أكثر من ستين فائدة من حديث: يا أبا عمير ما فعل النغير
لقد تطاول أناس جهال على علماء الحديث، بل وحقروا من شأنهم وجهودهم، وذكروا أنهم ليسوا من أهل العلم، وتعجبوا!! ما بالكم تغوصون في أعماق الكتب لتخرجوا حديث وتأتوا بطريقة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
لقد تطاول أناس جهال على علماء الحديث، بل وحقروا من شأنهم وجهودهم، وذكروا أنهم ليسوا من أهل العلم، وتعجبوا!! ما بالكم تغوصون في أعماق الكتب لتخرجوا حديث وتأتوا بطريقة.
قال عكرمة رضي الله عنه: "إياكم أن تؤذوا أحداً من العلماء، فإن من آذى عالماً فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعلماء هم حراس الدين وحماته من الابتداع والتزييف، وقد قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟!! فقال: يعيش لها الجهابذه" (اللآلئ المصنوعة للسيوطي: 2/472).
وعن ابن علية قال: "أخذ هارون الرشيد زنديقاً فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي؟ قال له: أريح العباد منك. قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها ما فيها حرف نطق به؟! فقال الرشيد: فأين أنت يا عدو الله من إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك ينخلانها نخلاً فيخرجونها حرفاً حرفاً" (تذكرة الحفاظ: 1/252).
قال هلال بن خباب: "سألت سعيد بن جبير؛ قلت: يا أبا عبد الله، ما علامة هلاك الناس؛ قال: إذا هلك علماؤهم". هذه هي منزلة العلماء ومكانتهم في الدين. ويجب على كل مسلم أن يتأدب معهم أشد الأدب قال الطحاوي رحمه الله: "وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل" (شرح الطحاوية: 2/740).
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من حق العالم عليك إذا أتيته أن تسلم عليه خاصة، وعلى القوم عامة، وتجلس قدامه، ولا تشر بيديك، ولا تغمز بعينيك، ولا تقل: قال فلان خلاف قولك، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه في السؤال، فإنه بمنزلة النخلة المُرطبة التي لا يزال يسقط عليك منها شيء" (جامع بيان العلم وفضله: 1/580).
وعن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال أيضاً: "إن من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته في الجواب، وألا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفضي له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته" (إرشاد الطالب: ص8/792).
وقال طاووس بن كيسان: "إن من السنة أن توقر العالم" (جامع بيان العلم وفضله: 1/459).
وعن الحسن قال: "رُئِيَ ابن عباس يأخذ بركاب أبي بن كعب فقيل له: أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخذ بركاب رجل من الأنصار؟! فقال: إنه ينبغي للحبر أن يعظم ويشرف"، وعن الشعبي قال: صلّى زيد بن ثابت على جنازة، ثم قربت له بغلة ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه فقال له زيد:" خل عنك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ابن عباس: هكذا يفعل بالعلماء والكبراء". وفي رواية عنه قال: "أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت فقال: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إِنَّا هكذا نصنع بالعلماء" (جامع بيان العلم: 1/456).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» (متفق عليه). قال عبد الله بن المبارك ويزيد بن هارون وعلي بن المديني والبخاري قال هؤلاء الأئمة كلهم في بيان الطائفة المنصورة: "هم أهل الحديث" (انظر شرف أصحاب الحديث للخطيب، تحقيق محمد سعيد خطيب، رقم: 46-51، الطبعة الأولى، نشر دار إحياء السنة النبوية).
وقال أحمد بن حنبل: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم".
واختم كلامي حتى لا أطيل عليكم بمقوله ما أشبه اليوم بالبارحة والله المستعان.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله وطيب الله ثراه في فتح الباري، كتاب الأدب، باب الْكُنْيَةِ لِلصَّبِيِّ وَقَبْلَ أَنْ يُولَدَ لِلرَّجُلِ: "حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ، قَالَ: أَحْسِبُهُ فَطِيماً، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ». نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهُو فِي بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا".
وفي هذا الحديث عدة فوائد جمعها أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاص الفقيه الشافعي صاحب التصانيف في جزء مفرد، بعد أن أخرجه من وجهين: عن شعبة عن أبي التياح، ومن وجهين عن حميد عن أنس، ومن طريق محمد بن سيرين، وقد جمعت في هذا الموضع طرقه وتتبعت ما في رواية كل منهم من فائدة زائدة. .
وذكر ابن القاص في أول كتابه: "أن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها، ومثل ذلك بحديث أبي عمير هذا قال: "وما درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستين وجهاً"...
ثم ساقها مبسوطة، فلخصتها مستوفياً مقاصده، ثم أتبعته بما تيسر من الزوائد عليه.. فقال: "فيه استحباب التأني في المشي، وزيارة الإخوان، وجواز زيارة الرجل للمرأة الأجنبية إذا لم تكن شابة وأمنت الفتنة، وتخصيص الإمام بعض الرعية بالزيارة، ومخالطة بعض الرعية دون بعض، ومشي الحاكم وحده، وأن كثرة الزيارة لا تنقص المودة، وأن قوله: «زر غباً تزدد حباً» مخصوص بمن يزور لطمع، وأن النهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر../..
- وفيه مشروعية المصافحة لقول أنس فيه: "ما مسست كفا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وتخصيص ذلك بالرجل دون المرأة، وأن الذي مضى في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان شثن الكفين، خاص بعبالة الجسم لا بخشونة اللمس...
- وفيه استحباب صلاة الزائر في بيت المزور ولا سيما إن كان الزائر ممن يتبرك به، وجواز الصلاة على الحصير، وترك التقزز لأنه علم أن في البيت صغيراً وصلى مع ذلك في البيت وجلس فيه..
- وفيه أن الأشياء على يقين الطهارة لأن نضحهم البساط إنما كان للتنظيف..
- وفيه أن الاختيار للمصلي أن يقوم على أروح الأحوال وأمكنها، خلافاً لمن استحب من المشددين في العبادة أن يقوم على أجهدها..
- وفيه جواز حمل العالم علمه إلى من يستفيده منه، وفضيلة لآل أبي طلحة ولبيته إذ صار في بيتهم قبلة يقطع بصحتها..
- وفيه جواز الممازحة وتكرير المزح وأنها إباحة سنة لا رخصة، وأن ممازحة الصبي الذي لم يميز جائزة، وتكرير زيارة الممزوح معه..
- وفيه ترك التكبر والترفع، والفرق بين كون الكبير في الطريق فيتواقر أوفي البيت فيمزح، وأن الذي ورد في صفة المنافق أن سرّه يخالف علانيته ليس على عمومه.
- وفيه الحكم على ما يظهر من الأمارات في الوجه من حزن أو غيره..
- وفيه جواز الاستدلال بالعين على حال صاحبها، إذ استدل صلى الله عليه وسلم بالحزن الظاهر على الحزن الكامن حتى حكم بأنه حزين فسأل أمه عن حزنه..
- وفيه التلطف بالصديق صغيراً كان أو كبيراً، والسؤال عن حاله، وأن الخبر الوارد في الزجر عن بكاء الصبي محمول على ما إذا بكى عن سبب عامداً ومن أذى بغير حق. وفيه قبول خبر الواحد لأن الذي أجاب عن سبب حزن أبي عمير كان كذلك..
- وفيه جواز تكنية من لم يولد له، وجواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه، وقص جناح الطير إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما وأيهما كان الواقع التحق به الآخر في الحكم..
- وفيه جواز إدخال الصيد من الحل إلى الحرم وإمساكه بعد إدخاله، خلافاً لمن منع من إمساكه وقاسه على من صاد ثم أحرم فإنه يجب عليه الإرسال..
- وفيه جواز تصغير الاسم ولو كان لحيوان، وجواز مواجهة الصغير بالخطاب خلافاً لمن قال: الحكيم لا يواجه بالخطاب إلا من يعقل ويفهم، قال: والصواب الجواز حيث لا يكون هناك طلب جواب، ومن ثم لم يخاطبه في السؤال عن حاله بل سأل غيره..
- وفيه معاشرة الناس على قدر عقولهم. وفيه جواز قيلولة الشخص في بيت غير بيت زوجته ولو لم تكن فيه زوجته، ومشروعية القيلولة، وجواز قيلولة الحاكم في بيت بعض رعيته ولو كانت امرأة، وجواز دخول الرجل بيت المرأة وزوجها غائب ولو لم يكن محرماً إذا انتفت الفتنة..
- وفيه إكرام الزائر وأن التنعم الخفيف لا ينافي السنة، وأن تشييع المزور الزائر ليس على الوجوب..
- وفيه أن الكبير إذا زار قوماً واسى بينهم، فإنه صافح أنساً، ومازح أبا عمير، ونام على فراش أم سليم، وصلى بهم في بيتهم حتى نالوا كلهم من بركته، انتهى ما لخصته من كلامه فيما استنبط من فوائد حديث أنس في قصة أبي عمير..
ثم ذكر فصلاً في فائدة تتبع طرق الحديث، فمن ذلك: الخروج من خلاف من شرط في قبول الخبر أن تتعدد طرقه، فقيل لاثنين وقيل لثلاثة وقيل لأربعة وقيل حتى يستحق اسم الشهرة، فكان في جميع الطرق ما يحصل المقصود لكل أحد غالباً، وفي جميع الطرق أيضاً، ومعرفة من رواها، وكميتها العلم بمراتب الرواة في الكثرة والقلة...
- وفيها الاطلاع على علة الخبر بانكشاف غلط الغالط وبيان تدليس المدلس وتوصيل المعنعن"..
ثم قال:: ""وفيما يسره الله تعالى من جمع طرق هذا الحديث واستنباط فوائده ما يحصل به التمييز بين أهل الفهم في النقل وغيرهم ممن لا يهتدي لتحصيل ذلك، مع أن العين المستنبط منها واحدة، ولكن من عجائب اللطيف الخبير أنها تسقى بماء واحد؛ ونفضل بعضها على بعض في الأكل" هذا آخر كلامه ملخصاً.....
وقد سبق إلى التنبيه على فوائد قصة أبي عمير بخصوصها من القدماء أبو حاتم الرازي أحد أئمة الحديث وشيوخ أصحاب السنن، ثم تلاه الترمذي في "الشمائل" ثم تلاه الخطابي، وجميع ما ذكروه يقرب من عشرة فوائد فقط، وقد ساق شيخنا في "شرح الترمذي" ما ذكره ابن القاص بتمامه ثم قال: "ومن هذه الأوجه ما هو واضح، ومنها الخفي، ومنها المتعسِّف"..
قال:: ""والفوائد التي ذكرها آخراً وأكمل بها الستين هي من فائدة جمع طرق الحديث لا من خصوص هذا الحديث"..
وقد بقي من فوائد هذا الحديث أن بعض المالكية والخطابي من الشافعية استدلوا به على أن صيد المدينة لا يحرم، وتعقب باحتمال ما قاله ابن القاص أنه صيد في الحل ثم أدخل الحرم فلذلك أبيح إمساكه، وبهذا أجاب مالك في "المدونة"، ونقله ابن المنذر عن أحمد والكوفيين، ولا يلزم منه أن حَرم المدينة لا يحرُم صيده..
وأجاب ابن التين بأن ذلك كان قبل تحريم صيد حرم المدينة، وعكسه بعض الحنفية فقال: "قصة أبي عمير تدل على نسخ الخبر الدال على تحريم صيد المدينة، وكلا القولين متعقب".."
وما أجاب به ابن القاص من مخاطبة من لا يميز التحقيق فيه جواز مواجهته بالخطاب إذا فهم الخطاب وكان في ذلك فائدة ولو بالتأنيس له، وكذا في تعليمه الحكم الشرعي عند قصد تمرينه عليه من الصغر كما في قصة الحسن بن علي لما وضع التمرة في فيه قال له: «كخ كخ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة»، كما تقدم بسطه في موضعه، ويجوز أيضاً مطلقاً إذا كان القصد بذلك خطاب من حضر أو استفهامه ممن يعقل، وكثيراً ما يقال للصغير الذي لا يفهم أصلاً إذا كان ظاهر الوعك: كيف أنت؟ والمراد سؤال كافله أو حامله..
وذكر ابن بطال من فوائد هذا الحديث أيضاً: "استحباب النضح فيما لم يتيقن طهارته".
- وفيه: أن أسماء الأعلام لا يقصد معانيها، وأن إطلاقها على المسمى لا يستلزم الكذب، لأن الصبي لم يكن أبا وقد دعي أبا عمير..
- وفيه: جواز السجع في الكلام إذا لم يكن متكلفاً، وأن ذلك لا يمتنع من النبي صلى الله عليه وسلم كما امتنع منه إنشاء الشعر..
- وفيه: إتحاف الزائر بصنيع ما يعرف أنه يعجبه من مأكول أو غيره. وفيه: جواز الرواية بالمعنى، لأن القصة واحدة وقد جاءت بألفاظ مختلفة..
- وفيه: جواز الاقتصار على بعض الحديث، وجواز الإتيان به تارة مطولاً وتارة ملخصاً، وجميع ذلك يحتمل أن يكون من أنس ويحتمل أن يكون ممن بعده، والذي يظهر أن بعض ذلك منه والكثير منه ممن بعده، وذلك يظهر من اتحاد المخارج واختلافها..
- وفيه: مسح رأس الصغير للملاطفة، وفيه: دعاء الشخص بتصغير اسمه عند عدم الإيذاء.
- وفيه: جواز السؤال عما السائل به عالم لقوله »؟ بعد علمه بأنه مات.. .
- وفيه: إكرام أقارب الخادم وإظهار المحبة لهم، لأن جميع ما ذكر من صنيع النبي صلى الله عليه وسلم مع أم سليم وذويها كان غالباً بواسطة خدمة أنس له. .
وقد نوْزِع ابن القاص في الاستدلال به على إطلاق جواز لعب الصغير بالطير، فقال أبو عبد الملك: : ""يجوز أن يكون ذلك منسوخاً بالنهي عن تعذيب الحيوان". وقال القرطبي:: "الحق أن لا نسخ، بل الذي رخص فيه للصبي إمساك الطير ليلتهي به، وأما تمكينه من تعذيبه ولا سيما حتى يموت فلم يبح قط"." .
- ومن الفوائد التي لم يذكرها ابن القاص ولا غيره في قصة أبي عمير أن عند أحمد في آخر رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عن أنس: "فمرض الصبي فهلك"، فذكر الحديث في قصة موته وما وقع لأم سليم من كتمان ذلك عن أبي طلحة حتى نام معها، ثم أخبرته لما أصبح فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فدعا لهم فحملت ثم وضعت غلاماً، فأحضره أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله، وقد تقدم ذلك مستوفى في كتاب الجنائز، وتأتي الإشارة إلى بعضه في "باب المعاريض" قريباً..
وقد جزم الدمياطي في "أنساب الخزرج"، بأن أبا عمير مات صغيراً، وقال ابن الأثير في ترجمته في الصحابة: "لعله الغلام الذي جرى لأم سليم وأبي طلحة في أمره ما جرى"، وكأنه لم يستحضر رواية عمارة بن زاذان المصرحة بذلك فذكره احتمالاً، ولم أر عند من ذكر أبا عمير في الصحابة له غير قصة النغير، ولا ذكروا له اسماً، بل جزم بعض الشراح بأن اسمه كنيته، فعلى هذا يكون ذلك من فوائد هذا الحديث، وهو جعل الاسم المصدر بأب أو أم اسماً علماً من غير أن يكون له اسم غيره، لكن قد يؤخذ من قول أنس في رواية ربعي بن عبد الله "يكنى أبا عمير" أن له اسماً غير كنيته..
وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه من رواية هشيم عن أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له حديثاً، وأبو عمير هذا ذكروا أنه كان أكبر ولد أنس، وذكروا أن اسمه عبد الله كما جزم به الحاكم أبو أحمد وغيره، فلعل أنساً مسماه باسم أخيه لأمه وكناه بكنيته، ويكون أبو طلحة سمى ابنه الذي رزقه خلفاً من أبي عمير باسم أبي عمير لكنه لم يكنه بكنيته، والله أعلم..
ثم وجدت في كتاب النساء لأبي الفرج بن الجوزي قد أخرج في أواخره في ترجمة أم سليم من طريق محمد بن عمرو وهو أبو سهل البصري، وفيه مقال عن حفص بن عبيد الله عن أنس: "أن أبا طلحة زوج أم سليم كان له منها ابن يقال له: حفص، غلام قد ترعرع، فأصبح أبو طلحة وهو صائم في بعض شغله، فذكر قصة نحو القصة التي في الصحيح بطولها في موت الغلام ونومها مع أبي طلحة وقولها: "أرأيت لو أن رجلاً أعارك عارية... الخ"، وإعلامهما النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ودعائه لهما وولادتهما، وإرسالها الولد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه. وفي القصة مخالفة لما في الصحيح، منها: "أن الغلام كان صحيحاً فمات بغتة، ومنها: أنه ترعرع، والباقي بمعناه. فعرف بهذا أن اسم أبي عمير حفص، وهو وارد على من صنف في الصحابة وفي المبهمات، والله أعلم".
ومن النوادر التي تتعلق بقصة أبي عمير ما أخرجه الحاكم في "علوم الحديث، عن أبي حاتم الرازي أنه قال::: ""حفظ الله أخانا صالح بن محمد -يعني الحافظ الملقب جزرة-، فإنه لا يزال يبسطنا غائباً وحاضراً، كتب إلي أنه لما مات الذهلي -يعني بنيسابور- أجلسوا شيخاً لهم يقال له: محمش، فأملى عليهم حديث أنس هذا فقال: «يا أبا عمير ما فعل البعير»؟ قاله: بفتح عين عمير بوزن عظيم، وقال: بموحدة مفتوحة بدل النون، وأهمل العين بوزن الأول، فصحف الاسمين معا".
قلت: -ابن حجر-: "ومحمش هذا لقب وهو بفتح الميم الأولى وكسر الثانية بينهما حاء مهملة ساكنة وآخره معجمة، واسمه محمد بن يزيد بن عبد الله النيسابوري السلمي ذكره ابن حبان في الثقات وقال: روى عن يزيد بن هارون وغيره وكانت فيه دعابة". انتهي كلام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله ورحم مشايخه وعلماء الأمة وأدخلهم الجنة.
وقد كان الأوائل يكتبون بلا نقط، لذلك من الجهود التي بذلها أهل الحديث التحقيق، وعلى سبيل المثال اقرأ التالي:
- كان له أولاد سبعة -تسعة-.... تخيلها بدون نقط، والسؤال: هل كان له أولاد تسعة أم سبعة؟! وهكذا..
- وهناك من سمي بالزيات؛ لأنه قرأ: (الم * ذلك الكتاب لا -زيت بدلاً من- ريب فيه).
فقال له والده: "اذهب واقرأ القران على المشايخ" فلقب بالزيات لذلك.
لذلك ذكر الإمام ابن حجر رحمه الله الموقف أعلاه على أنه من النوادر، فلقد أملي محمش حديث أنس "ما فعل البعير" بدلاً من "النغير"، ورحم الله الجميع.
فما رأيك أيها القارئ الكريم، وهذا حديث واحد!!!
نقطة من محيط من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، استطاع العلماء استخراج هذه الكنوز والدرر رحمهم الله.
فكيف بباقي الأحاديث.
العلماء أيها الكرام هم سادة الناس، وهم من أراد الله بهم خيراً وورثة الأنبياء، قال الله جل علاه سبحانه: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آلِ عمران:18]، قال ابن كثير رحمه الله: "وقرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته، فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُو وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ} وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام".
والعلماء هم ورثة الأنبياء فيما جاءوا به، فهم قد ورثوا منهم العلم لما ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
فالعالم يأخذ مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يفرق بين النبي وبين العالم إلا درجة النبوة، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ»، فيا لها من مكانة، ويا له من فضل، ويا له من تشبيه لهذا الذي يحمل العلم.
والعلماء هم صمام أمان للأمة، فإذا غاب العلماء عن الأمة ضلت في دينها، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» [رواه الشيخان].
وجاء في زهر الأكم في الأمثال والحكم:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاّء
وقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً *** الناس موتى وأهل العلم أحياء
وأختم بكلام العلامة محمد الصالح العثيمين رحمه الله ورزقه الفردوس الأعلى في شرح رياض الصالحين (باب توقير العلماء)... قال: "يريد المؤلف رحمه الله بالعلماء: علماء الشريعة الذين هم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن العلماء ورثة الأنبياء.. وإذا كان الأنبياء لهم حق التبجيل والتعظيم والتكريم، فلمن ورثهم نصيب من ذلك، أن يُبجل ويُعظم ويُكرم.. وبتوقير العلماء توقر الشريعة؛ لأنهم حاملوها، وبإهانة العلماء تُهان الشريعة؛ لأن العلماء إذا ذلوا وسقطوا أمام أعين الناس ذلت الشريعة التي يحملونها، ولم يبق لها قيمة عند الناس، وصار كل إنسان يحتقرهم ويزدريهم؛ فتضيع الشريعة. فإذا استهان الناس بالعلماء لقال كل واحد: أنا العالم، أنا النحرير، أنا الفهامة، أنا العلامة، أنا البحر الذي لا ساحل له، ولما بقي عالمٌ، ولصار كل يتكلم بما شاء، ويفتي بما شاء، ولتمزقت الشريعة بسبب هذا الذي يحصل من بعض السفهاء". انتهى
هذا كلام يكتب بماء العيون لمن كان له قلب، فاتقوا الله في العلماء الربانيين المتقيين الذين قصدوا بعلمهم وجه الله الكريم فكانوا أحق الناس بالمحبة والتوقير بعد الله وبعد رسوله صلى الله عليه وسلم.
اللهم احفظ علماء الأمة من كل سوء، اللهم بارك فيهم وفي علمهم، اللهم عز بهم الإسلام والمسلمين، وذلَّ بهم الشرك والمشركين، وارض عليهم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
علي بن محمد بن ونوس
- التصنيف: