نهجُ الأحرارِ من قديم
في السهول المستوية ينداح السيل حتى يبلغ منتهاه، ما يعترضه شيء.
وفي حقول الأرز والقمح تهِبُ الريح فتميل السيقان الغضة كلها، ما ينتصب منها عود.
وبين جماهير الدهماء ينتشر التقليد الخاطئ، أو العُرف السيئ فما يرده ذكاء، أو تمتد رهبة السلطان وسطوة الملك الطائش فما يقمعها تمرد.
ولكن هناك رجالاً من معادن فريدة تشذُّ عن هذا العموم المهين.. فهي الجبال التي تقف مد السيل، والأشجار التي لا تنثني مع هبوب العاصفة.. وهم الصاحون بين السكارى، فإذا شاع خطأ تعرضوا هم له بالنقد، وإذا ألف الناس مسلكاً لم يعجبهم تصرفوا هم منفردين على طريقة المعرى حين قال:
تثاءبَ عمرو إذ تثاءبَ خالِدُ *** بعدوَى فما أعدتْنيَ الثؤباءُ
وإذا ركع الناس بين يدي ملكٌ ظالم، أو استكانوا لأوضاع مزرية.. لمحت في أبصارهم بريق الأنَفة، وفي سيرتهم شرف الحرية، فما يستريحون حتى تنجو البلاد والعباد من آثار الفساد، وقيود العبودية.. أولئك هم الثوار الذين يعتز بهم الإيمان وتستقيم بهم الحياة.
وإذا كان الله جل شأنه قد صان العمران البشري بالجبال، وقال في كتابه: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31]، فقد اقتضت حكمته العليا أن تصون المجتمع الإنساني بهذا النفر من حرَّاس الحقائق الرفيعة، وحماة المعالِم الفاضلة.
فهم الدواء الخالد لكل ما يفشو في الدنيا من عِلل، وهم الأمل الباقي لبقاء الخير في الأرض، وإن ترادفت النوب، واكفهرَّت الآفاق.
ربما كان عشق الحق خليقة فيهم فطرهم الله عليها، كما قال في كتابه: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181].
ولعشق الحق أعباء مرهقة، أولها الصبر على تثبيط الخاذلين، وكيد المعوقين والمخالفين، بيد أن طبيعة الثورة على الباطل لا تكترث لشيء من هذا، وفي الحديث الصحيح: « -أو: - ».
وأكثر الناس يعرف الحق معرفة حسنة، غير أنه لا يأسى لهزيمته، ولا يأسف لضياعه! أو لعل إحساساً من الضيق يخامره خذلان الحق، إلا أن هذا الإحساس يصطدم بمصالح النفس، وضرورات العيش، ومطالب الأولاد، فيتراجع المرء رويداً رويداً.. عن هذا الشعور النبيل، ويؤثر الاستسلام على المقاومة، والاستكانة للواقع عن تغييره وإنكاره.. وهذا السلوك لا يتفق مع طبيعة الإيمان، ويستحيل أن تتقبله نفس ثائرة لله مؤملة فيما عنده.
فالغاضب لله ورسوله يذهل في سورة يقينه عما يحرص عليه الجبناء من حياة ومتاع، ولا يرى أمامه إلا نصرة الحق ورفع لوائه وليكن ما يكون.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (متفقٌ عليه).
على أن من العبث انتظار التفاني في الحق من عبيد أهوائهم وصرعى نزواتهم، إن الأمر يحتاج إلى تربية وتبصرة حتى يكون مذاق الإيمان أحلى في فمِّ الإنسان من كل لذةٍ عاجلة.
عندما يشعر امرؤ بالسعادة؛ لأنه واسى محروماً، أو نصر ضعيفاً، أو آمن قلِقاً، أو آوى هائِماً، أو أحصن عِرضاً، أو حقن دماً.. فهو إنسان كبير، ومثله أهلٌّ لأن يفتدى عناصر الإيمان بالنفس والنفيس.
والثائرون ضد الظلم والناقمون من أعوانه رجال من ذلك المعدن الصلب، واندفاعهم لتقليم الأظافر الشرسة ضرب من الإصلاح العام للحياة والأحياء {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة من الآية:251].
وفي الأعصار الأخيرة قامت ثورات شتى استهدفت إنقاذ الجماهير من الملوك المسلطين، وأسرهم المحظوظة، وثورة يوليو سنة 1952م من بين هذه الثورات الخطيرة، ونحب أن نقول بجلاء إنه حيث يسود الحكم المطلق تنتقض الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها!
وذلك أن الله قد خلق البشر آحاداً صحيحة، وجعل لكل أحد منهم مدى معيناً يمتد فيه طولاً وعرضاً. فإذا عنَّ لأحدهم أن يتطاول وينتفخ ويتزيد، فعلى حساب الآخرين حتماً.. ومن هنا تجد من حوله أنصاف بشر أو أرباع بشر! أصبحوا كسوراً لا رجالاً سواء، وما نقص من تمام إنسانيتهم أضيف زوراً إلى الكبير المغرور، فأصبح فرعوناً مالكاً، بعدما كان فرداً كغيره من عباد الله.
ولما كان الإسلام إنقاذاً من جهالاتهم المتوارثة، وحماية للفطرة من أن تأكلها تقاليد السوء، وقوانين الاستبداد الأعمى، فقد جعل كلمة التوحيد -وهي عنوانه وحقيقته- نفياً للوثنيات كلها، ورفضاً لأية عبودية في الأرض، وتدعيماً للحرية التي ذرأ الله الناس عليها، والكمال الذي رشحهم له.
ذلك بعض ما تعنيه الكلمة العظيمة (لا إله إلا الله)، وهي الكلمة التي يرددها الألوف دون وعي، بل لعلهم يعيشون في ظلها عبيد أوهام.
وقد بُعث محمد للناس وفي قلوبهم وجل من سطوة الملوك الأولين، فلما جيء بأعرابي يوماً في حضرته أخذته رعدة -يحسب نفسه قريباً من أحد الجبابرة- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه الإمام أحمد وغيره).
كان قد وقر في الأذهان أن الملوك ليسوا من عبيد الله المألوفين؛ فإن الأبراج التي يحيون فيها قطعت نسبتهم من الأرض، ووصلتهم بالسماء، فزعموا أنهم نسل آلهة، أو عاشوا كذلك، وإن لم يقولوا بألسنتهم ما يقولون بأفعالهم!
فأراد محمد صلى الله عليه وسلم أن يعرِف العرب أنه بشر مثلهم لا ملك فوقهم، ثم انتسب إلى أمه، لا إلى العظماء من أجداده، ليزداد لله تواضعاً، ومن الناس قُرباً.. وجاء الحكام الراشدون بعده فمشوا في أثره، وربطوا نسبهم بالجماهير التي نبتوا منها فما تنكَّروا لها، ولا تكبَّروا عليها، ولا حسب أحدهم نفسه من دمٍ أنقى أو عنصر أزكى.
واسمع إلى أبي بكر رضي الله عنه بعد ما ولي الخلافة يقول: "أما بعد فإني قد وُليت عليكم، ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقٍ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطلٍ فسدِّدوني، أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".
وجاء في خطبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اعلموا أن شِدَّتي التي كنتم ترونها ازدادت أضعافاً على الظالم والمعتدي، والأخذ لضعيف المسلمين من قويهم، فاتقوا الله وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولَّاني الله من أمركم".
أيها الناس: "إنه لم يبلغ ذو حقٍ في حقه أن يطاع في معصية الله".
هذا هو وضع الحاكم المسلم في الدولة المسلمة، رجل من صميم الأمة يطلب أن يُعان على الحق، وأن يُمنع من الباطل، ويرى السلطة المخوّلة له سِياجاً للمصالح العامة، لا مصيدة للمنافع الخاصة، ولا باباً إلى البطر والطغيان، ذلك هو دأب الإسلام الذي خطَّ مصارع الجبابرة في الدنيا، وحطَّ منازلهم في الآخرة {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
حيث يكون العسف والخسف لا بد أن يكون الإسلام ديناً ثائراً يطلب النصفة والرحمة.. وحيث يكون الاستعلاء والاستعباد لا بد أن يكون المسلمون ثُواراً ينشدون العِزَّة الكرامة.
وقد تكون عقبى الجهاد موتاً في غربة، أو قتلاً في معركة، والثائرون ضد الباطل أدنى الناس إلى البلاء والعطب.
وماذا في هذا؟ إن ما يحذره غيرهم هو الذي ينشدون لأنفسهم!
وتلك طبيعة الثائرين، إما أن يَحيوا كما يريدون، أو يموتوا كما يريدون.
إنهم عزيمة تؤثر في الحياة سلباً وإيجاباً، وليسوا عرباتٍ تُشَدُّ إلى جياد الآخرين.
ويعجبني قول الطرماح بن حكيم، وهو يسعى إلى الغنى حتى لا يحتاج إلى فسقة الأمراء في عهده أو إلى عَداة الخلفاء -كما سمَّاهم-:
وإني لمقتادٌ جوادي وقاذفٌ *** به وبنفس العام إحدى المقاذفِ
لأكسب مالاً، أو أؤول إلى غنى *** من الله يكفيني عَداة الخلائفِ
ثم اسمع إلى هذا الثائر الضارب في مناكب الأرض طلباً للعِزَّة يقول:
فيا ربّ إن حانت وفاتي فلا تكن *** على شرجع يعلى بخضر المطارفِ[1]
ولكن قبري بطنُ نسرٍ مقيله *** بجو السماءِ في نسور عواكفِ
وآسى شهيداً ثاوياً في عصابةٍ ***يصابون في فجٍ من الأرضِ خائفِ
والمسلمون اليوم لن ينجحوا في حرب الاستعمار إلا إذا استهتروا بالموت وأحبوه في ذات الله.
أرأيت تاريخنا القديم وأبطالنا الأولين:
لقد كانوا يتمنون من أعماق قلوبهم أن تثوى جثثهم الممزقة في حواصل الطير وأجواف الوحوش. وهم هلكى، لا بين أحضان الأهل الباكين والأحباب المواسين، ولكن في وحشية الصحراء ورحاب الميادين أو في أفقٍ مبهم من أعماء الدنيا، وعلى شفة أحدهم وهو يجود بروحة قول الشاعر:
وذلك في ذاتِ الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصالِ شلوٍ ممزَّعِ
هكذا مضت سنة الإيمان منذ أبرم عقد الجنة، ووصفت آيات الله من وقَّعوا عليه بأنهم {يَقتلون ويُقتلون} [التوبة من الآية:111].
وهكذا مضت سنة الرجولة من قديم الزمان.. فاعتبرت موت الرجل بين أهله معرَّة؛ لأن هذا شأن النساء والعبيد.. فمصارعهم تحمرُّ بها صحائف التاريخ، ويلبس الشفق القاني ثوبه الأرجواني منها! وبذلك المعنى هتف الشاعر القديم:
وإنا لقومٌ ما نرى القتل سبةً *** إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ
تسيلُ على حدِ الظباتِ نفوسُنا *** وليست على غير الظباتِ تسيلُ
وما مات مِنَّا سيدٌ حتف أنفه *** ولا طل مِنَّا حيث كان قتيلُ
أجل هذه شارات السيادة، ألَّا يموت الرجل حتف أنفه، ولكن يموت في عرصات الوغَى.
لما قتل الأمويون مصعب بن الزبير رحمه الله، قام أخوه عبد الله فخطب الناس فكانت خطبته تعبيراً لبني أمية أنهم يموتون على فُرشِهم! أما آل الزبير فقد كفَّنوا في دمائهم بطلاً من بعد بطل..
وخطب أبو حمزة الخارجي يصف رجاله، وكيف جند لهم المنايا، واستهلكهم صدق الجهاد، فكان من كلامه في لقائهم الحتوف: "استخفُّوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ومضى الشباب منهم قُدماً حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضَّبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت إليه طير السماء.. فكم من عينٍ في مناقير طائر، طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله...! وكم من كفٍ زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله..".
فانظر مصاير أولئك الشباب كيف خطَّها القدر؟
وكيف تذكر في سياق الدلالة على حب الله والتفاني فيه؟
إن أولئك الشهداء المستميتين في محاربة البغي، الذين رضوا أن تُدقَّ أعناقهم قبل أن تَدقَّ على أبواب الإسلام يدٌ آثمة، وأن تُمزَّق أعضاؤهم قبل أن يتمكّن من الكيد لدين الله كافرٍ سافر، أو منافقٍ خناس.
إن أولئك الشباب الهلكى، المبعثرة أحشاؤهم هنا وهناك، سوف تجمعهم القدرة العليا بكلمةٍ واحدة، فإذا الجبين المشجوج ناصع مُشرِق، وإذا العين المفقودة حوراء مبصِرة، وإذا الجثة الممزعة بشرٌ سوي يقول لله: "آمنتُ بك وتحمّلتُ فيك ما ترى" تلك سنة المؤمنين الأحرار، في المحيا والممات.
ــــــــــــــــــ
[1]- (أي على نعشٍ ملفوفٍ بالأقمشة المطرزة).
المصدر: كتاب (من مقالات الشيخ الغزالي)، جمع: عبد الحميد حسانين حسن، دار نهضة مصر - القاهرة، ص: [1/65]).