شَرِيعَةُ الْجِهَادِ فِى الإِسْلَامِ
ليس من شكٍ أن الجهاد في سبيل الله تعالى هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ الأمة تحتاج إليه في مرحلة من مراحلها، إما بجهاد الدَّفْع للذب عن حمى الدين، وصيانة للأعراض والأموال وكل ما يُنَافَحُ عَنْه. أو بجهاد الطَّلَب لنشر شِرْعة الإسلام، وإغاظة أعداء الملة...
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المُجْتَبى، وبعد:
فيقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
وليس من شك أن الجهاد[1] في سبيل الله تعالى هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ الأمة تحتاج إليه في مرحلة من مراحلها، إما بجهاد الدَّفْع للذب عن حمى الدين، وصيانة للأعراض والأموال وكل ما يُنَافَحُ عَنْه. أو بجهاد الطَّلَب لنشر شِرْعة الإسلام، وإغاظة أعداء الملة[2].
وأنا زاعم أن الأمة الإسلامية اليوم تمرُّ بأحداث يَتحَشْرَجُ بها الصدر، وتَتَشَظَّى بِهَا أرْكانُ النَّفْسِ، بعدما تَكَالَبَ عليها اللئام، وتنادوا من كل فجٍ عميق، وتداعوا على حرب الإسلام وأهله الصادقين؛ وذلك في حملةٍ شرسة، وحقدٍ دفين يريدون من ورائه مَحْو الإسلام من الصُّدور في حِثْلٍ من أشياعهم، لكن هيهات {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
ومع أن الدوائر والرزايا تَنْهَشُ جسد الأمة إلا أن المسلم المُدْرِك لأحوال الأمة اليوم وما يعْتَوِرُهَا من ضعف إيمان، وركون إلى الدنيا، وترهل في الهِمَم والجُسوم، ليَشعُر بالخطر على نفسه وعلى أمته، مُرَدِّدًا في جنبات الأمة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم في صحيحه، رقم: [1910]).
ولا شكّ أن تحديث النفس بالغزو ليس مقصودًا به خاطرة طارئة تمرُّ بحنايا النفس، ثم تذهب أدراج الرياح؛ لكن في الحديث إشارة إلى الأخذ بالأسباب، وإعداد العُدَّة الشاملة للجهاد في سبيل الله تعالى عِلمًا وعملًا وحالًا، مصداقًا لقول الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة من الآية:46].
ولا يعني كلامي التعجّل في نِزَالِ أعداء المِلَّة دون إعدادٍ شامل لهذه المواجهة، وإماطة اللَّثَام عن سبيل المجرمين. مع اعتقادنا أن هناك ساحات للوغى والجهاد أصبحت فيها رايات الكفر واضحة جلية لكل ذي عينين. وعلى أهل الملة التصدي لأهل الكفر والخَرَاعة. ولا مناص من مجالدة أعداء المِلَّة؛ إذ كما قال عمر بن أبي ربيعة:
كُتب القَتْلُ والقِتالُ علينا *** وعلى الغَانِياتِ[3] جَرُّ الذيولِ
هذا ومما ينبغي أخذه في الاعتبار أن الجهاد بمفهومه العام.. يشمل جهاد النفس والشيطان وجهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، وجهاد أهل البدع والمنكرات باليد أو باللسان أو بالقلب حسب الاستطاعة، كما يعني جهاد الكفار بالسيف والسنان إما جهاد دفع أو طلب وجهاد الكفار بالسيف.
ولا شكّ عند علماء الإسلام أن جهاد الكفار ونِزالهم في ساحة الوَغَى التي تشتكي غَمَارَاتِها الأبطالُ هو قمة الجهاد وكماله، بل هو قمة الإيمان، وهو نِتَاج جهاد طويل مع النفس والشيطان وتربية لها على الصبر والتضحية وقوة الصلة بالله عز وجل. ولذا يقول العلامة ابن قيم الجوزية: "إن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه..." (انظر: روضة المحبين: [478]).
هذا والجهاد ليس خَبْط عَشْوَاء، إنَّما له غَاياتٌ منها:
1- التعبُّد لله عز وجل بهذه الشعيرة العظيمة؛ شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى. وفي ذلك يقول شيخ الإسلامة ابن تيمية: "جعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله؛ وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح؛ ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة من الآية:24].. فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلًا على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه.." (انظر: مجموع الفتاوى، ج10، ص: [191-193]).
2- الظَّفرُ برضا الله تعالى ونَيْلُ جنته في الدار الآخرة.
3- إعلاء كلمة الله تعالى.
يقول ابن تيمية: "والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظَّه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فـ {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة من الآية:111]" (انظر: مجموع الفتاوى، ج15، ص: [170]).
4- تحرير إرادة الناس، وتعبيدهم لربّ البرية.
وقد ردّ الأستاذ سيد قطب بجلاءٍ على الذين ألقوا بشبهة بين أكتاف الدهماء، مؤداها أن الجهاد في الإسلام إنما شرع للدفاع عن النفس والأوطان! وليس لإكراه الناس على الدخول فيه بالسيف والاستيلاء على ديار غير المسلمين بالقوة..
فقال: "إن الذين يلجأون إلى تلمُّس أسباب دفاعية بحتة لحركة المدّ الإسلامي إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشرافية في وقت لم تعد للمسلمين شوكة.. فيبحثون عن مبرِّرات أدبية للجهاد في الإسلام. والمدّ الإسلامي ليس في حاجة إلى مبرِّرات أدبية له أكثر من المبرَّرات التي حملتها النصوص القرآنية {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ . وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:38-40].
إنها مبرِّرات تقرير ألوهية الله في الأرض، وتحقيق منهجه في حياة الناس، ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس. والناس عبيد لله وحده، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه! وهذا يكفي.. مع تقرير مبدأ: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أي: لا إكراه على اعتناق العقيدة بعد الخروج من سلطان العبيد والإقرار بمبدإ أن السلطان كله لله، أو أن الدين كله لله بهذا الاعتبار...
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن، والمغيرة بن شعبة، رضي الله عنهم جميعًا لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وهو يسألهم واحدًا بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية، قبل المعركة: ما الذي جاء بكم؟ فيكون الجواب: الله ابتعثنا لنُخرِج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه. ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر..
حقًا إنه لم يكن بُدٌ لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له؛ لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية؛ لأن الحاكمية فيه لله وحده - إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعًا عن وجودها ذاته. ولا بد أن يتحرَّك المجتمع الجديد للدفع عن نفسه.
هذه ملابسة لا بد منها؛ تولد مع ميلاد الإسلام ذاته، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضًا، ولا خيار له في خوضها، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلًا.." (انظر: في ظلال القرآن. ج3، ص: [1440-1444]).
والحديث عن غاية الجهاد في الإسلام لا يعني التغافل عن مراحل الجهاد ومدى قوة المسلمين وضعفهم وهل لهم شوكة وتمكين أو لا؟
كما أن بيان غاية الجهاد لا يتعارض مع كف اليد في مراحل الاستضعاف، أو الاقتصار على جهاد الدفع في بعض الأمكنة أو الأزمنة؛ فهذا من باب السياسات الشرعية وترجيح المصالح أو المفاسد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان النبى صلى الله عليه وسلم في أول الأمر مأمورًا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن.. وكان مأمورًا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثم لما هاجر إلى المدينة صار له بها أعوان أذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار، فلما فتح الله مكة ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة" (انظر: الجواب الصحيح، ج1، ص: [74]).
وقد يقول قائل: إن من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم يؤكد استحالة الجهاد في هذا الزمان؛ مما يجعل المرء يرضى بالأمر الواقع ولا يسعى للإعداد والاستعداد. ويتجاوز البعض تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في شتى بقاع الأرض، كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين... وغيرها.
فأقول له: لا تستسغِ المذلة يا أخي المتهوِّك؛ إذ إن المرحلة المكيّة كانت لدَوَاعٍ معينة، وليست بصورةٍ دائمة. ثم إنك بتركك الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى[4] مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كف اليد.. يربي الصحابة على التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل، ويُعِد النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل.
يقول الأستاذ سيد قطب: "إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معينًا. وهذا الواقع المُعيَّن قد يتكرَّر وقوعه في حياة الأمة المسلمة. وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية؛ لأن واقعها يُقرِّر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين.. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قُدمًا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية" (انظر: في ظلال القرآن، ج3، ص: [1581]).
بقي أن أذكر في إِيكَادٍ من أمْري أن المجاهدين بشرٌ كغيرهم يُخطئون ويُصيبون، ولا عِصمة لأحد بعد الأنبياء صلى الله عليهم وسلم. وينبغي الحذر أنَه عند التناصح وذكر الأخطاء والتناصح حولها أن تكون في خفاءٍ وسِتْرٍ؛ حتى لا يُفْهم من ذلك التعريض بالجهاد والمجاهدين.
وفي خاتمة تَطْوافتي العَجْلي حول شريعةِ الجهادِ أقُولُ لِبُغَاثِ الطَّيْرِ الَّذِينَ يَقْطُرُونَ حِقْدًا عَلَى الإِسْلَامِ:
تَنَحَّ فَإِنَّ بَحْرِي خِنْدِفِيٌّ *** تَرَى فِى مَوْجِ جِرْيَتِهِ عُبَابَا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمراجع:
[1]- (الجهاد لغةً هو: "الجَهْد والجُهْد: الطاقة والمشقة. وقيل الجَهْد بالفتح: المشقة، والجُهْد: الوسع" الراغب الأصفهاني: المفردات، ص: [99]. أما اصطلاحًا، فيدور عند أغلب الفقهاء: على قتال المسلمين للكفار بعد دعوتهم إلى الإسلام أو الجزية ثم إبائهم. ولذا فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تعريفًا عامًا للجهاد قال فيه: "والجهاد هو بذل الوسع -وهو القدرة- في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق" انظر: مجموع الفتاوى، ج10، ص: [192-193]).
[2]- (يقول ابن قيم الجوزية: "جهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعًا وعقلًا، وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين، وأما الجهاد الذي يكون فيه طالبًا مطلوبًا؛ فهذا يقصده خيار الناس؛ لإعلاء كلمة الله ودينه، ويقصده أوساطهم للدفع ولمحبة الظَّفَر" انظر: الفروسية، ص: [189]).
[3]- (أو المُحْصَنَات).
[4]- (هذا وينبغي التنويه عليه هو أنّ جوانب الإعداد للجهاد ومراتبه "العلم، والعمل، والدعوة، والصبر" لا يعني البقاء في مرتبة، بحيث لا ينتقل منها إلى التي تليها حتى تستكمل التي قبلها. إن هذا غلط وفهم خاطئ لتحقيق مراتب الإعداد. والمطلوب الأخد بالمراتب كلها وتكميل ما لم يكمل منها).
- التصنيف: