الإخبات

منذ 2014-05-19

الإخبات من أوّل مقامات الطّمأنينة. كالسّكينة، واليقين، والثّقة باللّه ونحوها. فالإخبات: مقدّمتها ومبدؤها.

الإخبات لغة:
الإخبات مصدر أخبت، وتدلّ مادّة (خ ب ت) في الأصل على المفازة لا نبات فيها أو على المطمئنّ من الأرض، وأخبت الرّجل: قصد الخبت أو نزله، نحو أسهل (نزل السّهل) وأنجد (دخل في نجد)، ثمّ استعمل الإخبات استعمال اللّين والتّواضع، والخشوع للّه والاطمئنان إليه، يقال: أخبت إلى ربّه أي اطمأنّ إليه (المقاييس:[2/ 38]، ومفردات الراغب:[104]).

وبه فسّر ابن عبّاس رضي اللّه عنهما وقتادة لفظ (المخبتين) وقالا: هم المتواضعون. وقال مجاهد: المخبت: المطمئنّ إلى اللّه عزّ وجلّ. وهذه الأقوال تدور على معنيين: التّواضع، والسّكون إلى اللّه عزّ وجلّ، ولذلك عدّي بـ(إلى)، تضمينًا لمعنى الطّمأنينة، والإنابة والسّكون إلى اللّه.

 

الإخبات اصطلاحًا:
هو الخضوع والتّذلّل للّه عزّ وجلّ مع المحبّة والتّعظيم له (مدارج السالكين لابن القيم:[2/6]). قال ابن القيّم رحمه اللّه: "والإخبات من أوّل مقامات الطّمأنينة. كالسّكينة، واليقين، والثّقة باللّه ونحوها. فالإخبات: مقدّمتها ومبدؤها. وبه يكون ورود المأمن من الرّجوع والتّردّد. إذ لمّا كان الإخبات أوّل مقام يتخلّص فيه السّالك من التّردّد الّذي هو نوع غفلة وإعراض. كذلك السّالك إذا ورد مورد الإخبات تخلّص من التّردّد والرّجوع، ونزل أوّل منازل الطّمأنينة بسفره، وجدّ في السّير".

 

درجات الإخبات:
وهو على ثلاث درجات:
- الدّرجة الأولى: أن تستغرق العصمة الشّهوة، وتستدرك الإرادة الغفلة، ويستهوي الطّلب السّلوة.. و(العصمة) هي الحماية والحفظ، و(الشّهوة) الميل إلى مطالب النّفس، و(الاستغراق للشّيء) الاحتواء عليه والإحاطة به. فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة: فذلك دليل على إخباته. ودخوله في مقام الطّمأنينة، ونزوله أوّل منازلها. فالحاصل: أنّ عصمته وحمايته تقهر شهوته، وإرادته تقهر غفلته، ومحبّته تقهر سلوته.

- الدّرجة الثّانية: أن لا يوحش قلبه عارض، ولا يقطع عليه الطّريق فتنة. ومن أقوى هذه العوارض: عارض وحشة التّفرّد فلا يلتفت إليه؛ كما قال بعض الصّادقين: "انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطّلب"، وقال آخر: "لا تستوحش في طريقك من قلّة السّالكين، ولا تغترّ بكثرة الهالكين". وأمّا الفتنة الّتي تقطع عليه الطّريق: فهي الواردات الّتي ترد على القلوب، تمنعها من مطالعة الحقّ وقصده. فإذا تمكّن من منزل (الإخبات) وصحّة الإرادة والطّلب لم يطمع فيه عارض الفتنة.

- الدّرجة الثّالثة: أن يستوي عنده المدح والذّمّ وتدوم لائمته لنفسه. فاعلم أنّه متى استقرّت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكّن فيها، ارتفعت همّته، وعلت نفسه عن خطفات المدح والذّمّ، فلا يفرح بمدح النّاس، ولا يحزن لذمّهم. والوقوف عند مدح النّاس وذمّهم: علامة انقطاع القلب، وخلوّه من اللّه.

 

فالنّفس جبل عظيم شاقّ في طريق السّير إلى اللّه عزّ وجلّ وكلّ سائر لا طريق له إلّا على ذلك الجبل. فلا بدّ أن ينتهي إليه، ولكن منهم من هو شاقّ عليه، ومنهم من هو سهل عليه، وإنّه ليسير على من يسّر اللّه عليه. وفي ذلك الجبل أودية، وعقبات، وشوك، ولصوص يقتطعون الطّريق على السّائرين ولا سيّما أهل اللّيل المدلجون. فإذا لم يكن معهم عُدد الإيمان، ومصابيح اليقين تتّقد بزيت الإخبات، تعلّقت بهم تلك الموانع. وتشبّثت بهم تلك القواطع. وحالت بينهم وبين السّير (مدارج السالكين).

 

الآيات الواردة في (الإخبات):
1- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [هود:23].
2- {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34].
3- {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:54].

 

الأحاديث الواردة في (الإخبات):
1- عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال: "كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يدعو يقول: «ربّ أعنّي ولا تُعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ، ربّ اجعلني لك شكّارًا، لك ذكّارًا، لك رهّابًا، لك مطواعًا، لك مخبتًا، إليك أوّاهًا منيبًا، ربّ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، وسدّد لساني، واهدِ قلبي، واسلل سخيمة صدري»" (ابن ماجه، والترمذي، واللفظ له وقال: هذا حديث حسن صحيح).

 

من الآثار الواردة في (الإخبات):
1- روي عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} قال: "هم المتواضعون". وقال الأخفش: "الخائفون". وقال إبراهيم النّخعيّ: "هم المصلّون المخلصون".
2- وقال النّيسابوريّ: أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ: "اطمأنّوا إليه وانقطعوا لعبادته".
3- وقال الطّبريّ: "قوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}: بشّر يا محمّد الخاضعين للّه بالطّاعة المذعنين له بالعبوديّة المنيبين إليه بالتّوبة".

 

من فوائد (الإخبات):
(1) أوّل درجات الطّمأنينة والثّقة باللّه وحسن الظّنّ به.
(2) للمخبت البشرى من اللّه بالجنّة.
(3) الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.
(4) الإخبات من الأحوال القلبيّة الموجبة للالتفات عمّا سوى اللّه.
(5) الإخبات يورث صاحبه العزّة في الدّنيا والنّجاة في الآخرة.
(6) الإخبات يقي من الفتنة.
(7) بالإخبات ترتفع الهمّة وتعلو النّفس عن الرّغبة في المدح أو الخشية من الذّمّ.
(8) بالإخبات يباشر القلب حلاوة الإيمان واليقين.

 

من كتاب: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم.

  • 26
  • 1
  • 52,142

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً