الأندلس.. وأحداثه الرمضانية

منذ 2014-07-16

إلاّ أنّ هناك أزمنة وأمكنة -من كلّ لون- تتربّع على مكانة خاصة متميزة، العمل فيها مضاعف الأجر والمثوبة، لهذا جعل الله -تعالى- أحداثًا مهمّة تقع فيه، تأكيدًا لمكانته وبركته والأجر فيه، وإظهارًا لتميّزه، وإعلاءً لأمره لتكون محثًّا إلى الخيرات والحسنات. فرمضان موسمٌ مَن حُرم الأجر فيه، فاته الكثير الكثير.

شهر رمضان شهر الخير والبركة، جوانبه في ذلك كثيرة، خلال المسيرة التاريخية للحياة الإسلامية. والحق أن جميع الشهور الأخرى لم تحرم من أمجاد متنوعة، وكلها أيام الله تعالى، لكن كان في شهر رمضان تحققت أمور، وجرت فيه أحداث، وتمت فيه انتصارات أعطته مدلولًا عزيزًا، إبرازًا لقدره، وإظهارًا لمكانته، وحيث فيه ليلة القدر التي شرفها الله تعالى بنزول القرآن: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر. تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:1-5]. {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُ?ْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].  

فما جرى فيه من المفاخر كان إظهارًا لهذه المكانة، ولكنها جرت بأسبابها المنسجمة مع سنن الله -تعالى-، وما وضع سبحانه من نواميس، والتي لا تتخلف في غيره من أيام الله تعال-.

وعليه، فما أكثرَ الأحداث التي جَرَتْ فيه، مباركةً تحمل العِبَرَ والفِكَرَ وخيرَ الأثر. وقد تنوعت فيه الفتوحات من كل نوع ومذاق وميدان، في العلوم، والبناء الإنساني، والحياتي، والارتقاء، والنِّتاج، والإنجازات العُمرانية، والحياتية، والإنسانية، والحضارية المتنوعة.

ولذلك تجد هذا الشهر الكريم واقفًا ومتميزًا ومنتصبًا في التاريخ الإسلامي -متربعًا مترفعًا- بقامته المديدة، وصفحاته المجيدة، وأيامه الرشيدة، فخورًا عملاقًا، بل مشتاقًا لأيامه الخالدات في تاريخه كلّه، بها يتبختر ويتنوّر ويتمايل، دلالًا واعتدالاً.

رمضان بين الأقران:
كلّ الشهور فخورة مثله، لكنّه يتميّز عنها لأكثر من سبب. فمثلما هو أفضلها، وصيامه كبير الثواب، فالعمل فيه أفضل ومضاعف الأجر: «كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصيام فإنّه لي وأنا أَجزي به» (رواه أحمد، صحيح). ففيه ليلة القدر، هي من أعظم الليالي.

كلّ الأشهر فيها أمجاد ومفاخر، لكنّه يزيد عليها أنّه شهر الصيام الذي فرضه الله -تعالى- على المسلمين، يوم الاثنين لليلتين خَلَتا من شعبان من السنة الثانية للهجرة، قبل غزوة بدر بشهر ونصف. وفيه يكون الانصراف للعبادات المتنوّعة، بميادينها الكثيرة.

هو كالصحابة بين الأمّة، لهم شرف الصحبة، ورمضان ذهب بنصيب كبير، صدّاحًا ميّاحًا فيّاحًا. فيه أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ...} [البقرة: 185]. فيه ليلة القدر في العشر الأواخر منه، هي خير من أَلف شهر: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر} [القدر:3].

فهو موسم ذلك كلّه، ولأنّ العمل الخالص لله -تعالى- أجره مضاعف فيه، فتميّزه عن الشهور الأخرى يأتي من هذا الباب. فهو مبارك مضاعف ميسور، وإلاّ فالأيام كلّها أيام لله تعالى وأشهرُه. والعمل في كلّها مقبول ومأجور، إلاّ أنّ هناك أزمنة وأمكنة -من كلّ لون- تتربّع على مكانة خاصة متميزة، العمل فيها مضاعف الأجر والمثوبة، لهذا جعل الله -تعالى- أحداثًا مهمّة تقع فيه، تأكيدًا لمكانته وبركته والأجر فيه، وإظهارًا لتميّزه، وإعلاءً لأمره لتكون محثًّا إلى الخيرات والحسنات. فرمضان موسمٌ مَن حُرم الأجر فيه، فاته الكثير الكثير.

انقطاع عن الملذات:
ورمضان وقت للتفرّغ والتركيز للعبادات، وموسم لها وانقطاع عن الملذات والمتع والغذاء في نهاره، وقيام ليله، يقدّم المسلم كلّ هذه الأفعال عبادة لله تبارك وتعالى، خلالها يقوم بأداء العبادات المعتادة، بالإضافة إلى زيادة في الطاعات والقربات سعيًا لمثوبة الله تعالى، لأن أجر العبادات والطاعات فيه أكبر، ومن هنا يتسابق المسلمون لأدائها ويقدّم أحدهم غاية ما يستطيع، وأنّه قياس لإعلاء طاقة المسلم، وحتى يحيا بها في الحياة في بقية أيام السنة وأعوامها على منوالها. وهذا نلمحه في العبادات الأخرى -كالحجّ مثلًا- كي ترتقي وتتقدّم بالنية والعمل والممارسة، ليُصبح ذلك عنده صفةً وخلقًا وقمّةً يرتقيها بسهولة ومقدرة وحزم، لا ينزل عنها. وإذا تم شيء من ذلك تراه يعود، بسبب بنائه. وهذه واحدة من وسائل الإسلام في التربية، عملية تُمارَس لا معلومات تُتَدارس ولا فلسفات تُنَظَّر.

أول جامعة في العالم:
وهنا أُورد حدثًا نموذجًا متفردًا متميزًا، وإن كان ليس الوحيد -في الحياة الإسلامية-، ذلك أن امرأة مسلمة في مدينة "فاس" المغربية: "فاطمة بنت محمد الفِهْري" وَرِثَتْ مالًا، فأرادت أن تنفقه في سبيل الله، فبنت به جامعة متكاملة بكل مرافقها، حتى مساكن الطلبة، وبأحسن صيغة معمارية، فهي جامعة تُعْتَبَرُ إلى اليوم معلمًا حضاريًا رائدًا، يرتاده القادمون باهتمام. تلك هي جامعة "القرويين" في مدينة "فاس"، أول جامعة في العالم كله. وليس هذا وحده هو الشاهد، بل إنها بعد أن تم وضع كافة التصميمات وبإشرافها، ابتدأ البناء ببداية شهر رمضان المبارك سنة (245هـ) (أوائل سنة 860م). والشاهد الآخر هو أنها كانت تشرف على البناء وهي صائمة، والمفاجَأة في ذلك أن البناء استمر نحو سنة، كانت أغلب أيام هذه السنة صائمة، حتى تم البناء، إيمانًا واحتسابًا، تقربًا إلى الله تعالى. وهكذا تكون دوافع الأعمال في المجتمع المسلم، فكان رمضان مباركًا.

هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في رمضان:

والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قُدوتنا وإمامنا وهادينا، مثلنا في الدعوة إلى الله وإبلاغ رسالته، صَبَر واحتمل وأكل من الجوع أوراق الشجر، وشدّ على بطنه أكثر وقبل غيره الحجر، وتورمت قدماه من القيام في الصلاة، كذلك في الصيام كان هَدْيُه وسنّته صلى الله عليه وسلم -وهو قُدوتنا وأُسوتنا- الإكثار من العبادة بأنواعها، فكان -صلى الله عليه وسلم-: «يعتكف العَشْر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله، ثمّ اعتكف أزواجه من بعده» (رواه البخاري)، حيث كان يعتكف -ينصرف للعبادة- فيها في المسجد، لا يدخل البيت إلاّ لحاجة. وقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: «وإنْ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلَ عليَّ رأسه وهو في المسجد فأُرَجّله، وكان لا يَدْخل البيتَ إلاّ لحاجة إذا كان معتكِفًا» (رواه البخاري).

وروت عائشة رضي الله عنها: «كان النبيّ-صلى الله عليه وسلم إذا دخل العَشْرُ شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله» (رواه البخاري)، واقتدى به الصحابة والتابعون ومَن بعدهم من الرجال والنساء. وكان صلى الله عليه وسلم دومًا كريمًا وجوادًا، «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة» (رواه البخاري).

تبرز لدى كل مسلم هذه الصفات التي هي طاقات عنده ويمارسها دائمًا، لكنّه يركّزها مشهودة يراها الناس، فتكون هذه طاقة عندهم واستعدادًا لديهم، فتأتي الفتوحات النفسية تنطلق نحو كلّ أنواع الفتوحات الأخرى فيعرف الاحتمالات.

رمضانيات السيرة النبويّة:
وفي الحرب -خلال رمضان- كان صلى الله عليه وسلم يقوم بالفتح، بقوّة أبية متمكّنة، كما جرى في غزوة بدر (الجمعة/ 17/ رمضان/ 2هـ = نحو: 20/3/624م)، وفتح مكة (20/ رمضان/ 8هـ =630م)، وإن كان المعهود أنّ المسلمين يُفطرون من أجل نصرة الدين، فهم صائمون كمفطرين، وفِطْرُهم طاعة أخرى. فالفطر هنا أوجبُ وأرحب وأثوب: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» (رواه مسلم).
فهم طوع الأوامر الربانية ويلبّون ما هو أقرب إلى الله -تعالى- وأرضى له، مهما كانت صعوبته أو سهولته. وكم من مناسبةٍ أفتى فيها علماء الأندلس في تقديم الجهاد -ذُروة سنام الإسلام- على الحجّ، وسلكوه.

أمجاد رمضانية:
وفي التاريخ الإسلامي أمجاد الفتوحات المتنوّعة، من العسكرية والنفسية والعلمية، في إطارها الإنساني المتكامل المتفاضل، كما في الشهور الأخرى، ولكن تَمَيَّز رمضان بكثير منها. وليس لأمة أو دين ما يدنو من رمضان الذي اختصّ به الإسلام لتميزه على جميع الشرائع، وهو كذلك دومًا، طاعةً وارتقاءً وجهادًا، امتلأت به صفحات التاريخ الإسلامي والأندلسي.
 

 عبد الرحمن بن علي الحجي

  • 0
  • 0
  • 2,243

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً