مصير الظَلمة
الظلم مرتعه وخيم يا عباد الله، وعاقبته سيئة فهو منبع الرذائل ومصدر الشرور، يأكل الحسنات ويمحق البركة، يجلب الويلات، ويورث العداوات، يسبب القطيعة والعقوق، متى فشا الظلم في أمة أهلكها، ومتى حل في قرية دمرها، ولو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما.
عناصر الخطبة:
1. الريح أحد جنود الله يسلطها على الظالمين.
2. تعريف الظلم وآثاره.
3. خوف السلف من الظلم.
4. ظلم العباد أنواع أعظمه حرفهم عما أنزل الله.
5. من ظلم العباد: التعدي على النفس المعصومة بالإيذاء الحسي.
6. من ظلم العباد: إشاعة الفاحشة بينهم وفتنتهم.
7. من ظلم العباد: أخذ أموالهم بغير وجه حق.
8. أشد أنواع الظلم ظلم الأقارب.
9. دعوة المظلوم لا ترد.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الريح أحد جنود الله يسلطها على الظالمين:
عباد الله، هذه الريح من أمر الله، وخلق من خلقه سبحانه وتعالى يرسلها كيف يشاء، ومنها ريح الصرصر، وهي الريح الباردة العاتية شديدة الهبوب ذات الصوت، أرسلها الله تعالى على ظالمين، فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ} [فصلت:16]. الصرصر: من الصَّرِّ، وهو الشدُّ؛ لما في البرودة من الشدة والتعقيب، الصرصر: من الصَّرِّ: جمع الشيء بعضه إلى بعض، وذلك أن البرد يصرُّ أي: يجمع، هذه الريح الباردة الشديدة ذات الصوت المزعج أرسلها الله على من ظلموا أنفسهم فأهلكتهم: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} [القمر:19]، {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة:6] فعتت عليهم. {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ . فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7، 8] فهي عذاب في شدتها، عذاب في صوتها وعذاب في بردها.
الظلم مرتعه وخيم يا عباد الله، وعاقبته سيئة فهو منبع الرذائل ومصدر الشرور، يأكل الحسنات ويمحق البركة، يجلب الويلات، ويورث العداوات، يسبب القطيعة والعقوق، متى فشا الظلم في أمة أهلكها، ومتى حل في قرية دمرها، ولو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما.
تعريف الظلم وآثاره:
الظلم مجاوزة الحد، الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فكل ذنب عصي الله به سواء كان شركاً بالله، أو دون ذلك من المعاصي ومظالم العباد فهو داخل في هذا الحد. هذا الظلم الذي تفشى في العالم اليوم على مستوى الأمم والأفراد، إنه ذو مرتع وخيم {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فهو سبحانه عدل ويأمر بالعدل، وينهى عن الظلم، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} [غافر:31] لا يحب الظالمين بل يحب المقسطين: « » (1)، إن الخيبة مصير أهل الظلم: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]، محرومون من الفلاح في الدنيا والآخرة، توعدهم الله فقال: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف:65] هددهم بسوء العاقبة: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، طردهم من رحمته فقال: {فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:41]، بل إنه سبحانه لعنهم: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
ويكفي في ذم هذا قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111]، وقال عليه الصلاة والسلام: « » (2)، ولما بعث حبيبه معاذًا إلى اليمن أوصاه وقال له: « » (3)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « »، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: (102] (4).
كما أهلك الله القرون المكذبة للرسل يفعل بنظرائهم وأشباههم، وهذا تحذير من وخامة عاقبة الظلم لكل أهل قرية ظالمة من الكفار وغيرهم، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ . مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم:42،43] وعيد شديد للظالمين، وتسلية للمظلومين، والله عز وجل إليه المآب، ولو تمتع الظالم في الدنيا قليلاً فإن المصير عند الله بئيس: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126]. هذا الظالم لا ينال رتبة النبوة ولا درجة الولاية: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، ويحطه الله في نظر الخلائق؛ لأن النفوس جبلت على الإحسان لمن أحسن إليها ومحبة ذلك. وأيضًا فإن الظالم في الحقيقة ظالم لنفسه أولاً: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57]، يمحق البركة فعلاً.
وقد حكى الطرطوشي رحمه الله: أنه كان بمصر نخلة تحمل تمرًا عظيمًا، ولم تكن نخلة تحمل نصف حملها، فغصبها أحدهم فلم تحمل تمرة واحدة في ذلك العام، قال: وشهدت السمك في الإسكندرية يغلي به الماء لكثرته -يفور- ويصيده الأطفال بالخرق، فحجر عليه أحدهم، ومنع الناس من صيده، فذهب السمك منه حتى لا يكاد يوجد فيه إلا الواحدة. وهذه من آيات الله يُريها من يشاء من عباده، لكن فيها درس وعبرة، وقد لا يرى الظلمة شيئاً من هذا، بل يرون الأشياء تنتج كما هي وربما تزيد أحياناً، استدراجاً لهم، والله عز وجل يملي للظالم.
خوف السلف من الظلم:
كان السلف يخافون الظلم جدًا ويخشون سوء عاقبته، وكان بينهم أنواع من التحلل، فيطلب كل واحد من الآخر السماح وخصوصًا قبل الموت:
قال أبو الدرداء رحمه الله: "إياك ودعوات المظلوم؛ فإنهن يصعدن إلى الله كأنهن شرارات".
قال سفيان الثوري: "إن لقيت الله بسبعين ذنبًا فيما بينك وبينه تعالى أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد". وذلك أن الله عز وجل يسامح ويغفر لمن يشاء لكن حقوق العباد لا مسامحة فيها؛ لأن الله لا بد أن يوفي أصحاب الحقوق حقوقهم يوم الدين ولا تضيع عند الله.
قال أبو بكر الوراق رحمه الله: "أكثر ما ينزع الإيمان من القلب ظلم العباد".
ظلم العباد أنواع أعظمه حرفهم عما أنزل الله:
وهذا له صور وأشكال: فمن ذلك ظلم العباد في دينهم كحرفهم عما أنزل الله إليهم واغتيالهم واجتيالهم عن دينهم، فهؤلاء الذين يثيرون الشبهات ويبعثون الغرائز والشهوات بما يعرضونه على الشاشات ظالمون للخلق أشد الظلم؛ لأنهم يتورطون في حرفهم، وكذلك هم سبب في ضلالهم، وهم رأس الشر ورافعو ألويته؛ لكي يأتي إليه من يأتي ممن صار في ركابهم، هؤلاء الذين يظلمون الناس بإغوائهم وإضلالهم، الذين يظلمونهم بالأفكار الهدامة والمسلسلات الساقطة والأغاني الماجنة..
هؤلاء الذين يثيرون شهواتهم بالأفلام القذرة واللقطات الهابطة والكتابات السيئة، هؤلاء قتلة الغيرة والفضيلة، هؤلاء من أعظم الناس ظلماً في العالم؛ لأنهم يشيعون ذلك على الملأ ويذيعونه ليلًا ونهارًا، والتسبب في إلهاء الناس عن العبادة، وتشكيك الناس في العقيدة والتوحيد، وإذهاب أخلاق الناس وحياء الناس، لا شك أن هذا سيوفَّونه كاملًا يوم القيامة كما قال تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].
من ظلم العباد التعدي على النفس المعصومة بالإيذاء الحسي:
ومن صور ظلم العباد: التعدي على النفوس المعصومة بالقتل أو الضرب أو السجن أو التعذيب أو التفجير في الأماكن العامة، هذه الأعمال العشوائية ظلم للعباد، وسواء قلَّت أو كثرت، فإن الله عنده ميزان، قال عليه الصلاة والسلام: «
» (5)، وقال عليه الصلاة والسلام: « » (رواه مسلم:4/1997 برقم:2582)، فإذا كان هذا حال العجماوات فكيف بحال العقلاء؟
من ظلم العباد إشاعة الفاحشة بينهم وفتنتهم:
وكل ما من شأنه إشاعة الفاحشة بين الناس، وقذف المحصنين والمحصنات من المسلمين والمسلمات داخل في ذلك، وكل من يروج الفاحشة بالمتاجرة بالأزياء المتهتكة والملابس المتعرية سواء يجلبها ويستوردها أو يعلن عنها أو يبيعها أو يوزعها بالجملة أو المفرق، ومن يشتريها ويهديها ويرضى بها لنسائه الخارجات، والتي تلبسها كاسيات عاريات من أهل جهنم ظلمن أنفسهن وظلمن غيرهن.. وهكذا الظلم للآخرين ليس فقط ضربهم وأخذ أموالهم وإنما ظلمهم بتعريضهم للحرام وفتنتهم ودعوتهم إلى الفحشاء وإغرائهم وإثارة الغرائز في نفوسهم وتفجير الشهوات في المجتمع.
من ظلم العباد أخذ أموالهم بغير وجه حق:
أما الظلم بأخذ الأموال بسرقة أو إتلاف أو تحايل أو خداع أو غش أو ربا فهو ظلم عظيم، وكم ترتب عليه من القطيعة بين الأقارب والجيران والإخوان وترافعوا إلى المحاكم وبقيت السنون الطوال في تلك الأماكن، وكذلك من استؤمن على مال لحفظه، أو استثماره ثم خان، وتلاعب، وأهمل، وفرط، وخدع، وكذب، فالويل له من ذلك المنقلب والموعد عند الله. قال أحدهم: "استدنت من رجل مائتي ألف وعند حلول الأجل حضر للمطالبة بحقه فطردته وأنكرت أنه أعطاني شيئًا، ولم يكن قد أخذ مني إثباتًا بذلك، وبعد ثلاثة أشهر خسرت صفقة بقيمة مليون، ومنذ ذلك اليوم والخسارة تلازمني، وقد نصحتني زوجتي بإرجاع المبلغ لصاحبه؛ لأن ما عند الله من العقوبة شديد، ولم أستمع إليها وتماديت حتى خسرت من أعز ما أملك أبنائي الثلاثة في حادث سيارة واحدة، وأمام هذا الحدث الرهيب والمصرع قررت إعادة الحق لصاحبه وطلبت المسامحة حتى لا يحرمني الله من زوجتي وابني ذي السنوات السبع الذي بقي".
الاستيلاء على أموال المعصومين بالقوة أو أراضيهم أو عقاراتهم أو تغيير منار الأرض وحدود الأرض وعلاماتها ظلم عظيم كذلك. وقد حكت كتب التاريخ عن وزير ظلم امرأة بأخذ مزرعتها وبيتها فشكته إلى الله فأوصاها مستهترًا وقال: عليك بالدعاء في الثلث الأخير من الليل، فأخذت تدعو عليه شهرًا فابتلاه الله بمن قطع يده وعزله وأهانه، فمرت عليه وهو يجلد فشكرته قائلة:
إذا جار الوزير وكاتباه *** وقاضي الأرض أجحف في القضاء
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلُ *** لقاضي الأرض من قاضي السماء
أشد أنواع الظلم ظلم الأقارب،وأشد أنواع الظلم ما يقع من الأقارب.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على النفس من وقع الحسام المهند
ظلم الوالدين، وظلم الأولاد، ومنع البنات من الزواج، وجعلهن مصدر كسب، وعضلهن: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} [النساء:19] حتى تبلغ السن المتقدمة التي لا يخطبها فيها أحد، وضرب الزوجات، وإهانتهن، ماذا نريد أن نلحق بركب أهل الرذيلة الغرب الفاجر؟ تستقبل شرطة لندن وحدها قريبًا من مائة ألف مكالمة سنويًا من نساء يضربهن أزواجهن، وتسعة وسبعين في المائة من الأمريكيين يضربون زوجاتهم، ومليونا فرنسية يضربهن الرجال سنويًا، هذا مجتمع الرقي والتحضر والمدنية، « » (6)، حرَّج علينا: ضيق في هذين الأمرين جدًا.
الظلم عاقبته وخيمة، ونهاية الظالمين أليمة، والمتأمل في سيرهم يرى في مصارعهم أعظم العظات والعبر، في أي واد يهلكون؟ وأي خزي يجللهم في الدنيا قبل الآخرة؟ جعل الله عقوبة الظلم معجلة بالإضافة لما يصيب صاحبها يوم القيامة وهو الأشد: «
» (7).
وعلى الباغي تدور الدوائر، ويبوء بالخزي، ويتجرع مرارة الكارثة والعقوبة، وينقلب خاسئاً، أقرب الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهوم دعوة المظلوم، اقتضت سنة الله إهلاك الظالمين، وقطع دابر المفسدين، سواء كانوا أمما أو أفراداً، والغالب أن الظالم تعجلَ الله له العقوبة وإن أمهل؛ لأن الله يملي له حتى إذا أخذه لم يفلته (8). وقال بعض أكابر التابعين لرجل: "يا مفلس"؛ فابتُلي القائل بالدَّين بعد أربعين سنة، وضرب رجل أباه وسحبه إلى مكان فقال الذي رآه: إلى ها هنا رأيت هذا المضروب قد ضرب أباه وسحبه إليه، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]، حكمٌ عدلٌ.
فجانب الظلم لا تسلك مسالكه *** وكل نفس ستجزى بالذي عملت
عواقب الظلم تخشى وهي تنتظرُ *** وليس للخلق من ديانهم وطرُ
ليس لله حاجة بالعباد، العباد محتاجون إلى الله.
ومن أكبر الطغاة الظلمة الذين عجل الله بعذابهم وأرانا مصرعهم عبر التاريخ فرعون ذو الأوتاد {عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، هو الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]، هو الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، هو الذي قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر:29]، فماذا كانت النتيجة؟ {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات:25] وجعله عبرة لأهل الدنيا: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص:40]، قهر الله عباده بالموت كبيرهم وصغيرهم، الطاغي والباغي. وهكذا قارون لما بغى وطغى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} [القصص:81].
وماذا حصل لصاحب الفيل الذي بنى كنيسة بصنعاء ليصرف الناس للحج إليها بدل الكعبة، فصرف الله الناس عنها، وأوقد الحريق فيها، فأراد ذلك الظالم الانتقام بهدم الكعبة حجرًا حجرًا، فأرسل الله عليه الطير الأبابيل، فأصابته الحجارة فقدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر من الهزال الذي أصابه فمات هنالك. {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62].
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا *** نامت عيونك والمظلوم منتبه
فالظلم آخره يهديك بالندم *** يدعو عليك وعين الله لم تنم
وهكذا كان أمر أبي جهل وأمية بن خلف وغيرهم من الصناديد، فتنوا المسلمين، وظلموهم وقتلوهم وقاطعوهم وجلدوا وعذبوا، فكان الله لهم بالمرصاد، وكانت وقعة بدر الذي جعل الله فيها هذه المصارع لهؤلاء البغاة الظلمة الطغاة.
اللهم إنا نسألك أن تجيرنا من الظلم يا رب العالمين، اللهم جنبنا الظلم يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك أن تعيذنا من البغي وقهر الرجال، اللهم إنا نسألك أن ترزقنا العدل في أهلينا وما ولينا إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العلي القهار، الحمد لله العزيز الجبار، الحمد لله مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبحانه وتعالى مالك الملك، خلق فسوى، وقدر فهدى، وصلى الله وسلم على محمد بن عبد الله ما طلع الليل والنهار، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وصلى الله وسلم على أصحابه وآله وخلفائه أولي الأيدي والأبصار، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وذريته وأزواجه.
دعوة المظلوم لا ترد:
عباد الله، إن دعوة المظلوم لا ترد، وإذا كان مستجاب الدعوة أصلًا فقد أضيف إلى ذلك سبب آخر للإجابة؛ لكونه مظلومًا، ولما افتروا على سعد رضي الله عنه وكذبوا عليه، ووشوا إلى عمر رضي الله عنه، وقال الظالم عن سعد الصحابي: إنه كان لا يسير بالسرية، ترك الجهاد، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: "اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياء وسمعة فأطل عمره وأطل فقره، وعرضه بالفتن"، فكان إذا سئل بعد ذلك يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعدُ قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه يتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.
أحمد بن أبي دؤاد الظالم الذي تسبب في تعذيب الأئمة وقتلهم، أغرى المأمون بالعلماء ليفتنهم عن دينهم، وتتابع على ذلك من خلفاء المأمون من استمر في الطريق، وعذب الإمام أحمد والإمام البويطي، ونعيم بن حماد، ومحمد بن نوح، ومات من مات تحت التعذيب، ومنهم الإمام العظيم المحدث أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله قتلوه وصلبوه وطافوا برأسه. ابن أبي دؤاد الظالم قال: حبسني الله في جلدي إن كان قتله خطأ، هكذا أمام الخليفة ليغريه بقتل إمام من أئمة أهل السنة، وعزل العلماء والقضاة من أهل السنة الذين يقولون بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وهكذا إلى درجة أنه أقنع الخليفة بأن يمتحن أسارى المسلمين لدى الروم فمن قال بخلق القرآن فك أسره وسعى في إطلاقه، ومن قال بغير ذلك تُرِك أسيرًا عند الروم. ظل ابن أبي دؤاد يواصل جرائمه وظلمه عبر من تولى من الخلفاء في ذلك الوقت حتى جاء الإمام المتوكل الخليفة ناصر السنة الذي عرف الحق فاتبعه فعزل ابن أبي دؤاد وصادر أمواله فأصيب بالفالج والشلل أربع سنين، بقي طريح الفراش لا يحرك شيئًا، وحرم لذات الدنيا وكان يقول: إن لي شقًا، يعني: جنباً من جسدي، لو قرض بالمقاريض ما شعرت به، وآخر لو وقعت عليه الذبابة كأنه الجحيم، وشمت به الناس حتى قال بعضهم له وهو داخل عليه في هذه الحال: والله ما جئتك عائدًا، وإنما جئتك لأعزيك في نفسك وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك عقوبة من كل سجن.
ولما دخل ابن الزيات الظالم على المتوكل، والمتوكل بدأ يفهم القضية ويقول: في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر، فقال ابن الزيات: أحرقني الله بالنار إنْ قُتِلَ إلا كافرًا، وهكذا قال في إمام آخر: قطعني الله إربًا إربًا إن قتل إلا كافرًا، قاله ظالم آخر يقال له هرثمة عندما دخل على الخليفة، قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار وأما هرثمة فإنه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل منهم، فقال: يا معشر خزاعة، هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه إربًا إربًا، والجزاء من جنس العمل. وكان ابن الزيات هذا قد اتخذ تنورًا من حديد به مسامير؛ يعذب به من يصادر أموالهم، فكلما تحرك واحد منهم من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه، فكان إذا دخل عليه الظالم يقول المظلوم وهو يتحرق: ارحمني، فيقول هذا الظالم: الرحمة خور في الطبيعة، يعني: الرحمة ضعف، فأخذه المتوكل بعد ذلك، وأمر بإدخاله في تنوره، وقيده بخمسة عشر رطلًا من الحديد يتعذب، فيصيح: ارحموني، فيقال له: الرحمة خور في الطبيعة.
عباد الله، وقد يبتلي الله الظالمين بالظالمين ويسلط من الظالمين على الظالمين من يشاء، وجزاء الظالمين عند الله شديد، وأخذه فيهم أليم، وعاقبة المفسدين شنيعة، وكذلك فإن من الناس من لا يزيده ظلمه إلا خسارًا ووبالًا، وربما يقول بعض الناس: إن بعض الظالمين لم ينتقم الله منهم في الدنيا فماتوا في عزهم، وأوج سلطانهم، وكثرة أموالهم، ولكن الله بالمرصاد، وإذا ادخرت العقوبة كلها ليوم القيامة، فهنالك ستكون العقوبة أشد، وألوان العذاب تتوالى، وعقوبة الله عز وجل شديدة تعم الأفراد الظالمة والأمم الظالمة: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء:11]، ولذلك فإن الحل للنجاة من الظلم والعذاب الواقع على الأمم الظالمة هو الإصلاح، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]، أما مجرد وجود ناس من الصالحين فيهم لكن لا يسعون في الإصلاح، ولا في النهي عن المنكر، فإنه لا يؤخر العذاب عنهم، لكن يبعثون على نياتهم: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف:59]، {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48].
ولا بد أن يأتي يوم لهذه الأمم الظالمة ويتبين لك يا عبد الله أو لولدك ما سيحل بهم من بطش الله، والله عز وجل قد يعاقب القوم في أجسادهم أو أموالهم واقتصادهم، وقد يعاقبهم في أنفسهم فيذيقهم أنواعًا من الآلام النفسية فيتجرعون الغصص، وقد يكون عذاباً عاماً فتأخذهم صاعقة، أو ريح عاتية، أو صيحة عظيمة، أو حجارة تقصفهم، وقد ينتقم منهم بالغرق، وقد ينتقم منهم بالطوفان، وقد يجمع عليهم أنواعاً من العقوبات، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا، ولنعلم أيها الإخوة بأن الزنا والربا من أعظم الأسباب التي تسلط العقوبات على المجتمعات..
ولا بد من الحذر الشديد من هاتين المعصيتين والكبيرتين العظيمتين بالنهي عنهما والحيلولة دون وقوعهما، وهذا يحتاج إلى كثير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وتبصير الناس وسد أبواب الحرام وفتح أبواب الحلال، سواء كان في ما يتعلق بالأموال أو الأعراض؛ لأن هنالك من الناس من أخذتهم الصاعقة والطاغية والرجفة والصيحة وهم ينظرون، وهنالك من عاقبهم الله بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم نزيف مستمر، وهنالك من أمطر الله عليهم حجارة من سجيل، وأخذتهم الصيحة وجعل عاليها سافلها وطمس أعينهم، أصحاب الفاحشة، واليوم ينادون بحقوق ومنظمات تدافع عنهم، ويقيمون الحفلات العلنية في البلدان، والله عز وجل يعاقب، ومن ذلك هذه الأمراض التي يذيقهم بها الخزي في الحياة الدنيا قبل الآخرة: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
اللهم نجنا من العذاب يا رب العالمين، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا أرحم الراحمين، اللهم انشر رحمتك علينا، نعوذ بك من البلاء والغلاء والوباء يا سميع الدعاء، اللهم إنا نسألك الفرج لإخواننا المحاصرين، والرحمة للمستضعفين من المسلمين، اللهم فرج كرباتهم، اللهم نفس عنهم، اللهم إنا نسألك لإخواننا المستضعفين النصر على العدو، اللهم عجل بعقوبة اليهود الظلمة ومن عاونهم وأرنا فيهم عجائب قدرتك يا رب العالمين، ربنا افتح بيننا وبينهم بالحق وأنت الفتاح العليم، اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان لبلدنا هذا وبلاد المسلمين يا أرحم الراحمين، من أراد ببلدنا سوءاً فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه مسلم: (4/1994) باب تحريم الظلم: (2577).
(2) رواه مسلم: (4/1996) باب تحريم الظلم: (2578).
(3) رواه البخاري: (2/544) باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا: (1425) ومسلم: (1/50) باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام: (19).
(4) صحيح البخاري: (4/1726) برقم: (4409).
(5) سنن البيهقي الكبرى: (8/45) برقم: (15783)، وصححه الألباني.
(6) سنن ابن ماجه: (2/1213) باب حق اليتيم برقم: (3678) وحسنه الألباني.
(7) رواه أبو داود: (4/276) برقم: (4902) والترمذي: (4/664) برقم: (2511) وابن ماجه: (2/1408) باب البغي: برقم: (4211) وصححه الألباني.
(8) صحيح البخاري: (4/1726) برقم: (4409).
محمد صالح المنجد
أحد طلبة العلم والدعاة المتميزين بالسعودية. وهو من تلاميذ العالم الإمام عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه.
- التصنيف: