العلم بأحكام الله من أهم الواجبات
فإن العلم بأحكام الله أمر ضروري على كل مسلم ومسلمة، في كل ما لا يسعهما جهله؛ ليسيرا في عبادتهما لربهما على هدى وبصيرة، ولا يمكن للإنسان المسلم أن يفهم دينه ويعمل به، إلا إذا عرف أحكامه، وأولاها اهتمامه وعنايته...
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، وعلى آله وصحبه، ومن نهج وسار على هديه إلى يوم الدين، أما بعد: [1]
فإن العلم بأحكام الله أمر ضروري على كل مسلم ومسلمة، في كل ما لا يسعهما جهله؛ ليسيرا في عبادتهما لربهما على هدى وبصيرة.
ولا يمكن للإنسان المسلم أن يفهم دينه ويعمل به، إلا إذا عرف أحكامه، وأولاها اهتمامه وعنايته، وبذل جهده وطاقته للإلمام بها؛ لتكون عبادته لربه بنيت على أساس صحيح ومتين، ومن وفقه الله لمعرفة أحكام هذا الدين والأخذ بها، فقد هدي إلى صراط الله المستقيم، وحصل على خير كثير.
يقول الله سبحانه: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [البقرة:269].
قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: "قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء}، يعني: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله، وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعًا: (الحكمة القرآن)، يعني تفسيره، قال ابن عباس: (فإنه قد قرأه البر والفاجر)، رواه ابن مردويه. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: (يعني بالحكمة الإصابة في القول)، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء ليست بالنبوة، ولكنه العلم والفقه والقرآن)، وقال أبو العالية: الحكمة خشية الله، فإن خشية الله رأس كل حكمة، وقد روى ابن مردويه عن طريق بقية، عن عثمان بن زفر الجهني، عن أبي عمار الأسدي، عن ابن مسعود مرفوعًا: رأس الحكمة مخافة الله، وقال أبو العالية في رواية عنه: (الحكمة الكتاب والفهم)، وقال إبراهيم النخعي: (الحكمة الفهم)، وقال أبو مالك: (الحكمة السنة)، وقال وهب عن مالك: قال زيد بن أسلم: (الحكمة العقل). قال مالك: (إنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله)، ومما يبين ذلك، أنك تجد الرجل عاقلًا في أمر الدنيا إذا نظر فيها، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه، عالمًا بأمر دينه، بصيرًا بما يؤتيه الله إياه، ويحرمه هذا، فالحكمة: الفقه في دين الله" (أ.هـ كلام ابن كثير رحمه الله) .
ولكي ندرك أهمية الفقه في دين الله، وأنه نور لحامله، والعامل به في الدنيا والآخرة، ولكي ندرك أهميته وجدواه، نجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « » (متفق عليه)، ويقول عليه الصلاة والسلام: « » (رواه البخاري ومسلم).
ويقول صلى الله عليه وسلم: «
» [4] (رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه).ولقد برّز حبر الأمة وترجمان القرآن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في معرفة الدين فقهًا وتفسيرًا، وتوسع في علوم الشريعة ووعاها؛ ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له: « » (صححه الألباني). إنها دعوة مباركة من رسول مبارك، تقبلها الله منه عليه الصلاة والسلام ونعمة أنعم الله بها على ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما.
وقد برز في عهده وقبله وبعده أئمة أفذاذ في أصول الدين وفروعه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، حملوا أمانة التبليغ والدعوة، وأدوها أحسن ما يكون الأداء، وبصروا الناس بدين الإسلام سواء في حلقات الدروس والمذاكرة و الإرشاد المنتشرة في بيوت الله، أو فيما خلفوه من تراث علمي ومؤلفات قيمة في شتى فروع العلم الشرعي، وغيره من العلوم الأخرى التي تخدم الشريعة، وترتبط بها، وهيأ الله ولاة صالحين، يبذلون بسخاء في سبيل نشر العلم، وتشجيع العلماء وطلاب العلم.
إن التفقه في الإسلام وما اشتمل عليه من أحكام، يقتضي البحث والاطلاع؛ لمعرفة حكم الله في كل قضية تعرض للمسلم في حياته، فلا يتجاوز هذه القضية دون بحث واستقصاء؛ ليصل إلى الحكم بالدليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع أو القياس الجلي.
والدين الإسلامي بحمد الله واضح لا غموض فيه، ولا التباس في أحكامه وتشريعاته، وقد بينها الله في كتابه المبين وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وحمل لواء هذه السنة وبينها ودافع عنها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان من سلف هذه الأمة، وأئمة الشريعة وعلمائها جيلًا بعد جيل، ثم تقاعس الكثير من الناس عن البحث والطلب والتحصيل، واكتفوا بالتقليد لغيرهم؛ فوقعوا في أغلاط كثيرة في العقيدة والأحكام.
ولقد أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو طريق المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين علموا فعملوا، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق واتبعوا أهواءهم، وهم اليهود، ومن على شاكلتهم، وأن يجنبنا طريق الضالين، وهم الذين جهلوا الحق، وهم النصارى، ومن على شاكلتهم.
أيها الإخوة المسلمون: كيف نعرف أن هذا الماء طاهر أو نجس، أو أن هذا الطعام أو الشراب أو الإناء أو الصيد أو السوار أو اللباس، مباح أو حرام أو مكروه أو مستحب؟ كيف نعرف أن اقتناء هذا المال وإنفاقه حلال أم حرام؟ كيف نهتدي إلى العبادات، ونعرف أوقاتها وطريقة أدائها؟ كيف نعرف قسمة المواريث والفرائض؟ وكيف تقام الحدود؟ وكيف نقيم المعاملات فيما بيننا؟ إلى غير ذلك من تفاصيل العبادة والمعاملات؟ وما يسمى اليوم بالأحوال الشخصية كالنكاح والطلاق وغيرهما؟ لقد استوعبت ذلك كله شريعتنا المطهرة ولله الحمد.
إن دين الإسلام الحنيف قد أكمله الله، وما من شأن من شئون الدنيا والآخرة، إلا وفي هذا الدين له حكم وبيان واضح جلي، لمن رزق البصيرة فيه.
فهو دين كامل شامل، ليس قاصرًا على النواحي التعبدية، ولا شأن له بالنواحي المعاشية - كما يرميه بذلك أعداؤه، ومن نهج نهجهم، إنه دين يربط المخلوق بخالقه برباط متين، كما يقيم أفضل علاقة بين الإنسان وأهله وأقاربه، وبين الإنسان وأخيه، سواء كان على دينه أو على غير دينه، قائمة على العدالة والترابط، والتسامح، والتعاون على البر والتقوى، كما أوضح كيف تعامل الحيوان الأعجم بالرفق والرحمة والإحسان، قبل أن تتظاهر أوروبا بالرفق بالحيوان من خلال جمعيات أنشأتها لهذا الغرض، وهي لم ترفق بعد بالإنسان، ولم ترع حقوقه.
فالواجب على المسلمين التفقه في دينهم، وأن لا يتجاوزوا حدود ما أنزل الله، وأن يحرصوا على فهم أحكام دينهم قبل أي شيء، فإن بعض الناس -هداهم الله ووفقهم- قد يحيطوا بعلوم كثيرة من علوم الحياة ويبرز فيها، ولكنه لا يعلم شيئًا من أحكام دينه وأسرار شريعته، ولا يهتم بذلك. وهذا هو الجهل الفاضح والمصيبة العظمى.
فإن العلم بأحكام الله يجب أن يكون مقدمًا على المعارف الأخرى، ولا مانع من التزود بالعلوم والمعارف الأخرى، ولكن لابد من تقديم الأصل الأصيل، والركيزة الأساسية للعلوم كلها، وهي معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته، واستحقاقه العبادة دون كل ما سواه، ومعرفة دينه؛ عقيدة وسلوكًا وعبادة وأحكامًا، مما لا يسع المسلم جهله.
كما أن الواجب على المسلمين أن يتمسكوا بدينهم بصدق وإخلاص، ويتقبلوا ما يأمرهم به، فيعملوا به، ويطبقوه في شئون حياتهم كلها دون تمييز، وليعلموا أنهم إن فعلوا ذلك، سيسعدون ويفلحون في الدنيا والآخرة.
وهذه الأمة شرفها الله بهذا الدين وأعزها به، فإذا تخاذلت عن ذلك، فلا قيمة لها، ولا عزة، ولا سعادة.
فنسأل الله أن يوفقنا والمسلمين جميعًا لما فيه رضاه، وأن يعيذنا جميعًا من مضلات الفتن، ومن شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن يمن علينا جميعًا بالفقه في دينه، والثبات عليه، والدعوة إليه على بصيرة، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين، وينصر بهم الحق، ويجمعهم على الهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه.
_____________________________________
[1] نشر في مجلة (البحوث الإسلامية)، العدد: 6، ص 7 - 10، ربيع الثاني والجمادين سنة 1403هـ.
[4] أخرجه البخاري برقم: 71 (كتاب العلم)، باب (الاغتباط في العلم والحكمة)، ومسلم برقم: 1352 (كتاب صلاة المسافرين وقصرها)، باب (فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه).
- التصنيف:
- المصدر: