يعكس عاطفة إيمانية قوية مع جهل شديد
بالنور والهدى الذي يحملونه، فالناس تريد هذه الحكايات لأحد
أمرين:
الأول: الاستدلال على قضية الربوبية أمام الملاحدة الذين ينفون وجود
الخالق.
الثاني: الاستدلال على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وأن ما جاء به هو
الحق، ولا شك أن هذه الوقائع لو صح وجودها لصلحت دليلاً مكملاً لأدلة
أوضح وأظهر.
فأما قضية الخلق والربوبية فكل ذرة من ذرات الكون مكتوب عليها " الله"
ليس بالحروف، ولكن بالمعاني، ومن أعمى بصيرته عن التدبر في ذلك
فغالباً سيعمى بصره النظر في غيره، ومن لم تدله خلقة الشجرة -أي شجرة-
على خالقها ومبدعها فلن تنفعه غالباً شجرة ذات خلقة خاصة وإن كتب
عليها ما كتب.
وأما قضية صدق النبي صلى الله عليه وسلم ففي معجزاته الثابتة الغنية
والكفاية وأعظمها القرآن كما قال صلى الله عليه وسلم: « ما من نبي إلا وأوتي ما على مثله آمن البشر،
وكان الذي أوتيته قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، فأرجو أن أكون أكثرهم
تابعاً » فمن أراد خدمة هذا الدين فعليه بحفظ القرآن، وفهمه،
وتعلم السنة، ونقل ذلك للناس ففيه أعظم آيات الإعجاز من موافقة الفطرة
وكمال التشريع، وصدق الأخبار، بالإضافة إلى الإعجاز اللغوي والعلمي
وغيره من صور الإعجاز، ومن المعلوم أن معظم الداخلين حديثاً في
الإسلام في أوربا وأمريكا وغيرها إنما دخلوا إلى الإسلام لمعرفتهم
بالإسلام.
4- نخلص مما سبق أن استثمار هذه الوقائع في الدعوة إلى الإسلام لابد
له من شروط أهمها:
-صحة الواقعة ذاتها.
-وعدم طغيان هذا النوع من الاستدلال على الحجج الأصلية متمثلة في
القرآن والسنة وما يخاطبان به العقل والقلب جميعاً.
وقد أدى تسرع كثير من المسلمين في نشر وقائع كهذه إلى نتيجة عكس ما
يريدون تماماً، فكلما ظهرت قصة كهذه روج لها المروجون على أنها الدليل
القاطع على صدق الإسلام، ثم إذا اكتشف عدم صحة هذا فماذا تتوقع ممن ظن
أن هذا هو الدليل القاطع على صحة الإسلام سوى الشك والتردد.
5- لا تستطيع أن تستبعد نظرية المؤامرة في توجيه الأمة إلى هذه
الوجهة، وهي على الأقل موجودة من قبل شياطين الجن، ولكن الأمر لا يخلو
من رائحة مؤامرة من شياطين الإنس، ومن المعلوم أن دين اليهود والنصارى
بعد التحريف مليئان بالمتناقضات العقلية التي يتسترون عليها بأنواع من
خوارق العادات كثير منها كذب، وكثير منها من باب السحر، كما أنه معلوم
غلو النصارى ابتداء في المعجزات الثابتة لعيسى عليه السلام، واعتبارها
دليلاً على ألوهيته، لا على أنه بشر مؤيد من الله كما هو الحق، وهذه
النقاط تمثل أبرز نقاط العوج في دينهم يدركها كل من له عقل، فأراد
هؤلاء أن يظهروا أن لا فرق بينهم وبين المسلمين، وأن غاية ما يأمل فيه
المسلمون أن تكون لهم خوارق كخوارقهم.
6- وتزداد نظرية المؤامرة وضوحاً عندما تلاحظ الارتباط بين ظهور هذه
الحكايات وبين انتشار العاطفة الإسلامية والروح الإسلامية مما يدفعك
إلى تفسير هذه الظواهر بأنها محاولة لإبعاد تيار الصحوة عن مساره
الطبيعي من الإيمان والعلم والعمل.
7- وربما توقفت معظم الحكايات السابقة على حكاية هذه الشجرة عند هذا
الحد من المفاسد لأنها كانت تحكي قصصاً عن أشجار في غابة كذا في بلاد
كذا تصنع فيما بينها كلمة "لا إله إلا الله" أو بيضة في مزرعة كذا
مكتوب عليها "محمد" صلى الله عليه وسلم، فأراد الشيطان في هذه المرة
أن تكون المفسدة أكبر فكانت الواقعة في هذه المرة في طريق عام من
طرقات المسلمين، لتتحول بسرعة البرق إلى وثن آخر يعبد من دون الله، أو
يتبرك به دون إذن من الله، ليعيدوا إلى الأذهان طريقة المشركين التي
حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها كما في حديث أبي واقد الليثي قال:
" خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد
بكفر..."
8- ومن هذا يتبين أن المنع من اتخاذ هذه الشجرة مزاراً فضلاً عن
التبرك بها، فضلاً عما يتوقع ممن لم يتدارك الأمر بسرعة من الذبح
والنذر عندها أن كل ذلك ممنوع منه بغض النظر عن صحة ما يدَّعى من خلق
هذه الكلمات فيها، فالبركة إنما يجعلها الله فيما شاء من خلقه ثم
يخبرنا بذلك، فمتى لم يأت وحي من السماء بأن هذا الشيء محلاً للبركة،
فادعاء البركة فيها كذب على الشرع، كما قال عمر رضي الله عنه لما قبل
الحجر الأسود: " والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني
رِأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك "
وكما قطع رضي الله عنه الشجرة التي تمت تحتها تلك البيعة المباركة
بيعة الرضوان، لما وجد أن الناس قد اتخذوها مزاراً، وإن لم يكونوا
يتبركون بها، وعلى الرغم من أن شهود تلك الشجرة لواقعة البيعة أمر
ذكره القرآن، ولكن هذا لا يدل على أنها صارت صالحة لأن يتبرك بها فكيف
بغيرها؟؟
نسأل الله عز وجل أن يهدينا سواء السبيل.
عبد المنعم الشحات
أحد المشايخ البارزين بمسجد أولياء الرحمن بالاسكندرية للدعوة السلفية و منهجه منهج أهل السنة و الجماعه و سلف الأمة من الصحابة و التابعين لهم باحسان
- التصنيف: