الافتقار إلى الله، لبّ العبادة
حقيقة الفقر: أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملك واستغناء مناف للفقر". ثم قال: "الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه
من أخص خصائص العبودية: الافتقار المطلق لله تعالى، فهو: "حقيقة العبودية ولبُّها [مدارج السالكين ، (2/439)]. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} [فاطر:15]، وقال تعالى في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24].
عرَّفه الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله: "حقيقة الفقر: أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملك واستغناء مناف للفقر". ثم قال: "الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه" [مدارج السالكين، (2/440)]. فالافتقار إلى الله تعالى أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل بكليته إلى ربه عز وجل متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً قلبه بمحبته وطاعته. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163].
قال يحيى بن معاذ: "النسك هو: العناية بالسرائر، وإخراج ما سوى الله عز وجل من القلب" [ذم الهوى، لابن الجوزي، (ص 69)]. والمتأمل في جميع أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أن الافتقار فيها إلى الله هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة، وحسبك أن تتأمل في الصلاة أعظم الأركان العملية، فالعبد المؤمن يقف بين يدي ربه في سكينة، خاشعاً متذللاً، خافضاً رأسه، ينظر إلى موضع سجوده، يفتتحها بالتكبير، وفي ذلك دلالة جليَّة على تعظيم الله تعالى وحده، وترك ما سواه من الأحوال والديار والمناصب. وأرفع مقامات الذلة والافتقار أن يطأطئ العبد رأسه بالركوع، ويعفِّر جبهته بالتراب مستجيراً بالله منيباً إليه.
ولهذا كان الركوع مكان تعظيم الله تعالى، وكان السجود مكان السؤال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأما الركوع فعظّموا فيه الرب عز وجل ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم» [أخرجه: مسلم في كتاب الصلاة، (1/348) ، رقم (479)]، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في ركوعه: «اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت. خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي» [أخرجه: مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، (1/535)، رقم (177)]. قال الحافظ ابن رجب: "إشارة إلى أن خشوعه في ركوعه قد حصل لجميع جوارحه، ومن أعظمها القلب الذي هو ملك الجوارح والأعضاء، فإذا خشع خشعت الجوارح والأعضاء كلها؛ تبعاً له ولخشوعه". ثم قال: "ومن تمام خشوع العبد لله عز وجل وتواضعه في ركوعه وسجوده؛ أنَّه إذا ذلَّ لربه بالركوع والسجود، وصف ربه حينئذ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذل والتواضع وَصْفي، والعلو والعظمة والكبرياء وَصْفك" [الخشوع في الصلاة، لابن رجب الحنبلي، ص (41،43)]. إنَّ هذه المنزلة الجليلة التي يصل إليها القلب هي سرُّ حياته وأساس إقباله على ربه سبحانه وتعالى؛ فالافتقار حادٍ يحدو العبد إلى ملازمة التقوى ومداومة الطاعة.
ويتحقق ذلك بأمرين متلازمين؛ هما:
الأول: إدراك عظمة الخالق وجبروته: فكلما كان العبد أعلم بالله تعالى وص?اته وأسمائه كان أعظم افتقاراً إليه وتذللاً بين يديه، قال الفضيل بن عياض: "أعلم الناس بالله أخوفهم منه" [سير أعلام النبلاء، (8/427)]، وقال: "رهبة العبد من الله على قدر علمه باللّه" [سير أعلام النبلاء، (8/426)].
ومَنْ تدبر الآيات البينات والأحاديث الشريفات التي جاء فيها ذكر صفاته العلى وأسمائه الحسنى انخلع قلبه إجلالاً لربه، وتعظيماً لمقامه، وهيبة لسطوته وجبروته سبحانه وتعالى. قال تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} [البقرة:255]. وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهنَّ بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون» [أخرجه: مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، (4/2148)، رقم (2788)، واللفظ له، وأخرجه البخاري مختصراً في كتاب التوحيد، (13/393)، رقم (7412)، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، (4/234)، رقم (4732) بلفظ: (ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بيده الأخرى)].
قال الإمام ابن القيم: "القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء. وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات، فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح عبده فارغاً إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء...". ثم قال: ".. وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلوهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب ?ه شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه. ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له" [الفوائد، (ص81-82)].
وعرّف ابن القيم الخشوع بأنه: "خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو؛ فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوع الجوارح" [الروح، (ص 232)].
الثاني: إدراك ضعف المخلوق وعجزه: فمن عرف قدر نفسه، وأنَّه مهما بلغ في الجاه والسلطان والمال؛ فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه صرفاً ولا عدلاً؛ تصاغرت نفسه، وذهب كبرياؤه، وذلَّت جوارحه، وعظم افتقاره لمولاه، والتجاؤه إليه، وتضرعه بين يديه. قال عز وجل: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ . خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ . يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ . إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ . يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ . فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ} [الطارق:5-10].
وقد جمع الإمام ابن القيم بين هذين الأمرين بقوله: "مَنْ كملت عظمة الحق تعالى في قلبه؛ عظمت عنده مخالفته؛ لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة مَنْ هو دونه. ومَنْ عرف قدر نفسه وحقيقتها؛ وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونَفَس، وشدة حاجتها إليه؛ عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة ونَفَس. وأيضاً فإذا عرف حقارتها مع عظم قدر من خالفه؛ عظمت الجناية عنده؛ فشمَّر في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به يكون تشميره في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به؛ يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تلحق به" [مدارج السالكين، (1/144،145)].
* ومن علامات الافتقار إلى الله تعالى:
أولاً: غاية الذل لله تعالى مع غاية الحب: فالمؤمن يُسلم نفسه لربه منكسراً بين يديه، متذللاً لعظمته، مقدماً حبَّه سبحانه وتعالى على كل حب. طمأنينة نفسه، وقرَّة عينه، وسكينة فؤاده، أن يعفِّر جبهته بالأرض، ويدعو ربه رغبة ورهبة، قال ابن جرير الطبري: "معنى العبادة: الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة" [تفسير ابن جرير، (1/155)].
ومَنْ كانت هذه هي حاله وجدته وقَّافاً عند حدود الله، مقبلاً على طاعته، ملتزماً بأمره ونهيه، فثمرة الذل: أن لا يتقدم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مهتدياً بقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} [البقرة:285]. وقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ. وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} [النور:51-52]. قال الحسن رضي الله عنه: "ما ضربتُ ببصري، ولا نطقتُ بلساني، ولا بطشتُ بيدي، ولا نهضتُ على قدمي، حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية؟ فإن كانت طاعة تقدمتُ، وإن كانت معصية تأخرتُ" [جامع العلوم والحكم، (1/155)]. وأمّا مَنْ طاشت به سبل الهوى، ولم يعرف الله عز وجل حق المعرفة؛ رأيته يستنكف الاستسلام لربه عز وجل، ويستكبر فلا يخضع له، قال الله تعالى: {لَن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلَّهِ وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً} [النساء:172-173]. ويقول الله تعالى في وصف المؤمنين: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كلما ازداد القلب حبّاً لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حباً وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يُسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه" [مجموع الفتاوى، (10/193،194)]. وقال ابن القيم: "إنَّ مقام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلاً للّه وانقياداً وطاعة، ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لقهره، ذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه وإنعامه عليه" [مفتاح دار السعادة،(1/500)].
ثانياً: التعلّق باللّه تعالى وبمحبوباته:
فشعور العبد بفقره وحاجته إلى ربه عز وجل يدفعه إلى الاستكانة له والإنابة إليه، ويتعلق قلبه بذكره وحمده والثناء عليه، والتزام مرضاته، والامتثال لمحبوباته. قال بعض الصالحين: "مفاوز الدنيا تُقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تُقطع بالقلوب" [شذرات الذهب،(2/326)]. ولهذا ترى العبد الذي تعلق قلبه بربه وإن اشتغل في بيعه وشرائه، أو مع أهله وولده، أو في شأنه الدنيوي كله مقيماً على طاعته، مقدماً محبوباته على محبوبات نفسه وأهوائها، لا تلهيه زخارف الدنيا عن مرضاة ربه، قال الله تعالى: {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [البقرة:177]. وثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه ..»، وذكر منهم: «رجل قلبه معلَّق في المساجد» [أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (2/143)، رقم (660)، ومسلم في كتاب الزكاة، (2/715،716)، رقم (1031)].
قال الحافظ ابن حجر: "إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجاً عنه" [فتح الباري، (145/2)]. ولاحِظْ هذا التعبير البليغ: "قلبه معلّق"، وهذا يعني: أنه دائم الصلة بالله تعالى، دائم الاستحضار لأوامره، لا يشغله عن ذلك شاغل، ولا يصرفه عنه صارف، ولهذا قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ. رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36-37].
وثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله -تعني: خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة" [أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (2/162)، رقم (676)]. ويصف الإمام ابن القيم الافتقار إلى الله تعالى بقوله: "يتخلى بفقره أن يتألَّه غير مولاه الحق، وأن يُضيع أنفاسه في غير مرضاته، وأن يُفرق همومه في غير محابه، وأن يُؤْثر عليه في حال من الأحوال، فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية، وعمارة السر بينه وبين الله، وخلوص الود، فيصبح ويمسي ولا هّم له غير ربه، فقد قطع همُّه بربه عنه جميع الهموم، وعطلت إرادته جميع الإرادات، ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه" [طريق الهجرتين، (ص 18)].
ومن تعلّق قلبه بربه وجد لذة في طاعته وامتثال أمره لا تدانيها لذة، "فأوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، ولذات النفوس، وبها كمال النعيم، فقرُّة عين المحب في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه؛ فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه مَنْ ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم" [طريق الهجرتين، (ص 70)]. وأعظم الناس ضلالاً وخساراً مَنْ تعلّق قلبه بغير الله تعالى، ويزداد ضلاله وخساره بزيادة تعلُّقه بغير مولاه الحق، ولهذا كان ركون العبد إلى الدنيا أو إلى شيء من زخرفها آية من آيات العبودية لها، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا ِشيكَ فلا انتقش» [أخرجه: البخاري في كتاب الجهاد، (6/81)، رقم (2887)].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل من علَّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له؛ يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها، وفي الحقي?ة هو أسيرها ومملوكها، تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبد بدنه واستُرق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً متيماً لغير الله؛ فهذا هو الذل والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب"، ثم قال: "ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له؛ لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب" [مجموع الفتاوى، (10/ 185،187)]. وقال الإمام ابن القيم: "أعظم الناس خذلاناً من تعلق بغير الله، فإنَّ ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه؛ أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات. ومثل المتعلق بغير اللَّه كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت" [مدارج السالكين، (1/458)].
ثالثاً: مداومة الذكر والاستغفار:
فقلب العبد المؤمن عاكف على ذكر مولاه، والثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى في كل حال من أحواله، دائم التوبة والاستغفار عن الزلل أو التقصير، يجد لذته وأنسه بتلاوة القرآن، ويرى راحته وسكينته بمناجاة الرحمن. قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد:28]. وقد وصف الله عز وجل أهل الإيمان بقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} [الزمر:9]. وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190-191]. كما أمر الله عز وجل نبيه بمداومة الذكر والاستغفار، فقال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55].
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس ! توبوا إلى اللَّه؛ فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة» [أخرجه: مسلم في كتاب الذكر، (4/ 2075،2076)، رقم (2702)].
وقال عليه الصلاة والسلام: «والله ! إني لأستغفر الله وأتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة» [أخرجه: البخاري في كتاب الدعوات، (11/101)، رقم (6307)). وقال: «إنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة» (أخرجه: مسلم في كتاب الذكر، (4/2075)، رقم (2702)]. إنَّ مداومة الذكر والاستغفار آية من آيات الافتقار إلى الله تعالى، فالعبد يجتهد في إظهار فاقته وحاجته وعجزه، ويمتلئ قلبه مسكنة وإخباتاً، ويرفع يديه تذللاً وإنابة؛ فهو ذاكر لله تعالى في كل شأنه، في حضره وسفره، ودخوله وخروجه، وأكله وشربه، ويقظته ونومه، بل حتى عند إتيانه أهله، فهو دائم الافتقار لعون الله تعالى وفضله، لا يغفل ساعة ولا أدنى من ذلك عن الاستعانة به والالتجاء إليه.
ومقتضى ذلك أنه لا يركن إلى نفسه، ولا يطمئن إلى حوله وقوته، ولا يثق بماله وجاهه وصحته، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: «اللهم لا تكلهم إليَّ فأضعف، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم» [أخرجه: أحمد، (37/151)، رقم (2487)، وأبو داود في كتاب الجهاد، (3/97)، رقم (2535)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (2/482)، لكن ضعفه الأرناؤوط، في تحقيقه للمسندٍ]. وعن أبي بكرة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو؛ فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت» [أخرجه: أحمد، (34/75)، رقم (20429)، وأبو داود في كتاب الأدب، (4/324)، رقم (5090)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم (4246)، والأرناؤوط في تحقيقه للمسند].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: «ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟! أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، وأصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً» [أخرجه: ابن السنّي في عمل اليوم والليلة، رقم 46، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (227)]. تأمل أذكار النبي صلى الله عليه وسلم وأدعيته تر عجباً في هذا الباب؛ ففي سيد الاستغفار تتجلى أعظم معاني العبودية، وتبرز أسمى معاني الانكسار والتذلل: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» [أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، (11/98)، رقم (6306)].
وتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتذللـه إذا قام من الليل يتهجد ويناجي ربه، قال: «اللهم لك الحمد أنت قيَّم السموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد لكَ مُلْك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، ولك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، أو لا إله غيرك» [أخرجه: البخاري في كتاب التهجد (3/3)، رقم (1120)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين (1/532)، رقم (769)].
إنَّ حمد الله تعالى وشكره، والثناء عليه بما هو أهله، مع الاعتراف بالذنب والعجز؛ يعمّر القلب بالنور، ويوجب له الطمأنينة والسعادة، وما أجمل كلام الإمام ابن القيم عندما قال: "إن في القلب خلة وفاقة لا يسدَّها شيء ألبته إلا ذكر الله عز وجل، فإذا صار الذكر شعار القلب بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة، واللسان تبع له، فهذا هو الذكر الذي يسدّ الخلة ويغني الفاقة، فيكون صاحبه غنياً بلا مال، عزيزاً بلا عشيرة، مهيباً بلا سلطان. فإذا كان غافلاً عن ذكر الله عز وجل؛ فهو بضد ذلك، فقير مع كثرة جدته، ذليل مع سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته" [الوابل الصيب، (ص 139)].
رابعاً:
الوجل من عدم قبول العمل: فمع شدة إقبال العبد على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرم من القبول، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟! قال: «لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات» [أخرجه أحمد، (42/156،456)، رقم (25263 و 25705)، و الترمذي في تفسير القرآن، (5/327)، رقم (3175)، و ابن ماجه في الزهد، (2/1404)، رقم (4198)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (162)].
فعلى الرغم من حرصهم ?لى أداء هذه العبادات الجليلات فإنهم لا يركنون إلى جهدهم، ولا يدلون بها على ربهم، بل يزدرون أعمالهم، ويظهرون الافتقار التام لعفو الله ورحمته، وتمتلئ قلوبهم مهابة ووجلاً، يخشون أن ترد أعمالهم عليهم، والعياذ بالله، ويرفعون أكف الضراعة ملتجئين إلى الله يسألونه أن يتقبل منهم.
وتتأكد هذه الحقيقة عند أهل الإيمان بأربعة أمور:
الأول: أنَّ اللّه عز وجل غني عن طاعات العباد: فاللّه جل وعلا غني عن عباده، وليس في حاجة إلى عبادتهم وطاعاتهم، قال الله عز وجل: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12]، وقال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]، وقال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8]. وفي الحديث القدسي: «قال الله تعالى: يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» [أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، (4/1955)، رقم (2577)]. قال قتادة وغيره من السلف: "إنَّ الله سبحانه لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه، ولا نهاهم عنه بخلاً منه، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم" (قاعدة في المحبة (ص 255)).
الثاني: أنَّ قبول الأعمال إنما هو من فضل الله ورحمته: ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله ! لا أدري وأنا رسول الله ما يفُعل بي ولا بكم» [أخرجه: البخاري في كتاب الجنائز، (3/114)، رقم (1243)، وفي كتاب التعبير، (12/410)، رقم (7018)]. فإذا كان هذا هو حال سيد ولد آدم عليه أفضل الصلاة والسلام فكيف بغيره من الناس؟! ومَنْ قرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لن ينجي أحداً منكم عملُه»، قالوا: "ولا أنت يا رسول الله؟!"، قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» [أخرجه: البخاري في كتاب الرقاق (11/294)، رقم (6463)، ومسلم في كتاب صفات المنافقين، (4/2169)، رقم (2816)]؛ أيقن بضعفه وعجزه، وازداد تضرعاً وافتقاراً لربه جل وعلا، ولم يتعاظم في نفسه، أو يُعجب بجهده وعمله.
قال الإمام ابن القيم: "كلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله، وعرفت النفس، وتبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت بعمل الثقلين؛ خشيت عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضاً بكرمه وجوده وتفضله" [مدارج السالكين، (1/176)].
وكلما شعر العبد بهذه الحقيقة بانت له عظمة الخالق جل وعلا، وعرف مقدار نفسه، وهكذا ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، فها هو ذا أجلّهم وأعلاهم منزلة أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: "علمني دعاء أدعو به في صلاتي"، والنبي صلى الله عليه وسلم أعرف الناس بصاحبه ومع ذلك قال له: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» [أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (2/317)، رقم (834)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، (2/2078)، رقم (2075)].
إنها تربية ربانية تحدُّ من استعلاء العبد، وتجعله دائم الافتقار لربه، دائم الانكسار بين يديه، وإذا كانت هذه هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنهما وهو مَنْ هو إمامة وجلالة وجهاداً ونصرة لدينه وذباً عن نبيه؛ فكيف يكون حالنا ونحن المذنبون المفرطون؟! نسأل الله السلامة. وكنتُ أعجب من حال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف يخشى النفاق على نفسه، وهو الفاروق الذي بشّره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة؟! ثم عرفت أن العبد كلما ازداد عبودية وافتقاراً إلى ربه ازداد ازدراء للنفس وخوفاً عليها، وتعلق قلبه بربه سبحانه وتعالى. قال ابن رجب الحنبلي: "كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة" [جامع العلوم والحكم، (1/117)].
الثالث: أن المنة لله جميعاً: فالمؤمن ينسب ما به من نعمة، وما عنده من طاعة؛ إلى ربه ومولاه عز وجل، فله الفضل والمنة، ولا يزعم أن ذلك من حوله وكده وجهده، قال الله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام:125]. وقال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ {أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَان} [الحجرات:17].
و في الحديث القدسي: «قال الله تعالى: يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم» [أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، (4/1955)، رقم (2577)]. ومن عجائب آي الذكر الحكيم: ما ورد في مطلع سورة المدثر، فعندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنذارة بادئ الأمر، وُضِّح له طبيعة الطريق، فقال عز وجل: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6].
إنها وصية واضحة لا غموض فيها، تجرد العبد من استعلائه وإدلاله على ربه؛ تملأ القلب مهابة وإجلالاً لله عز وجل صاحب الفضل والمنَّة. ومن لطائف هذا الباب أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما طُعن وجعل يألم، قال له عبد الله بن عباس مواسياً: "يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون". وبعد هذا الثناء العظيم على أمير المؤمنين رضي الله عنه؛ تأمّل جوابه عندما قال لابن عباس: "أمّا ما ذكرت من صحبة رسول صلى الله عليه وسلم ورضاه: فإنما ذلك منٌّ من الله تعالى عليَّ، وأمّا ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه: فإنما ذاك منٌّ من الله جل ذكره منَّ به عليَّ، وأمّا ما ترى من جزعي: فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله! لو أنَّ لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه" [أخرجه: البخاري في كتاب فضائل الصحابة، (7/43)، رقم (3692)].
الرابع: أنَّ العبد لا يأمن على نفسه الفتنة: فقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» [أخرجه: مسلم، (في كتاب القدر)، (4/2045)، رقم (2654)].
فالعبد مهما بلغت منزلته لا يأمن على نفسه الفتنة، ويخشى أن تجرفه رياح الأهواء وال?تن، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك» [أخرجه: مسلم، (في كتاب القدر)، (4/2045)، رقم (2654)].
فإمام المتقين يتضرع إلى الله عز وجل بهذا الدعاء افتقاراً إلى الله تعالى، فكيف بنا ونحن الفقراء المحاويج؟! ومن كان لا يأمن على نفسه رأيته أشد وجلاً على نفسه، وأشد انكساراً بين يدي مولاه العظيم سبحانه وتعالى. ولهذا فإن من أدرك هذه الحقائق الأربعة؛ علم أنَّ إعجاب المرء بطاعته وإدلاله بها على ربه من أعظم الأدواء والآفات التي تُسقط العبد، وتجعله على شفا جرف من الضلال والانتكاس، والعياذ بالله. قال مطرف بن عبد الله الشخّير: "لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً؛ أحبّ إليَّ من أن أبيت قائماً فأصبح معجباً" [الزهد، لعبد الله بن المبارك (ص 151)].
وقال الإمام ابن القيم: "إنك إن تبيت نائماً وتصبح نادماً؛ خير من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً، فإن المعجب لا يصعد له عمل. وإنك إن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مدل. وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبّحين المدلين. ولعلَّ الله سقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داءً قاتلاً هو فيك ولا تشعر" [مدارج السالكين، (1/177)].
وقال في وصف مشهد الذل والافتقار: "يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقاراً تاماً إلى ربه ووليه، ومَنْ بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته. وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنما تُدرك بالحصول، فيحصل لقلبه كَسْرة خاصة لا يشبهها شيء؛ بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه، ولا فيه منفعة، ولا يرغب في مثله. وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيّمه، فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما منّ ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلاً منه ولا كثيراً. فأي خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه، وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به، وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه، ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه. فإن الكَسْرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله". ثم قال ابن القيم: "فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه! وما أنفع هذا المشهد وأجداه عليه! وذرة من هذا ونَفَس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم. وأحب القلوب إلى الله سبحانه: قلب قد تمكنت منه ذه الكسرة، وملكته هذه الذلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلاً من الله" [مدارج السالكين، (1/428-429)، وانظر: الوابل الصيب (ص 20-23)].
خامساً: خشية اللّه في السرَّ والعلن: الخوف من الله تعالى من أجلّ صفات أهل الإيمان، قال عز وجل: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. وقال عز وجل: {وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج:34-35]. وخشيته عز وجل في السر والعلن من أعظم آيات الافتقار والفاقة إليه سبحانه، فمن عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأدرك عظمته وجبروته، وسلطانه الذي لا يقهر، وعينه التي لا تنام، وقدَّره حق قدره؛ خاف منه حق الخوف، ولهذا قال الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى . فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} [النازعات:40-41]. وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14].
ومن كانت هذه هي حاله رأيته متيقظ القلب، يرتجف خشية وإشفاقاً، دائم المناجاة لربه، يستجير به ويستغيث استغاثة المفتقر الذليل، قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} [الزمر:9]. وقال سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16]. وقال: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64]، قال الحسن البصري: "تجري دموعهم على خدودهم فَرَقاً من ربهم" [الخشوع في الصلاة، لابن رجب، (ص 31)]. وتأمل معي قول الحق جلَّ وعلا: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَم?فْعُولاً . وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:107-109]. فهو الافتقار التام لله عز وجل، والانكسار بين يديه تذللاً وإنابة، قال الأستاذ سيد قطب: "إنهم لا يتمالكون أنفسهم، فهم لا يسجدون ولكن {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً}، ثم تنطلق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس بعظمة الله وصدق وعده: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}، ويغلبهم التأثر فلا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوّره الألفاظ" [في ظلال القرآن، (5/2254)].
وشرط الخشية الصادقة أن تكون بالغيب؛ لأن القلب لا يتعلق إلا بالله، ولا يلتفت إلى ما سواه، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:49]. وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ . هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق:31-33]. وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ..»، وذكر منهم: «ورجل ذكر اللّه خالياً ففاضت عيناه» [تقدم تخريجه].
قال الحافظ ابن حجر: "خالياً: أي من الخلو؛ لأنه يكون حينئذ أبعد من الرياء، والمراد: خالياً من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ" [فتح الباري، (2/147)]. والخوف من الله عز وجل عبادة قلبية تدفع العبد إلى الحرص والجدية والإقبال على الطاعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خاف أدلج ، ومَنْ أدلج بلغ المنزل» [أخرجه: الترمذي في كتاب صفة القيامة، (4/633) رقم (2450)، و الحاكم في كتاب الرقاق، (4/307-308)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (6098)، والدلجة: السير في آخر الليل، أو سير الليل كله، انظر: لسان العرب، مادة (دلج)، (4/385)]. ولهذا قال الحافظ عبيد الله بن جعفر: "ما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله" [سير أعلام النبل?ء، (6/9)].
وتتجلى حقيقة هذه العبادة القلبية على الجوارح، ولهذا جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله: {ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله} [تقدم تخريجه]. فالمعصية تعرضت له بأكمل زينتها، وأبهى فتنتها، وهو بشر كالبشر، لكن ما حبسه عنها إلا الخوف من الله عز وجل، ونظير هذا ما جاء في حديث الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار، فقال أحدهم: "اللهم! إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجال النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت فيها فجمعتها، فلما قعدتُ بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه! فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة .. [أخرجه: البخاري في عدة مواضع منها: كتاب البيوع، (4/409)، رقم (2215)، ومسلم في كتاب بالذكر والدعاء والتوبة، (4/2099-2101)، رقم (2743)]، وفي لفظ : "فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرِّج عنا" [أخرجه: البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، (6/506)، رقم (3465)]. فالمرأة الضعيفة استسلمت له، ولم تملك إلا تخويفه بالله عز وجل، فاستيقظ قلبه، وامتلأ خشية من الله، فحال ذلك بينه وبين المعصية، ومن أجمل ما وقفت عليه في تعريف الخشية قول سعيد بن جبير: "إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيتك بينك وبين معصيتك، فتلك الخشية" [حلية الأولياء، (4/276)، وسير أعلام النبلاء، (4/326)].
سادساً: تعظيم الأمر والنهي: فغاية العبودية: التسليم والانقياد محبَّة وتذللاً، فتعظيم الأمر والنهي من تعظيم الله جلَّ وعلا، قال الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّه} [الحج:30]، وقال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج:32].
وما انتشرت المعاصي، وكثرت المنكرات والأهواء في ديار المسلمين؛ إلا بسبب ضعف الإيمان، والتهاون في تعظيم أمر الله عز وجل ونهيه.
وتعظيم الأمر والنهي يعني: الوقوف عند حدود النصوص الشرعية، والالتزام الصادق بمقتضاياتها ودلائلها، والعض عليها بالنواجذ، فأَمْر الله عز وجل وأَمْر رسوله صلى الله عليه وسلم حقه الإجلال والامتثال، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
قال الإمام ابن القيم: "استقامة القلب بشيئين: أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب .
الأمر الثاني: تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذمَّ من لا يُعظّمه ولا يعظّم أمره ونهيه، قال الله سبحانه وتعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13]، قالوا في تفسيرها: ما لكم لا ترجون لله تعالى عظمة". ثم قال: ".. فعلامة التعظيم للأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها ..".
ثم ذكر عدداً من علامات تعظيم المناهي، وهي على وجه الاختصار:
1 - الحرص على التباعد عن مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب إليها.
2 - أن يغضب لله عز وجل إذا انتُهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزناً وكَسْرة إذا عُصي الله تعالى في أرضه، ولم يُطع بإقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.
3 - أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون فيه جافياً غير مستقيم على المنهج الوسط .
4 - أن لا يحمل الأمر على علة تُضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه، متمثلاً ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر .." [الوابل الصيب، (ص 24-39) باختصار].
ومن المسائل الجديرة بالعناية في هذا الباب: أنَّ على العلماء وطلبة العلم والباحثين والمثقفين .. ونحوهم، العناية بالاستدلال، والاعتماد على النصوص الشرعية في العلم والعمل، "وقلَّ أن تُعْوِزَ النصوص مَنْ يكون خبيراً بها، وبدلالتها على الأحكام" [الحسبة في الإسلام، (ص 65)]. ويجب أن يكون نظرهم في النصوص نظر المفتقر إليها، المتتبع لهداياتها، الملتزم بدلالتها.
وما أجمل قول الإمام الثوري: "إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل" [الجامع لأخلاق الراوي، (1/142)، وذم الكلام وأهله، (1/181)]. ومَنْ نظر في النصوص الثابتة، ثم تقدم بين يديها، أو أغار عليها بالتأويل المتعسف، أو التحريف المتكلف، وراح يفسرها مجاراة لأهواء الناس، أو مداهنة لأهل العلمنة والتغريب؛ لم يكن في الحقيقة مفتقراً لها، معظماً لحدودها، قال ابن تيمية: "من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أن لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولاَ وجْده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم" [مجموع الفتاوى، (13/28)].
وأحسب أن الدعاة وأبناء الصحوة الإسلامية لو فقهوا هذه المسألة حق الفقه، والتزموها في مناهج التربية والحركة والإصلاح؛ لأثمر ذلك انضباطاً كبيراً في خططهم الدعوية والإصلاحية، ولساروا على جادة الصراط المستقيم، ولكن مع الأسف الشديد قلَّ عند بعضهم تعظيم النصوص الشرعية، وأصبحت القوالب الحزبية والمصالح المتوهمة هي المعيار الذي توزن به شؤون الدعوة.
نسأل الله السلامة !!
- التصنيف:
- المصدر: