حب المال

منذ 2014-05-16

إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بحقه بورك فيه، ومن لم يأخذه بحقه أو باستشراف نفس فإنه لا يبارك له فيه.

الخطبة الأولى:

أخرج البخاري [6427] ومسلم [1052] في (صحيحيهما) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسولنا أنه قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض»، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: «زهرة الدنيا»، فقال رجل: أيأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي حتى ظننت أنه سينزل عليه، ثم مسح النبي جبينه، وقال: «أين السائل؟»، فقال الرجل: ها أنا يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يأتي الخير بالشر، لا يأتي الخير بالشر، وإن هذا المال خضرةٌ حلوة وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه إلا آكلة الخضر حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت فثلطت ثم بالت ثم أكلت، وإن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه؛ فنعم المعونة هو، ومن أخذه من غير حقه؛ فهو كالذي يأكل ولا يشبع».

هذا مَثَل يضربه الرسول لزهرة الحياة الدنيا، يضربه للمال الذي نتهافت عليه، ونقتتل عليه، ونقطع الأرحام من أجله، ونتدابر من أجله، ونتقاطع من أجله، هذا المال الذي هو خير لكنه ليس خيرًا مطلقًا؛ إذ يقول الله عز وجل عن الإنسان الكفور الجحود: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ‌ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، ويقول الله سبحانه وتعالى عن نبي الله سليمان: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ‌ عَن ذِكْرِ‌ رَ‌بِّي حَتَّىٰ تَوَارَ‌تْ بِالْحِجَابِ} [ص:32]، فالمال خير لكنه قد يقتل، ولكنه قد يؤخر عن الدار الآخرة، ولكنه قد يقهقرك عن جنة عدن، والرسول يقول لأصحابه: «ما الفقر أخشى عليكم»، الرسول لا يخاف علينا من الفقر والمسكنة وتواضع البيوت وقلة الأموال وعدم الرفاهية، قال: «ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح الدنيا عليكم كما فتحت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم»، وفي رواية قال: «كيف أنتم؟ إذا فتحت خزائن الروم والفرس؟» فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، نقول بالحق والذي أُنزل، فقال رسول الله: «أو غير ذلك، تنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» (رواه البخاري [6425]، ومسلم [2961]).

فيحذر النبي في هذا الحديث العظيم من خطورة التهافت على المال، ومن خطورة البخل والشح فيه؛ فيقول: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض»، بركات تخرج من باطن الأرض فيستفسر الرجل ويستفهم: "يا رسول الله، وما بركات الأرض؟" فقال: «زهرة الحياة الدنيا»، {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَ‌ةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِ‌زْقُ رَ‌بِّكَ خَيْرٌ‌ وَأَبْقَىٰ. وَأْمُرْ‌ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ‌ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِ‌زْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْ‌زُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ} [طه الآيتين:131-132]. فقال: «زهرة الدنيا»، أي: بركة الأرض هي زهرة الدنيا.

قال الرجل: يا رسول الله، أيأتي الخير بالشر؟ أتأتي البركة بالشر، فصمت، وكانت هذه عادته إذا سُئل سؤالًا؛ لأنه ينتظر الوحي من الله، فهو لا ينطق عن الهوى، وهو لا يستحضر الأجوبة العقلية، وإنما يستحضر الأجوبة السماوية التي تنزل عليه، فيصمت ويصيبه الرُّحَضاء، ثم يمسح عن جبينه، ويقول: «أين السائل؟» فيقول الرجل: ها أنا يا رسول الله، فقال: «لا يأتي الخير إلا بالخير، لا يأتي الخير إلا بالخير، لا يأتي الخير إلا بالخير، وإن هذا المال خضرة حلوة»، هذا المال كالعسل في المذاق، إذا تذوقت منه شيئًا قليلًا زادت شهيتك لكي تأكل المزيد والمزيد، فهذا المال خضرة حلوة، فإذا حصلت على شيء قليل تحب أن تحصل على المزيد.

ثم يضرب النبي مثلًا للشراهة والتكالب على هذا المال، وأخذه من كل مكان من غير مراعاة حرمات الله؛ يقول: «وإن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه».

الحيوانات التي ترعى في المراعي إذا كانت في الربيع وأنبتت الأرض بالخضرة والأعشاب بالحشائش، فإن بعض الحيوانات -بل أكثرها- تنكبُّ على هذه الحشائش، وعلى هذه الأعشاب، فتأكل من غير مقدار، وتلتهم من غير التفات، فتأكل وتأكل وتأكل، فتنتفخ خواصرها، فيقول: «يقتل حبطًا» تمتلأ بطونها بالأعشاب التي أكلت، فمن شدة الأكل ومن كثرته تموت هذه الدواب، وإذا لم تمت هذه الدواب فإنه يلُمُّ بها مرضٌ يقربها من الموت، «وإن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه» أي: يلم بمرض فتاك، وهكذا المال إذا أقبل عليه الإنسان فإنه يأكل ويأكل، وفي نهاية الأمر ربما مات بماله، أما سمعتم عن أُناس مترفين ماتوا بين أفخاذ الغواني، أما سمعتم عن أُناس ماتوا في بلاد الكفرة وهم يشربون الخمور، وهم يلعبون بأموالهم ويضعونها في أيدي الصبايا، ويبخلون بها على المسلمين الذين يحترقون، أما سمعتم عن أُناس ماتوا بأموالهم وكانت شؤمًا عليهم وعارًا.

تفنى اللذائذ من مغبتها *** من الحرام ويبقى الذلُّ والعارُ
تبقى عواقب من مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النارُ

ولذلك النبي يأمُرنا بأن ننظر إلى من هو دوننا، لا أن ننظر إلى مَن هو فوقنا، وذلك في أمر الدنيا، يأمرنا بذلك حتى لا نزدري نعمة الله علينا، فنتكالب على الدنيا، ونتنافس، لأنَّ مَن نظر إلى أصحاب الملايين وهو من أصحاب الألوف المؤلفة رأى نفسه فقيرًا، وازدرى نعمة الله عليه، وإذا نظر إلى مَن هو دونه ممن لا يجد إلا قوتَ يومِه فإنه يشكر نعمة الله عليه، ويظن بأنه من أنعم عباد الله، فيكون من الشاكرين الذاكرين.

ثم إن النبي يضرب لنا مثلًا لمن يأخذ المال على قدر حاجته -كذلك الذي يتحرى الحلال في أمواله-: «وإن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه إلا آكلة الخضر» إلا دويبة الأرض، هذه الدويبة تأكل على قدر حاجتها، تأكل حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس؛ لتهضم الطعام، لتهضم ذلك العشب الذي في بطنها، استقبلت الشمس فاجترت -تخرج شيئًا من بطنها تجتر فتهضم، وتكثر في الهضم حتى يكون مفيدًا-، اجترت وثلطت وبالت، ثم إذا جاءت بعد أن أخرجت فضلات هذا الطعام أكلت بعد ذلك، فتأخذ الطعام على قدر حاجتها، وهذه دويبة ذكية، دويبة خلقها الله عز وجل، وجعل لها مقدارًا في الأكل، فلذلك هي تحيا، وهي تسمن أكثر مما تحيا وتسمن تلك الدواب الأخرى.

فكذلك الذي يأخذ المال على قدر حاجته؛ فإنه ينال حياة طيبة في الحياة الدنيا، وينال أجرًا عظيمًا مما ينفق في الأخرى؛ لهذا قال بعد هذا: «وإن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه؛ فنِعْمَ المعونة هو»، مَن أخذ المال بحقه فلا يرتشي ولا يُرابي ولا يقتطع أموال الناس ظلمًا وعدوانًا، ولا يأكل أمواله بين العباد بالباطل، فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه؛ أخرج حق الله منه، وأخرج حق عياله منه، أخرج حق الله، وحق المسلمين، أخذه بحقه ووضعه في حقه، لم يضعه في أيدي الصبايا الغواني؛ لم يضعه في الكرة واللهو واللعب، وإنما وضعه فيما يُرضى الله سبحانه وتعالى، فنِعْمَ المعونة هو، نِعْمَ المعونة في الدنيا، ونِعْمَ المعونة يوم القيامة، يجد المال الذي أنفقه كالجبل ينتظره، ربَّاه الله عز وجل لما وُضع في كف الرحمن، ربّاه الله عز وجل، فيحتاج إلى تلك الحسنات ويتعلق قلبه بتلك الطيبات التي أنفقها، فنِعْمَ المعونة له في الدنيا والآخرة.

مَن لم يأخذ بحقها، مَن أخذ من هنا وهناك، لم يراقب حرمة الله عز وجل، ما إن يسمع عن أسهم تُنزلها البنوك الربوية إلا ويكون من المسارعين، إلا ويكون ممن يقذفون بأنفسهم في الجحيم، يسارعون بوضع أموالهم في تلك البنوك، ما إنْ يرى رجلًا يأتي إليه لأخذ حقه في معاملة إلا ويشير إليه إما إيماءً أو تصريحًا.

الرشوة فيأخذ من هذا وذاك، ويجمع الملايين ويأكل ويأكل، فيقتله الله بماله، فترى الأمراض قد توالت عليه، فلا يخرج من مرض إلا ويرى نفسه في مرض، وما يعالج نفسه بألف من مرض إلا ويعالج نفسه بالملايين من مرض آخر، فيهلكه الله عز وجل بماله.

يقول: «ومن لم يأخذه بحقه فإنه كالذي يأكل ولا يشبع»، يقول -والحديث عند البخاري [2750] وغيره- لما جاءه حكيمُ بن حزام أعطاه النبي، ثم سأل فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال: «يا حكيم إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بحقه بورك فيه، ومن لم يأخذه بحقه أو باستشراف نفس -أي بإقبال وبسيلان لعاب- فإنه لا يبارك له فيه»، فما سأل حكيم بن حزام بعدها أحدًا أبدًا، بل كان الخليفة يرسل إليه بعطيته فيرفضها.

والرسول يخبرنا عن شَرَه ابن آدم للمال، يؤيد هذا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ‌ لَشَدِيدٌ}، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» (رواه ابن حبان [3237]، وصححه الألباني)، لو كان لابن آدم واديان من ذهب ممتلئان بصنوف الجواهر والحلي لابتغي لهما ثالثًا...لو كان له مليوني ريال لابتغى ثلاثًا، ولو كان له ثلاثًا لابتغى أربعًا، لو كانت له عمارة لابتغى عمارتين، ولو كان له ثلاثًا ابتغى أربعًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.

يحتاج ابن آدم إلى أن يتوب إلى الله عز وجل من الانهماك في الدنيا، ومن الشرَه في الأموال، والتوبة بالفعل كما هي بالقول، فيخرج حق الله عز وجل، ويتوب بأن يُرجِع المظالم إلى أهلها، والله لو تفكَّر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع، ولو تذكَّر جائعٌ في فضول مآلها لشبع، لو تفكَّر العاقل في عاقبة الدنيا وفي سكرات الموت لكان من القانعين، ولو تذكَّر الجائع ما يؤول إليه الطعام اللذيذ، الطعام الذي يوضع بأبهى الأشكال والألوان، ما يؤول إليه من الرائحة والنتن والله لشبع.

هب أنك قد ملكت الأرض طرًّا *** ودان لك العبادُ فكان ماذا؟
أليـس إذن مصـيرك جـوف قـبر *** ويحثـي التُـرب هذا ثم هذا

لهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْ‌ضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُ‌وهُ الرِّ‌يَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرً‌ا} [الكهف:45]، {حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْ‌ضُ زُخْرُ‌فَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُ‌ونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُ‌نَا لَيْلًا أَوْ نَهَارً‌ا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُ‌ونَ} [يونس:24].

قال ميمون بن مهران وكان عنده جلساؤه: "ما رأيكم بالنبات إذا ابيضَّ؟ فقالوا: هو الحصاد. فالتفت إلى الشباب وقال: وربما أدركت الخضرة آفةٌ فتهلكها قبل الفساد".

إذا شاب الشيخ فإن هذا هو أوان فواته من الدنيا؛ كالحامل التي بلغت تسعة أشهر؛ فإنها تظن الولادة بين فترة وأخرى، وكذلك الشاب ربما أصابه جائحة، ربما أصابه الله بمرض فتاك، فيهلكه الله قبل أن يبلغ ما يبلغ، فتوبوا عباد الله، وإياكم والانهماك في الدنيا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، إنك أنت الله المسؤول، إنك على كل شيء قدير.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ولي الصالحين، خالق الخلق أجمعين، ورازقهم، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على البشير النذير سيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.

أما بعد:

عباد الله فلعلكم قرأتم وسمعتم ما نشرت الصحف، ولعلكم لمستم شيئًا مما قلناه في الخطبة الماضية من العذاب الذي يعانيه إخوانكم في البوسنة والهرسك من القوات الصربية، والمرء وهو يقرأ، وهو يرى تلك الدماء التي تسيل كالأنهار، وهو يشاهد تلك الأشلاء، وهو يري النساء والأطفال، ويسمع عن هتك الأعراض، والله ليتذكر ما كان يقرأه عن الأندلس وعن دواوين التفتيش وعن ألوان العذاب، العذاب الذي كان يسيل سيلًا على المسلمين، دواوين التفتيش التي كانت عبارة عن أقبية تحت الأرض في الأندلس، فيؤتى بالمسلمين وغيرهم ممن يخالفون النصارى في دينهم، فيسامون سوء العذاب، يصنع لهم توابيت وصناديق وتغرز فيها خناجر حادة، ويوضع فيها المسلم، وتنطبق عليه الصناديق، فتسيل دماؤه، يؤتى بخوذة تشبه الرأس فتوضع على رأسه، ويفتح منها قدر قطرة ماء، وتنزل القطرة الباردة في ظلمة القبو بين فترة وفترة، حتى يجن الرجل إذ لا يرى إلا الظلام، ولا يُحس إلا بقطرات الماء الباردة تتنزل على رأسه، واقفٌ لا يقعد، فيهلك من شدة هذا العذاب، ألوان وألوان من العذاب.. تقطعة لأثداء النساء، تقطعة لذكور الرجال حتى تسيل دمًا ثم يموتون، رَسْم الصليب على ظهورهم وصدورهم وجنوبهم.

كنا نقرأ وكنا نسمع ما يقوله الوعاظ عن الأندلس، فنراه ماثلًا فيما يكون اليوم وفيما ينقل إلينا، ولعلكم قرأتم التحقيق الذي نشرته جريدة (المسلمون) بعنوان "جثث المسلمين تملأ الشوارع والأنهار في البوسنة، الصرب يذبحون قرية كاملة برجالها ونسائها وأطفالها"، وجزى الله ذلك المحقق خيرًا، وليت الصحفيين من بني جلدتنا يفعلون شيئًا من هذا بدلًا من أن يلبوا كل صيحة من كرة أو دورة من دورات الألعاب، فيذهبون هناك ويقفون في الشمس يرصدون الكرة التي تدخل في الشباك ويرصدون تلك الركلات، بدلًا من ذلك أين هؤلاء من مثل هذا؟!

بدلًا من أن نتلقى أخبارنا عن وكالات الأنباء الكاذبة التي تُخفي حقيقة الأمر، ألسنا بحاجة إلى أبناء المسلمين الذين يذهبون إلى هناك، ويأتون لنا بالحقائق، يقول هذا المحقق: "لم يكن مضى على ذلك الوقت -أي: وقت وصوله إلى تلك القرية- أكثر من أربع وعشرين ساعة عندما دخلت عصابة الشتينك، وهي قوات الميليشيات الصربية لتوجه نيران مدفعيتها الثقيلة أولًا إلى المسجد، يبدأون بالمساجد أولًا، وهذا يدل على أن الحرب ليست بحرب أهلية، وإنما هي حرب دين، بدؤوا أولًا بالمسجد حيث كانت تقام الصلاة، وكانت المأذنة منذ قليل ترفع نداء: (الله أكبر)، وفي ثوان حصدوا كل المصلين، ثم انهمكوا في التنكيل والتمثيل بجثثهم، يسكبون عليها زجاجات الخمر التي كانت في أيديهم، ويرسمون بالسكاكين على الأجساد الطاهرة صلبانهم، ومن المسجد توجهوا إلى المدرسة التي تضم أطفالًا لا تتجاوز أعمارهم العاشرة، وصوبوا عليهم الرصاص أيضًا، دون أن يَعْبَؤُوا بصرخاتهم البريئة، وخلال ساعة واحدة أصبحت القرية المسلمة كتلًا مشتعلة من النار، لم يبقَ بيت إلا وقد ذبحوا كل من فيه بالسكاكين، لم يرحموا طفلًا حديث الولادة أو امرأة تستغيث، وليس لها مغيث إلا الله أو رجلًا مسنًّا يعد أيامه الباقية، ها أنا ذا وسط المدينة بعد ساعات فقط من المذبحة، سكانها إما لبسوا أكفان الموتى، وإما جثثهم لم تزل ملقاة في أماكنها؛ لأنه ليس هناك أكفان كافية لهم.

محمد عبد الكريم

قارئ متقن و ذو صوت عذب، من أصل سوداني

  • 2
  • 2
  • 18,182

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً