السَّطَوات
لا يكادُ ينفكُّ عاقلٌ عن قاهرٍ ما، يستولي في بعض شأنه بمُجمَلِه على مُجمَلِه، فيتَوجَّهُ به وجهةً لا تتمحَّضُ في قَصدِها إرادتُه وقوةُ ذِهنِه، شرَّق ذلكم القاهرُ في وُجهتِه أو غرَّب، تباعَدَ أو قرَّب...
- التصنيفات: تزكية النفس - الآداب والأخلاق -
لا يكادُ ينفكُّ عاقلٌ عن قاهرٍ ما، يستولي في بعض شأنه بمُجمَلِه على مُجمَلِه، فيتَوجَّهُ به وجهةً لا تتمحَّضُ في قَصدِها إرادتُه وقوةُ ذِهنِه، شرَّق ذلكم القاهرُ في وُجهتِه أو غرَّب، تباعَدَ أو قرَّب.
وإن تبجَّح العاقلُ بعقله، واختالَ بما عندَهُ من علم، ونأى بنفسه عن حال الغواني، اللاتي بزعمه "يَغُرُّهنَّ الثناءُ"، فليس تبجُّحُه هذا في ذاتِه إلا قاهرًا ذهنيًّا، وما استرواحُه لعَقلِه وعِلمِه إلا ضَربًا من الانطِراح تحت سياط السَّطَوات!
ولكنَّ اللبيب حقًّا هو الذي يَقْدُر لكُلِّ شيءٍ قَدرَه، ويُنزلُه مَنزِلتَه، ويُجرِّد ما يرى وما يسمع عن العَلائق والمُثيرات، والهَيْشَات والحماسات، ويَفصِلُ في أفعاله وأقواله ما بين اللُبّ والحُبّ، والرُّشْد والوَجْد، والعَقْل والمَيْل.
يَفعَلُ كُلَّ ذلك كُلَّ طاقَتِه، ويَجهَدُ فيه جَهدَه، ويَحذَرُ -كمَاشٍ فوق أرض الشوك- أن يَقَعَ موقعًا لا ينبغي لمثله أن يَقَعَه، فإنه إن طاح هنالك كَثُرت سكاكينُهُ في نفسه، ومن الناس.
وإنَّ مِن أشدِّ ما تكون السَّطَواتُ مغبَّةً، وكَلْمًا، وسوءَ أثر: ما إذا اعتَمَل اعتمالُها في صَميم العِلم، وحام حائمها فوق رَحبَتِه وساحِه، فأخذت تتلاعب مُتَغَنِّجَةً بأهله وأساتيذه وطَلاَّبَتِه، وتزَّاور بهم في عِلمهم ذات اليمين حينًا، وتذهب بهم حينًا ذات الشمال.
ذلك، أن من خَصِيصَةِ العِلم ألاَّ يَخضَعَ إلا للعِلم، وألاَّ تتحَكَّم في مَفاصِلِه، وتَنقُلَ حيثِيَّاتِه إلى حَيِّزَي الصواب والخطأ؛ إلا قواعدُ أصوله المقَرَّرَة، ومَعَاقِدُ فُصُوله المحَرَّرة، والجِنايةُ كُلُّ الجِناية: أن تعبَثَ في ذلك أهواءٌ، وآراءٌ، وأدواءٌ، وسَطَوات!
هذا، والسَّطَوات أصنافٌ، وأنواعٌ، وأضرُب، منها ما يكون من سَطو النفس على نَفسِها، ومنها ما يكون من سَطو النفوس على النفس، والحديثُ يطول بتعدادِ أصنافها، وبيانِ كل ذلك، ولذا، فسأعرض هاهنا طرفًا من تلك الأصناف، ونُتَفًا في بيانها كذلك، وربما دمَجتُ بَعضَها في بعض، ولعل فيما أحاط بالعُنُق كِفايةً من القِلادة، بل لعل حَسبَك من شرٍّ سماعُ بعضه!
والحَصِيف يُجري النظائرَ مُجرَى نظائرها، ويُعمل في المُتَماثِلات ما أعمَلَ في مَثيلاتها، والكلام المحصورُ المقصورُ دالٌّ على ما وراءه، ومُرشِدٌ إلى ما يستوي وإياه سواءَ السبيل.
سَطوة الشهرة:
الشهرة في أعيُن العُقلاء داءٌ وَبيل، وتَغريرٌ وتَضليل، ولكنَّها في أعيُن الدَّهماء نعمةٌ يُنعِمها اللهُ على من يشاء من عباده، وإتحافٌ وتَفضيل!
وإن من الشهرة عند العامة ما يكون مَنزَعًا من مَنَازِعِ الحُجَّة، ودليلاً من أدِلَّة الصواب، ولربما طَرَق هذا الطارقُ بابَ المُتَعَلِّم المُتَفَهِّم، بل ربما تَسَلَّلَ لِواذًا إلى أصوله التي يَحتَكِم إليها، ويَنطَلِق منها، فدَفَعَه دَفعًا رفيقًا، رقيقًا، حتى وَضَع قَدَمَيه على شفا الهاوية!
وسَطوة الشهرة غَرسٌ غرسه الله في نفوس البَشَر، فما من رفيعٍ ولا وضيع، إلا وتَطَلَّع إلى من هو أشيَعُ منه اسمًا، وأبعَدُ منه صِيتًا، فصوَّب إليه عينَه، وهَزَّ ناحيتَه قلبَه، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ..} [طه:131]، ولا رَيبَ أن مِن مَتاع الدنيا: الشهرةَ والذِّكرَ والصِّيت.
والناظر بعين البصيرة والنَّصَفَة يَلمَحُ هذا في نَفسِه، وفيمن حَولَه، فيرى مَن يتَطَلَّع إلى مَكتوبٍ بقلم الرجل الشهير، وإن كان خَطُّه أردأ من خط صفي الدين الأرموي! ويرى مَن يُحِبُّ أن يَقِفَ إلى جِوار الاسم اللامِع، ويَلتَقِطَ لنَفسِه صُورةً مَعَه، ويَبتَهِجُ إن أَسَرَّ إليه حَديثًا، ويَفخَرُ على لِدَاتِه في المجالس بأنه قال له، ونادَمَه، وجالَسَه، وإن كان لم يَقُلْ له إلا أمرًا ونَهيًا، أو بُغضًا وقَليًا، ولم يُجالِسْه إلا بُعدًا ونأيًا!
وهذه السَّطوة وإن تغافلنا عنها في أحاديث الناس، وطِباعهم، وعَبَثهم، فإن لتركها تَتَمادَى في سبيل العِلم خَطَرًا من الخَطَر.
وإن استَروَحَ الطالبُ إلى كَلام الشهير لأنه شهير، وأشاح بِوَجهِهِ عن كلام غَيرِه ليس إلا لأنه ليس كذلك، كان هذا خُروجًا صُراحًا عن سَبيل طَلَبِه، فإن الشهرة ليسَت ميزانًا يُوزَن به القول، ولا قائلُه، وليسَت مِعيارًا يُقَرِّبُهما من الحَقّ، باتفاق الكافَّة بعدَ الكافَّة.
ويَعظُم الخَطَر إذا عَلِمنا أن بعض المشاهير يَجِدُ من نَفسِه -ولا بُدَّ- ما يرى أن ذِكرَه لم يَذِع إلا لأجلِه، وأن اسمَهُ لم يُطَبِّق الآفاقَ إلا به، فيَظُنُّ في نَفسِه من التحريرِ، والعِلمِ، والتحقيق، ما قد يَذهَبُ به في التخبُّط كُلَّ مَذهَب، ويُطَوِّح به فيه شَرَّ تطويح وهذا، عند التأمل، ضربٌ من سَطوة الشهرة آخر.
فأين صاحبنا الذي مال به قلبُه إلى قولِ ذاك، لأنه -وَحَسبُ- شهير؟!
ألا ليأتينَّ في ميزان العِلم وشِقُّه مائل!
سَطوة الفِكر:
لا يُتَصَوَّر في هذا العَصرِ أن يَبقَى صاحبُ علمٍ -عالمٌ أو مُتَعَلِّم- خِلوًا من مسارٍ فِكريٍّ، ونمطٍ عام، يحدِّد موقفَه من القَضايا المُعضِلات، والنوازل، والأحداث، ويَزِنُ اتجاهاتِه، وآراءَه، وأحكامَه.
بل إني أزعم أنَّ انتهاجَ نَهجِ الحِياد، والوُقوفِ في المُنتَصَف، وتوحيدِ المسافةِ بَينَه وبَينَ جميع الأطراف؛ هو في نَفسِه مسارٌ فكريّ، مُستَقِلٌّ عن غَيره، وله معالِمُه وحُدودُه.
وليس الشأنُ هاهنا في حدِّ المسارات والأنماط، واختيارِها، وصوابِ ذلك وخَطئِه، وما يَدُور في هذه الدوائر، بل الشأن: أن عَزلَ الفِكر عن بَحْتِ العِلم، أمرٌ من الضرورةِ بِمَكان، وإلا، فـسَطوة الفكر!
إن مِن عَجَبٍ: أن يَنسَاق بَعضُهم في نمطٍ فِكريٍّ معيَّنٍ تمامَ الانسياق، فيبلُغ به الأمرُ ألاَّ يُحِقَّ حقًّا إلا بإحقاق أهلِ نمطه إياه، ولا يُبطِلَ باطلاً إلا بإبطالهم، ولا يَقبَلَ ممن دونهم صرفًا، ولا عدلا، ولا فعلاً، ولا قولا، وهو -إلى ذلك- يُجري ذلك على صِغار العلم وكِبَاره، ويُعمِلُه حتى في القضايا العلمِيَّة البحتة، التي لا جَرَمَ أن يُوَفَّق للصواب فيها أصحابُ الاتِّجاهاتِ الأخرى، وإن كانت تِلك الاتِّجاهاتُ -فيما يرى- مُخالِفَةً، أو مُخطِئة، ولا جَرَمَ أيضًا أن يَخلِطَ فيها مَن وافَقَهُ في اتِّجاهِه، ويَخبِطَ، ويُسيءَ، ولا يُحسِن.
وكما يكون الاستِسلام لـسَطوة الفِكر ظاهرًا جليًّا، كما مَرَّ، فإنه ربما كان مَستورًا خَفِيًّا، يَتَجَلجَلُ في الفُؤاد، ولا تُبدِيه الجَوارح.
فمنه أن يَميل المرءُ في تَلَقِّي العِلم وطَلَبِه إلى مَن وَافق فِكرَه فحَسب، ويَنفِرَ مِن تَلَقِّيه عَمَّن خالَفَه، أو من سُؤالِه فيه، أو استِفادَتِه مِنه، وإن كان الأولُ أبعدَ عن الإتقان والمَعرِفَة في الفَنِّ من الثاني.
وقُل مِثلَ ذلك في تصويب اجتِهاد المُجتَهِد، وفي إعذاره إن كان مُخطِئًا، خاصَّةً ما كان من ذلك في باطنِ العَقل، وأوَّلِ المَيل، وبادئِ الرأي.
وما مِن حاجةٍ لتنبيه النابهين إلى أن المُرادَ هاهنا: مسائلُ العِلم التي لا يُؤثر فيها الفِكر، وليست ذات صِلَةٍ وُثقَى به، فإن هذا بابٌ واسِع، ليس منه ما نحن فيه.
سَطوة الفِكرة:
مِن الناس مَن تَحْكُمُه آراؤه قَبلَ أن يُحْكِمَها، وتَسير بِه وهو لا يُسَيِّرُها، تَنقَدِحُ في ذِهنِه الفِكرةُ طريةً، فَطِيرَة، فلا يُلبِثُها حتى تَقْوَى، وتَختَمِر، بل يَنسَاق لِلَحظَتِه مِن ورائها، ويَنضَوي تَحتَ لِوائها، تَذهَبُ به إذا شاءت، حَيثُ شاءت، وهو يُقاتِل عنها ويُناضِل، ويُصاوِل ويُجاوِل.
وإنَّ مِنْ خَطَرٍ: استيلاءَ الفِكرة الجَديدة على ذِهن مُثافِنِ العُلوم، قبل استِثباتِه أهلِيَّتَها للانقيادِ لها، والدفاعِ عنها، وذلك بِتأسيس دَعَائمِها قَبلُ، وتَجذِير أُصولِها، في تُربةٍ ثابتةٍ من الأصول العِلمِيَّة، والقَواعِد المَرعِيَّة.
وقد تَدفَعُ دَوافعُ الشهرة، والسُّمعة، والتجديد، والإغراب، وما إليه، إلى هذا الضَّرب من السَّطَوات، فيتَدَهدَهُ المتَعَلِّم لأجل ذلك في هذا المَهيَع، حتى إذا كَثُرت غرائبُه، ومُنكَراتُه، ومُخالَفاتُه، وتبيَّن للناس أنه لا يَكاد يَقوم على أصلٍ، تَوَلَّوا عنه، ونَفَضُوا أيدِيَهم مِنه، وتركوه وسَطوةَ الفِكرة تَصرَعُه بِحَدِّ حُسامِها، بعد أن أوثَقَتْهُ زَمَنًا يَتَخَبَّط على نِطْعِها!
وقد أكثَرَ العُلَماء تَحذيرًا من الاعتِقاد قَبلَ الاستِدلال، وهذا من هذا الباب.
سَطوة العِبارة:
يَهَبُ الله، وهِباتُه لا تُحصَى، أناسًا ما يَهَبُهُم من لِسانٍ ذَرِب، وبَنانٍ دَرِب، وبَيانٍ عَرِب، يَمتَلِكون زِمام الحَرف، حتى إنهم لَيَجيؤون به على ما يُحِبُّون، ويَذهَبون به كَيفَما يُريدون، إن يقولوا تَسمَعْ لِقَولهم، وإن يَكتُبوا تَطرَبْ لِكَتْبِهم، لَهم الأساليبُ الساحِرة، والتراكيبُ الفاخِرة، والجُمَل الجَميلة الباهِرة.
وهذا وإن كان حَقًّا على كُلِّ طالبِ علمٍ تَعَلُّمُه، والمجاهَدَةُ في طَلَبه وتَحصيله، ذلك أن العِلم بلا بيانٍ: دَعوَى بلا بُرهان، وإنسانٌ بلا لِسان؛ إلا أن الخَطبَ الجَلَل: أن يكون مُستَوَى العِبارة مِعيارًا مؤثِّرًا في تَحقيق الحِق، وإبطال الباطِل.
ولقد رأيتُ -ورأيتُم- مَن يكتُبُ في علمٍ بَحتٍ، يَبحث مسألةً، فيُبَيِّن صَوابها في نَظَرِه بِجَميل الترغيب والتحبيب والتشبيب، ويخطِّئ خَطَأَها في نَظَرِه بِرَهيب الترهيب والتخويف والتأليب، ورأيتُ مَن يُخَرِّج حَديثًا، فلَكَأنَّه -والله- يَدرُس أسانيدَهُ خَطيبًا على مِنبَر!
وهذا -لا رَيبَ- وَقَع من أئمةٍ أعلام، مُختَلِفي الطَّبَقات زَمنًا وعِلمًا، ولا رَيبَ -كذلك- أن وُقوعَهُ مِنهم على هذا النَّحوِ خارجٌ عن صُلب العِلم، وأن في مُتابَعَتِهم عليه نَظَرًا قَويًّا، ليس هذا مَحَلّ بَيَانه.
بل لَقَد بَلَغ هذا الأمر بِبَعضهم أن أسرف في الأخذ بِتَلابيب القارئ، وإشهار أسلحةٍ مُتَنَوِّعَةٍ في وَجهه، فالويل له إن لم يُصَدِّقْه فيما يقول، أو يُقَلِّدْه فيما يَذهَب إليه، فتارةً يُخَوِّفه بالخُروج عن مَذهَب أهل السُّنة والجَماعة، وتارةً يَرميه بالتقليد البَغيض، وتارة يَصِفُه بالتحَجُّر العَقلي...، كل هذا في مَسألَةٍ فَرعيَّةٍ في بَعض عُلوم الآلة!
إن لِلعبارة سطوةً لا يَنبغي للطالب النَّابِهِ أن يَنقاد لها، فإن الحَقَّ حَقٌّ في نفسِه، وإن بَيَّنَتْهُ عِبارةٌ هادِئة، بَلْهَ بارِدَة، والباطلَ باطلٌ، وإن زَوَّقَتْهُ العِبارات الفَخمَة، وعَلامات التعَجُّب والتأثُّر.
والانسياق وراءَ مِثلِ هذا انسياقٌ وراءَ مَظاهِرَ لا تَنطَلي على أهل التحقيق، ويَربَأ عن الجَري خَلفَها أهلُ الرَّزانة والعَقل والتدقيق.
وسَطَواتٌ أخرى:
في الباب نَماذِجُ ونَماذِج، يجمعها أن تَحِلَّ العاطِفَة الجَيَّاشَةُ مَحَلَّ العَقل المُفَكِّر، فيتَدَلَّى المرءُ حالَئِذٍ في مَهَبِّ الريح: إذا الريحُ مالتْ مَالَ حَيثُ تميلُ
وخُذ من السَّطوات ما تَنسِجُ منه على مِنوال ما سَبق: سَطوة السلطان، سَطوة الجُمهور، سَطوة الابتلاء، سَطوة الزُّهد، سَطوة الأخلاق..، وغير ذلك مما تراه يَمثُل أمام عَينَيك في مناسباتٍ كثيرة.
واقصِد البَحرَ في عِلمك، واحذَر السَّطَوات!
محمد بن عبد الله السريِّع