المسلم و أسلمته

منذ 2014-05-20

إن ازدهار أية حضارة يتطلب ثورة روحية ودينية، وهنا ليس المقصود بالثورة الروحية القيام بمكرور من الحركات التي لا تنفد إلى داخل النفس ولكن المقصود بها قوله جلت قدرته: {إنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

الثابت أن ازدهار أية حضارة يتطلب ثورة روحية ودينية، وهنا ليس المقصود بالثورة الروحية القيام بمكرور من الحركات التي لا تنفد إلى داخل النفس ولكن المقصود بها قوله جلت قدرته: {إنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

 

والواقع أن مرتكزات الدفع الحضاري تنبع قطعًا من الدال هذا إذا تهيأت للأمة أسباب النهوض، وأن التعبير الحقيقي للشخصية الخُلقية للفرد والجماعة هو الأساس الفكري والروحي الذي تستند وترتكز عليه كافة منجزات الإنسان الحضارية. إذاً لن تستطيع أمة بناء نفسها ماديًا ما لم تكتمل أدوات بنائها الروحي وبالتالي تتبلور شخصيتها الخُلقية.

 

على كل الأحوال، نحن بحاجة إلى ثورة داخلية تعيد لنا صياغة الشخصية بحيث يتغير ما بأنفسنا من جمود وخمول وتخلف فكري وروحي واجتماعي، وبالتالي تتحول السلبيات إلى إيجابيات ويحل النشاط مكان الكسل وتنطلق قوى النفس من عقالها، وعلى أثر ذلك تتألق العقول وتشرق النفوس بكل الفضائل الإنسانية اللازمة لتقدم الإنسان من صدق وتفانٍ وإخلاص وتضحية في سبيل الصالح العام، وبالتالي يتحد ظاهر الإنسان مع باطنه ويتطابق القول مع العمل وعليه تنتفي الثنائية التي هي أبرز علامات التخلف الحضاري وينتج عن ذلك تأكيد للروح الجماعية دون إهدار لشخصية الفرد وهو حقيقة ما نعبر عنه بروح المواطنة التي تستثمر طاقات الأفراد من أجل النفع العام ومصالح العباد.

 

وبمثل هذا الجو المفعم بالنشاط تنمو الشخصية الإنسانية وتتميز بالاستقلال والتفرد فتتوقد العقول والأذهان وتزدهر العلوم وشتى المعارف ووقعًا يختلف عطاء البشر باختلاف ملكاتهم العقلية - فتتعد الاتجاهات والأفكار وتصطرع دلالة على النشاط والحيوية في كيان المجتمع وتزيد وشائج الصلة بين الفرد ومجتمعه، وينتج عن ذلك الحس بالمسؤولية الاجتماعية وتكاد القيم الفردية تصبح قيمًا جماعية وعندها يلتقي الضمير الفردي بالضمير الاجتماعي.

 

حقيقة المقياس الفعلي لكل ذلك ليس في الكتب أو المحافل العامة بل في حياة الناس العادية فسلوك الرجل العادي في حياته اليومية هو المحك الفعلي لكل هذا المفرز. فبقدر ما يتجلى فيه علاقات الناس من أدب وتهذيب وأمانة وتسامح  الخ.. يكون تحضُّر الناس، وبقدر ما يسود هذه العلاقات من عنف وخشونة وخداع الخ.. من خصال سيئة وقبيحة يكون فعليا تخلفهم الحضاري. فقوة الشخصية الخُلقية هي الضمان الفعلي والحقيقي لكل تقدم اجتماعي ومادي؛ لأن التقدم لا يكون بغير التضامن والتكاتف والتعاون والتكامل، وجميعها صفات روحية ومعنوية نابعة من تراث الأمة الذي هو تلخيص لكل تراث الإنسان في حدود ظروف الأمة المكانية والزمانية.

 

فالرجل السويدي على سبيل المثال - الذي ينتظر دوره في الطابور دون أن يزاحم مَن سبقه، أو الإيطالي الذي تصدمه أو يصدمك دون قصد فيبادر كلاكما إلى الاعتذار في أدب الحقيقة، جميعها قيم ومثل حضارية إسلامية هم التزموها ونحن لم نلتزمها -، كل أولئك يستمدون سلوكهم من هذه الشخصية الخلقية التي يرتكز عليها بناء المجتمع ويحرص الناس على المحافظة عليها مهما تغيرت أحوالهم، فوراء كل هذه الممارسات والأفكار والمذاهب الخ ... مهما بلغت عبثيتها محاولات جادة للتعبير عن القيم الموروثة في أوضاع جديدة، وكل ذلك رهين بالتجربة والخطأ ومن هنا تتابع الممارسات دون أن تستقر على حال نسبة للاضطراب العام في العالم المتقدم عامة، وسعيه الدؤوب للتطوير والتغيير.

 

فكل هذه الظواهر الاجتماعية التي تطفو على سطح الحياة الغربية في شكل حركات الرفض أو الفوضى أو العودة إلى الدين وما إلى ذلك أساليب للتعبير عن وضع حضاري معاش، وهي وسائل للوصول إلى شكل يستقر عليه تعبير المجتمع عن قيمه الموروثة، ولكن واقع الحال يقر أن العالم المتخلف المنفصم الشخصية لا يدرك الفرق بين الغايات والوسائل فيتخذ الأشكال المجردة عن فكرها غايات وأهدافًا وسبيلاً للتطور فيبتعد عن الجادة مرحلتين.

 

- الأولى: اقتصاره على العرض دون الجوهر من تجربة الغرب الحضارية.

 

- الثاني: الاكتفاء بتجربة الآخرين المعبرة عن وضعهم الحضاري المختلف مهما التقى الناس في الإنسانية، وبذلك ينصرف عن معاناة تجربة تغيير حياته لما يتلاءم وظروف مجتمعه من المحاكاة والتقليد، وحقيقة هما علامة الإفلاس والعقم ودرب الانقراض الحضاري والذوبان في الحضارة المتوهجة الطاغية.

 

أيها الأخوة، الثابت أن مهما اختلفت أديان وعادات الناس ووسائل حياتهم يلتقون في الأسس والقواعد الإنسانية العامة التي أفرزتها التجارب الإنسانية على الأرض والتي لا بقاء لمجتمع متحضر بدونها، وهي التي تمنح الشخصية الخلقية للفرد والجماعة مرتكزها وهيكلها.

 

ولكن حقيقةً يختلف تعبير الناس عن هذه الأسس الإنسانية اختلاف البيئات والأقوام على اعتبار أن لكل مجموعة من الناس أسلوبها الخاص في الحياة ونظرتها المحددة للكون، وهذا الأسلوب وهذه النظرة هما اللذان يسوغان ويشكلان شخصية الفرد، وبالتالي شخصية الجماعة بحيث نجد شخصية الفرنسي مغايرة لشخصية الإيطالي، وإن اتحدا في المصدر الحضاري العام.

 

ولكن من باب أولى أن تختلف شخصية الياباني أو العربي عن كليهما للاختلاف الكبير في النظرة والأسلوب اللذين هما تلخيص لتجربة الأمة منذ أن وُجدت على الأرض.

 

فتجربة قوم في هذا المجال قد تفيد ولكنها لا تغني عن المعاناة الذاتية، إذ ليس هناك بديل للثورة الروحية في داخل الشخصية الحضارية للأمة فتنطلق قواها لتغيير الحياة من حولها بما يتلاءم وأسلوب القوم ونظرتهم المتفردة للحياة وبذلك تتغير وسائل التعبير عن القيم الموروثة، فتتطور الشخصية الحضارية لتفجير منابعها الروحية المختزنة، فيشرق الباطن على الظاهر وتنتفي الازدواجية بين واقع الناس المعاش وموروثهم المختزن، إذ يلتحمان فيرفد إحداهما الآخر فيكون الماضي جزءاً حيًا من الحاضر المتجدد أبدًا بما يطور حياة الناس في عالم شديد التغير.

 

فإن التجديد والتغيير هما سمة العصر الصناعي الذي نحيا فيه، وقطعًا سيتضاعف أثرهما في العصر الأحدث الذي يغص بالمتطور من وسائل التكنولوجيا الذي علاماته واضحة بارزة لا تخفى على أحد، فهناك كل يوم جديد وعلى الناس توطين أنفسهم على قبول وتقبل هذه الحقيقة -أقصد التطور المتسارع-، وأن يجروا في أنفسهم التغييرات والتعديلات بما يسمح لهم من الحركة الذاتية بدل أن يظلوا طوال حياتهم يُحملون على عجلات مستوردة من الغرب كالمعول أو الكسيح.

 

وعلينا أن نعترف بأننا في دول العالم الثالث نجتر ثقافات وانجازات حققها الغرب ونقلد الأشكال التي يعبروا بها عن معاناتهم الحضارية دون منطق أو مبرر سوى منطق المحاكاة، وذلك نتيجة عجزنا عن النظر المستقل لقضايا مجتمعنا وقصورنا عن وصل شخصيتنا الحضارية لهذه القضايا، لذلك تتفجر قوانا الكامنة المختزنة خلال التاريخ فيتصل ماضينا بحاضرنا بما يشبه مجرى النهر الذي كانت تعيق حركته الصخور والسدود والحواجز، فبمجرد زوالها ينساب في حرية وقوة مندفعا إلى الأمام.

 

ليس... فإن أغلبية الأفكار والمبادئ والأيديولوجيات التي يتشدق ويتبجح كثير من مثقفينا في العالم الثالث بها ما هي إلا تعبير عن أوضاع في مجتمعات غير مجتمعاتنا، ولا فضل لهم فيها غير النقل والاجترار، ونحن حقيقة عشنا طويلا على التقليد والمحاكاة في الأفكار وفي نمط الحياة، فما آن لنا وقد حصلنا على استقلالنا علما بأنه مجزوء وله أشكال عديدة لا فكاك منها - أقصد استقلت معظم أقطارنا عن سيطرة الاستعمار المباشر أن نعلم استقلالنا الفكري؟!

 

وعلينا أن نمعن وننعم النظر في تجربة الغرب الحضارية في حجمها الطبيعي على اعتبار أنها تجربة إنسانية رائدة حققت قفزات عديدة في التقدم والتطور، كي نستفيد منها ونطور حياتنا بثمراتها العظيمة ولكنها واقعيا ليست بديلاً عن تجربتنا الحضارية الخاصة التي تحتاج منا أول ما تحتاج إلى الشجاعة لنرفض الذوبان المشئوم الذي ألمحنا له بمقالات سابقة، والانخراط في التيار الطاغي السائد على العالم الآن، وأن نستعيد ثقتنا بأنفسنا وبمقدرتنا وبطاقاتنا الروحية التي استمد الغرب منها بعض قواه التي مكنته من التقدم والتطور والازدهار، فحقيقة أن كثيرًا مما عندهم موجود عندنا يركن في ضمائرنا ووعينا.

 

إذًا بعد هذا السرد علينا أن نعي أن قضايا مجتمعنا قضايا تنمية وبناء، وعلينا أن نواجه مشاكلنا وهمومنا بأساليب ووسائل نابعة من ذواتنا ومن تجاربنا المختزنة دون أن نبحث عن البديل في تجارب الآخرين، وإن استفدنا منها في تطوير ما بأيدينا من وسائل وهذا مدعاة إلى أن نبدأ أول الطريق وذلك باكتشاف أنفسنا ومعرفتنا لمقدراتنا الفكرية والروحية عن طريق الدراسة والبحث والمعايشة لتراثنا وأصول حضارتنا التي انفصلنا عنها بحكم التخلف الحضاري الذي ران على أمتنا وتسلط الاستعمار بكل أشكاله المعهودة.

 

إذاً، تقدمنا الفكري النابع من أصالتنا الكامنة والمغروسة في أعماق شخصيتنا لا يكون بتلقف شعارات الآخرين واجترار أفكارهم فإننا مهما بلغنا في ذلك فلن نكون سوى مقلدين أو نسخ للآخرين أو مسخ لا شكل له، أما سبيل النهوض الحقيقي لأمتنا فيكمن في تطويع ثمرات العلم الحديث والتطور الهائل كي نكتشف ذواتنا وتأكيد أصالتها لا للفرار منها والتنصل عن أخف خصائصها كي نكون في خانة المتحضرين، فالتحضر معاناة لا تقليد، وحقيقة المعاناة لا تكون إلا بالانكفاء على الذات للتنقيب عن مكامن القوة فيها في ضوء تجربة العصر، وبذلك تتبلور وتتأكد شخصيتنا ونصبح فعليا منتجين للحضارة لا مستهلكين، وبذلك تتضح معالم شخصيتنا وهويتنا وهذا فعلا يحفظنا من الذوبان مع الآخر الذي فيه كل معاني الضياع، فيجب علينا أن نصون حضاراتنا وأن نحافظ على هويتنا فهي الجديرة بالمحافظة عليها لأن وعائها لا يشبهه وعاء ولا يدانيه ثقافة.

 

وفي النهاية أعجبني قول أحدهم: "إن شيخا جليلا ذهب إلى أوروبا وحدث هذا في مطلع القرن العشرين وذلك كي يدعو ويدافع عن دينه وعن وطنه فرأى من قوة الشخصية الأوروبية وخلقيتها ما دفعه إلى القول بأن في أوروبا إسلاما وإن لم يكن هناك مسلمون، في حين أن في الشرق مسلمين ولا إسلام لهم". وأحدهم أيضا قال؛ حينما رأى من استقامة أهل الصين وجديتهم وتفانيهم في أداء الواجب ما بهره فقال: "إن الصينيين لا ينقصهم من الإسلام إلا اسمه ". والله من وراء القصد.

 

طارق فايز العجاوي

  • 9
  • 0
  • 2,513

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً