العُجب.. داء القلوب الخفي
العُجب شعور قلبي داخلي لا يُرى عمليًا إلا بعض أثره فقط وخاصة في أوقات الغفلة من صاحبه، وقد لا يرى الناس آثاره أبدًا وقد يكون متغلغلًا داخل النفوس وذلك لعظم الاحتياط والاحتراز.
قد لا نعلم من أمراض القلوب مرضًا أفتك بقلوب الناس وداء أذهبَ بعظيم أجورهم من العُجب وما يأتي بعده، فالعجب يبطل الأعمال الصالحة ويمحو أثرها من القلب ويذهب أجرها، بل وفي كثير من الأحيان يقود صاحبه إلى أخلاق مذمومة أخطر مثل الغرور أو الكبر.
ولعل أحق من يخشى على نفسه وعلى صلاح قلبه هو الداعية، الذي يتأثر الناس به فيتأثر صلاحهم بصلاحه، ففي لحظة غفلة -قد تكون إنسانية طبيعية- من الداعية، وفي غمرة انشغاله بإصلاح عيوب الناس ونصحه لهم بتزكية أنفسهم قد يغفل فيها عن قلبه المنهك في متابعة أحوال حياة بالناس المحيطين به الذي يجد بنفسه مسؤولًا عن تربيتهم ونصحهم.
ويأتي تحقيق الدعاة لبعض النجاحات في ميادين التأثير في القلوب بابًا كبيرًا لتسلل الشيطان إلى بعض قلوبهم نتيجة لازدياد الأتباع وكثرة كلمات المدح والثناء التي تنهال على مسامعهم -وهم لاشك أهل للثناء- لعظيم أثرهم في الناس، لكن الخطر كل الخطر أن يتسرب إليهم شعور بالوثوق في قلوبهم، فيظن بعضهم أن قلبه عسير على الوقوع في تلك الآفات التي تضر به وتهلكه والتي يحذر غيره منها، فقد تكون تلك اللحظة هي أكثر اللحظات التي ينبغي للداعية أن يحذر منها وأن يخشى فيها على قلبه.
وخطورة أمراض القلوب -على الجميع- أن صاحبها ينفي وجودها تمامًا في قلبه، وكلما ازداد صاحب هذا القلب الذي أصيب بالعجب علمًا أو حسن بيان كلما أقنع كل من يتحدث إليهم بخلو قلبه من ذاك المرض وكلما بعد في ظنه إصابته به، وقد يظن الداعية نفسه بحلو حديثه أو بكثرته عن أمراض القلوب وآثارها وخطورتها أنه في مأمن تمامًا منها حاضرًا ومستقبلًا.
ولا يستطيع عبد مهما أوتي من سعة علم أو خبرة تربوية أن يجزم بوجود مرض قلبي في عبد مثله، لأن القلوب لا يعلم بها إلا خالقها ولكنها قد تُظهر ما فيها ببعض التصرفات وردود الأفعال.
ولهذا فأكثر الناس دراية بقلب العبد هو العبد نفسه الذي يستطيع أن يفتش في قلبه ويصارح نفسه بما فيه في حين يتحرج من مصارحة غيره بما يثور داخله، ولهذا يعرف ابن المبارك العجب كمرض قلبي دقيق لا يُفطن إليه كثيرًا فيقول "أن ترى أن عندك شيئًا صالحًا ليس عند غيرك".
إذن فالعُجب شعور قلبي داخلي لا يُرى عمليًا إلا بعض أثره فقط وخاصة في أوقات الغفلة من صاحبه، وقد لا يرى الناس آثاره أبدًا وقد يكون متغلغلًا داخل النفوس وذلك لعظم الاحتياط والاحتراز.
هو إحساس بالاختلاف بشيء صالح عن الناس والتميز عنهم وخصوصًا عن الأقران المشاركين في نفس العمل أو السلوك أو الصحبة، حين يرى الداعية بكل أو بمعظم الناس غيره نقص لم يكتمل سوى عنده، أو عندما يفرح بقوله أو فعله أو بموقفه في حين يتصور أنه لو كان غيره مكانه ما سلك مثل سلوكه ولما نجح فيما نجح هو فيه.
والعُجب في قلوب كل الناس نقص وعيب وآفة يتوجب معالجتها، ولقد حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه بأنه مهلك للقلوب والأعمال، ففي الحديث الذي أخرجه البيهقي وحسنه الألباني عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « ».
وفي الفتح لابن حجر: قال القرطبي هو "إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال، مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذمو ".
فإذا كان هذا شانه في حق الناس ففي قلوب الدعاة أعظم وأخطر إذ أن الدعاة هم المثل الحي لتوجيه الناس، هم الذين يربون الناس ويقومونهم ويعيدونهم إلى الجادة والصواب ويذكرونهم بالله، ولهذا يتخذهم الناس أسوة ومثلًا ويقتدون بما يرون من تصرفاتهم قبل ما يسمعون من كلماتهم، فكيف يستقيم الظل والعود أعوج؟.
ولعلاقات القلوب وأفعالها قدرة عجيبة على التواصل منفصلة جزئيًا أو كليًا عن الأقوال التي تجري على الألسنة، فحينما ترى شيخًا فاضلًا وتجلس إليه تشعر بأن روحًا تسري داخلك تعلمك شيئًا من أخلاقه الباطنة، فقد تتعلم التواضع ولا تدري من أين سرى إليك منه، فالشيخ لم يتحدث عن التواضع، وبالمقابل قد يدرك المرء العُجب أو يتعلمه عمليًا من تصرف أو لفته أو هفوة شيخ يجلس إليه أو ربما دون أن يدري كذلك من أين سرى إليه هذا الشعور.
والعُجب كله خطير على القلوب سواء القولي منه أو العملي السلوكي، فمن بعض أنواع العجب:
"العجب بالنعم": وهو فرح العبد بما أسبغ الله عليه من نعم ظاهرة وباطنة من صحة وأبناء وسعة رزق، فكل هذه من نعم الله وتوفيق له لنيلها، وهي مما لا حيلة للعبد في وجودها ولا قدرة له ابتداء على إيجادها أو اكتسابها إلا بتوفيق الله له أو إمساكها عن أن تزول عنه.
ففي هذا النوع من العجب سوء أدب من العبد مع الخالق سبحانه الذي قدر كل شيء بحكمته وأعطاه من النعم ما يختبره به، ولم يعطه النعم ليعجب بها ويتطاول بها على الخلق.
لكن أخطر أنواع العجب هو العجب بالعمل الصالح الذي يكتسبه الإنسان بسعيه -بعد توفيق الله له وإنعامه عليه- فينسى المنعم سبحانه ويرى أثر كسبه فقط فينظر إلى عمله ويعجب به ويشعر بالزهو والفخر كلما خطر على باله ذكره.
ومن مصائب العجب على النفس أنه آفة إذا دخلت القلب قل أن تخرج منه -إلا بمجاهدة عظيمة- بل ربما إن أهمل علاجها أن تستدعي معها آفات أكبر، فربما يتملك العجب بالعمل الداعية حتى يجعله متوهما في نفسه ما ليس فيها ولا يملكه فيتحول العجب إلى غرور، وربما نراه متنقصًا لعمل من حوله ملتمسًا لعيوبهم منتظرًا عثراتهم وحينها يتحول العجب إلى الكبر.
وأكثر السبب في ذلك أن الداعية في غمرة انشغاله في أعماله الدعوية، يحصل لديه أحيانًا بعض القصور في تزكية نفسه ومحاسبتها ويغفل عنها، وربما تتسلل إلى قلبه آفات قادحة في عمله وإخلاصه، مفسدة لقلبه، قد يشعر بها وينشغل عن علاجها، أو قد لا يشعر بها أصلًا.
ولعل من أبرز مظاهر العجب في القول عند الدعاة في كثرة الحديث عن النفس أو عن المنجزات ولو في شكل عرض مشكلة دعوية صادفته، أو في شكل نصيحة نصحها لإنسان فينقلها للناس رجاء الانتفاع، وسواء كان الحديث لحاجة ولغير حاجة فهو يقحم ذاته وتجربته ورأيه، وقد يكون الحديث عن النفس تصريحًا أو تلميحًا، بل ربما يكون على هيئة مخفاة مغلفة بذم النفس أو وصفها بالتقصير الذي يراد به المدح، أو يكون على هيئة نصيحة الناس بالمحافظة على فعل طاعة لا تخلو من إثبات مداومته عليها مع النفور الشديد من النقد أو النصيحة.
ومن مظاهر العجب في الفعل عند الداعية تقصيره وتكاسله عن الأعمال الدعوية التي ليس له فيها صدارة مع مداومته حضور وتصدر المجالس التي له فيه السبق والغلبة، والاعتناء بمن يقدمه في المجالس وإهماله لمن يغفل عنه ولا يُشعره بقدره الذي يثبته لنفسه، وهذه الأفعال لا يستطيع احد أن يتبينها على سبيل الحقيقة إلا صاحبها إذا وقف مع نفسه وقفة صادقة أو إذا استمع لنصيحة مخلصة وتقبلها وفتش بعدها في قلبه.
ومن أقبح أنواع العُجب وأشنعها ذلكم العجب الفردي أو الجماعي بالمنهج المتبع في السير إلى الله والعمل له، فقد يهتم أحد الدعاة أو بعض الجماعات بجزء من الإسلام ويتخذونه منهجًا ويتهمون غيرهم بالقصور في فهم الدين أو التقصير في أداء واجبهم نحوه، فيهتم بعضهم بتحصيل العلم الشرعي دون أن يُتبعوه بدعوة الناس للخير والحث عليه أو أن يهتموا بتزكية القلوب، بينما يهتم آخرون بشؤون الدعوة والإرشاد مع قصور واضح في تعلم العلم الشرعي وتمييز الصحيح من السقيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيخلطون المتواتر بالموضوع دون أن ينتبهوا أو يعتنوا أو يشعروا بأنهم ربما يدعون الناس إلى ضلالات وبدع ليس لها أساس من الشرع، وقد يهتم بعضهم بتزكية النفس ومتابعة أعمال القلوب دون سند شرعي صحيح وذلك بإتباع الشيخ لا الدليل ويعتبرون أن قول الشيخ أقوى من أي دليل، وفي كل هذه الأقسام بعض الخير بشرط وجود تكامل بين كل تلك الأجزاء والأبعاض ولابد من شعور داخلي لدى الجميع بالحاجة للاكتمال والسعي له.
أما حين يتصور أحدهم أو مجموعة منهم أنهم -وحدهم- من يمتلكون الحق والصواب وأن غيرهم مقيم على الخطأ والبعد عن صحيح الدين، فهذا من أشد أنواع العجب فتكًا بالقلوب لعظم خطره وتأثيره، إذ يتحول إلى عُجب جماعي يسيطر على الأتباع ويجعل من كل منهم متجرئًا على الجميع الآخرين ممن ليسوا على فهمه أو وجهة نظره، وربما تجده رافضًا لأي نصح صحيح ممن لا يوافقه مسعاه، بل ربما يزداد العجب بين الأتباع عن مقداره في شيوخهم وكبارهم ومربيهم فيزداد الشقاق بين أبناء الأمة جيلًا بعد جيل.
إن أخوف ما يخاف الداعية أن ينهار قلبه، فلا يثبت في وقت المحنة والشدة، وذلك في الوقت الذي تعظم فيه حاجته لثبات قلبه عند تعرضه لموقف عصيب، فالعجب بالنفس أو بالعدد والأنصار والأتباع باب خطر شديد قد يفقد الإنسان معونة ربه وتثبيته له، فالثبات من عند الله وحده سبحانه {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، ويوم يأتي العجب يكون الانهيار والفرار {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة:25].
فإذا كان هذا في شأن بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وهو معهم، فحق لنا جميعًا -دعاة ومدعوين- أن نخشى ونعتبر ونبحث بصدق في قلوبنا ونهتم بما فيها.
يحيى البوليني
- التصنيف:
- المصدر: