بناءُ العامريّين
كم من مرةٍ فاتنتا صلاةٌ بسبب انشغالنا في عملٍ أو مهمّة، حتى أن بعض أعمالنا التي نرجو أن يكونَ فيها نفعٌ للناس وأجرٌ لنا تُؤخرنا عن أداء الصلاة عن وقتها، فبئس ذلك العمل الذي يُشغلنا عن ركنٍ من أركان الإسلام.. الذين يؤخرونها بسبب ما يظنّون أنه عمل تطوعي خيري.. كيف يُريدون إصلاحَ أمةٍ وهم عن إصلاحِ أنفسهم غافلون!
- التصنيفات: قضايا الشباب - الطريق إلى الله -
عامر، شابٌ مثابرٌ يُعتمد عليه، أو كما قيل "أعطه المهمّة وانساها"، يُعتبر في العُرف المُجتمعي (مطوّع). هو في السنة الأخير من دراسته الجامعيّة، ويعمل كمتطوعٍ في عدّة جهات خيريّة. كثيرون نصحوه بأن يجعلَ تركيزه في عملٍ واحدٍ محدد، فبذلك سيكون لديه مجالٌ للإبداع أكثر، هو يخالفهم، حيث يزعم أن لديه من الوقت و التركيز ما يجعله يُعطي كل جهةٍ حقّها.
ازرع في كل بستان زهرة، واكسب من كل بستان خبرة، هذه رؤيته! أسرّها لبعض الأصدقاء، فسأله بعضهم: "إلى متى؟!"، جوابه كان واضحًا! "إلى أن أملك من الخبرة ما يُمكنّني أن أقود مشروعي المجتمعي الخاص، أسيرُ وفق خطة مرسومة بعناية، وأهدافٍ هي دائمًا ما تكون نصب عينيّ!".
عامر، جدولهُ بالعادةِ مليء، ولكنه مُنظمٌ جدًا! ينتهي من حصصه عند أذان الظهر، يركب السيارة ليُصلّي قربَ منزله، اعتادَ أن يكونَ إمام الجماعة الثانية، إن كانت هناك جماعة فغالبًا لا يجد من يصلّي معه لانشغال أهل الحي بأعمالهم وقت الظهيرة. يعود لمنزله، يُقبل رأس أمه، يُسلّيها ويدردش معها قليلًا حتى وقت خروج أخوته من مدارسهم، يذهب لإحضارهم ودائمًا ما يستجيبُ لطلب أخته الصغرى للوقوف في (السوبر ماركت) لشراء (آيس كريم الفراولة) المفضل لديها!
يصل للمنزل، يحمل حقيبةَ أخيه وأخته من السيارة رأفةً بهم لثقلها، يَغسل يديه وينتظر هو وأخوته مجيء أمه ليبدء في الغداء، دائمًا ما يُذكّر أخيه بالتسمية قبل الأكل. بعد ذلك يأخذ قيلولته اليومية مُنبّهًا أخته بأن تُوقظه عند الثالثة وخمسين دقيقة في حالةِ كونه نائمًا، بعد أن وضع منبّههُ على وقت صلاة العصر.
استيقظ عامر على صوت أخته وهي تنبهه على أن الساعة الآن هي الرابعة! أخذ جوّاله مرتبكًا ليتأكد من الوقت، ذهب إلى خيار المنبّه ليتأكد أيضًا منه، فهو لم يسمعه يرن! بعد أن ألغى خيار (الغفوة) التي وضعها من دون وعي منه أثناء نومه، ذهب ليتوضأ ويصلي العصر. صلّى ثم تأنّق ليحضر اجتماع تلك الجهة الخيرية بخصوص مشروعهم القادم.
وهو في الاجتماع، وضع تنبيها لنفسه بأن يغادر قبل آذان المغرب بخمس دقائق ليصلي بجانب السوق، فقد طلب منه أبوه بشراء بعض حاجيات البيت من خضار وفواكة وغيرها. وفعلًا صلّى المغرب هناك وانتهى من شراء الحاجيات مع أذان العشاء وذهب بها للمنزل.
وضع عامر الأغراض في المطبخ، وطلب من أخته أن تقول للخادمة بأنْ تضع الأغراض في الثلاجة. ذهب لغرفته، غيّر ملابسه ولبس التبديلة الرياضية، فهو على موعد مع أصدقائه في مباراة حامية.
خرج من منزله واستغرب الصمت المحيط، نظر لساعته وإذْ بصلاةِ العشاء انتهت! شغّل سيارته ليلحق بمصلّى محطة البنزين القريب من منزله، في الطريق اتصل عليه صديقه يطلب منه جلب كرتون ماء للشباب "وبالله لا تتأخر هالمرّة" قالها صديقه محرّصًا عامر، أنهى المكالمة، نظر لساعته، قال في نفسه: "لا أريد التأخر عليهم، سأصلّيها عند ما ننتهي، فزمن صلاة العشاء طويل!".
ذهب للبقالة، اشترى كرتون الماء، وتردد في شراء مشروب الطاقة، أخذه على عجل بعد أن قال في نفسه "لازم أتنشّط". بدأ اللعب واشتد الحماس، وبعد مرور ساعتين توقفوا، الإجهادُ بادٍ عليهم، دردشوا قليلًا ثم جمعوا مبلغ استئجار الملعب وأعطوه لعامل الملعب.
وهو في طريق العودة اتصل على أمه "السلام عليكم، أجيب لكم عشا وأنا جاي؟"، ردّت عليه أمه بأن إخوانه نائمون وهي قد تعشّت، "إش رأيك أسوي لك بيض عيون"، ضحك عامر بعد أن قالتها له أمه ووافق على الفور، فهو يعشق تلك الأكلة خصوصًا من يديها.
وصل إلى البيت، سلّم على أمه وأبيه وقبّل رأسيهما ويديهما، ذهب للاستحمام، بدّل ملابسه، ثم شرع في عشائه داخل غرفته، فهو يحب دائمًا حين يتعشى أن يقرأ كتُب الشيخ الطنطاوي، مر الوقت ولم يشعر إلا وقد اقتربت الساعة من الواحدة وسبع وعشرون دقيقة!
ذهب لدورة المياه ليتمضمض، ويغسل يديه بعد العَشاء، ثم استلقى على فراشه وأخذ يشاهد تغريدات (تويتر)، وصور (الانستجرام)، ويرد على رسائل أصحابه في (الباث والواتس آب). وختم ذلك بوضع تغريدة تذكيرية بصلاة الوتر، وقد قال في نفسه "لعلي أكسب أجر من يصلّيها!".
بعد أن اقتربت الساعة من الثانية وتسع دقائق وضع منبهًا في جواله عند الساعة الثالثة وخمس وثلاثون دقيقة ليستيقظ لصلاة الفجر، أغلق بعدها شاشة جواله وألتفت للجانب الأيمن ثم أغلق عينه "اللهم باسمك أحيا و....."، توقف عامر ولم يُكمل الدعاء، تذكّر بأنه لم يُصلّي العشاء! قام بتثاقل، ذهب ليتوضأ، وبعد أن صلّى واضطجع، وتحسّف لأنه لم يُصلِّ الوتر قبل قليل، أغمض عينيه ولم يصحَ إلا على صوت أخيه يوقظه ليوصله هو وأخته إلى مدارسهم، نظر إلى الساعة وإذ بها تشير إلى السادسة وخمس وعشرون دقيقة! أوصل أخوته بعد أن توضأ وصلى الفجر، ثم ذهب لجامعته لكي يبدأ يومه الدراسي.
كان ذلك جدول عامر ليوم الثلاثاء وبداية يومِ الأربعاء، وهو تقريبًا جدوله في كل يوم، بإضافةِ وقتٍ للمذاكرة، ووقتٍ لتنفيذ بعض الأعمال التطوعية، وغيرها من المهام المختلفة. لاينام غالبًا إلا بعد الواحدة ليلًا، بارٌ بوالديه، يُحبّه أخوانه ويستأنس به أصدقاؤه، ابتسامته لا تفارقه. ولكنه للأسف غفل عن أمرٍ مهم، فرغم أنه دقيق في مواعيده، وله نصيب كبيرٌ من الأعمال الخيرية، ويُصنّف على أنه (متطوّع)، إلّا أنه مُقصّرٌ كثيرًا في أمرٍ يُعتبر هو الأهم، فهو لا يُعطي الصلاة اهتمامًا في جدوله، وكأنها شيءٌ ثانوي، تكونُ في هامش وقته!
أجزاءٌ من قصةِ عامر تحكي بعضاً مما نراه ونعيشه في حياتنا اليومية، سواءً كان ذلك الـ(عامر) أخٌ أو صديقٌ أو حتى يُمثلنا نحنُ! فكم من مرةٍ فاتنتا صلاةٌ بسبب انشغالنا في عملٍ أو مهمّة، حتى أن بعض أعمالنا التي نرجو أن يكونَ فيها نفعٌ للناس وأجرٌ لنا تُؤخرنا عن أداء الصلاة عن وقتها، فبئس ذلك العمل الذي يُشغلنا عن ركنٍ من أركان الإسلام! لا أتحدثُ عن الانشغال بسبب تلفازٍ أو نومٍ أو حتى مجردِ شعورٍ بالنعاس، بل عن أولئك الذين يؤخرونها ويغفلون عنها بسبب ما يظنّون أنه عمل تطوعي خيري، فيه نفعٌ للأمة.. إلخ، فياليت شعري كيف يُريدون إصلاحَ أمةٍ وهم عن إصلاحِ أنفسهم غافلون!
يحملون في دواخلهم همومًا للارتقاء بالمجتمع، وتطويره بالبرامج والمشاريع الصغيرة والضخمة، ولكنهم للأسفِ بدؤوا بالبناء من الأعلى وتركوا الأساس! لا أريد سرد آياتٍ وأحاديث توضح مكانة الصلاة وأهميتها في ديننا، فذلك أمرٌ واضح جلي.
ما كتبتُه كان جزءًا مما يختلج في خاطري، بعد رؤية أجزاءٍ من قصةِ عامر فيمن نتوسّم فيهم الخير والصلاح، ونرجو أن تكون رفعةَ الأمةِ بهم، فسامحوا أخاكم إن كدّر عليكم أو قسى، فهي كلماتُ مُحبٍ يشعرُ بالتقصير
أخيرًا، أُذكر الـ(عامريون) بأبياتِ أبي الأسود الدؤلي:
يا أيها الرجل الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ *** هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى *** كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا *** فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
حمد السماعيل