طالب العلم وقول: "لا أدري"

منذ 2014-05-23

ومن علّمونا أدب العلم في قول "لا أدري"، كانوا أساطين في العلم، وكانت هذه الكلمة تستحثّهم على البحث والازدياد من العلم، ولم يقولوها تبريرًا للكسل والقعود، وحاشاهم من ذلك، وهم الذين ضربوا أروع الأمثلة في طلب العلم، حتّى وهم على فراش الموت.

يقول الشيخ محمود شاكر رحمه الله: "تثبت قبل أن تحكم، وتدبّر قبل أن تقطع، واستقص قبل أن تستوثق، وانظر لنفسك قبل أن تزلّ بك قدمٌ. واعلم أنّ شرّ أخلاق الناس اللجاجة، وشرّ اللجاجة لجاجة العالم، وشرّ لجاجة العالم لجاجته فيما لا يعلمُ، أو فيما لا يُحسِنُ، وأنّ نصفَ العلم قولُ المرء فيما لا يدري: لستُ أدري".

وأقول؛ كلمة "لا أدري" متعدّدة نواحي الأدب، وهي عصمة لطالب العلم من أن تزلّ به القدم، فضلًا عن غيره من العامّة أن يتكلّم فيما لا يعلم. 

ومن علّمونا أدب العلم في قول "لا أدري"، كانوا أساطين في العلم، وكانت هذه الكلمة تستحثّهم على البحث والازدياد من العلم، ولم يقولوها تبريرًا للكسل والقعود، وحاشاهم من ذلك، وهم الذين ضربوا أروع الأمثلة في طلب العلم، حتّى وهم على فراش الموت.

ولكنّ قول طالب العلم فيما لا يَعلمُ، أو ما لا يُحسِنُ "لا أدري"، قد اتّخذه بعض كسالى طلاّب العلم في هذا العصر تُكَأة لتبرير التراخي عن طلب العلم، والجدّ فيه، ولذا فإنّي أودّ أن أقدّم بعض التفصيل لهذا الأمر.

فما لا يَعلمُ طالب العلم، أو ما لا يُحسِنُ على درجات، وليس كلّه ممّا يعذر بجهله فيه:

ـ فمنه ما يدخل في اختصاصه دخولًا مباشرًا، أو يتّصل به اتّصالًا وثيقًا، فلا عذر لمختصّ في الفقه أو الحديث مثلًا بجهله بالنحو، وربّما يعذر بجهله بدقائق النحو، كما لا يعذر المختصّ في التفسير بجهله بالفقه مثلًا، ويعذر بجهله بفروع الفقه قليلة الوقوع.

ـ ومنه ما لا يدخل في اختصاصه؛ كعلم الطبّ بالنسبة لطلب العلم الشرعيّ، ولكنّه هل يعذر بالجهل بما هو من الثقافة الطبّيّة العامّة، التي ينبغي أن تعلمها العامّة بله الخاصّة؟ ومن البداهة ألاّ يتكلّم بأمر طبّيّ يتّصل بحكم شرعيّ إلاّ بعد سؤال المختصّين الموثوقين فيه.

ـ ومنه ما نسمّيه؛ ثقافة العصر والواقع، فهناك من العلوم، والثقافات، والمصطلحات، الموضوعيّة، ومنها ما يتّصل بالفكر المعادي للفكر الإسلاميّ ومصطلحاته ومفاهيمه، ممّا غدا ثقافة مجتمعيّة، لا يعذر طالب العلم بجهلها بحال من الأحوال، وإلاّ فخير له ألاّ يحمل راية هذه الشريعة، علمًا بها، ودعوة إليها، ودفاعًا عنها، وألاّ يرتاد منابرها، إذ نقصه في ذلك مشين غير مرضيّ، ولا معذور! ولا يبرّر له ذلك أن يقول إذا سئل عن مثل هذه الأمور "لا أدري"، ويبقى مصرًّا على مجافاتها وإهمال الأخذ بها، ويظنّ أنّه بذلك يلتزم بأدب علميّ.

ويبقى السؤال المهمّ الذي يبحث في نفسي عن الإجابة؛ لماذا عُرف في أسلافنا ألوف العلماء الموسوعييّن، ولم يعرف ذلك في العصور القريبة إلاّ على ندرة، وليست بتلك الصورة من الكثرة؟!

ولماذا يتّخذ كثير من المعاصرين التخصّص حجابًا بينهم وبين الجهل بالعلوم الأخرى، التي لها وثيق الاتّصال بما تخصّصوا فيه؟! السرّ في ذلك على وجه الإجمال والله تعالى أعلم يعود إلى أمرين: البيئة العلميّة، والمناهج التعليميّة، وهو يحتاج إلى بيان خاصّ، عسى الله تعالى أن يمنّ بحسن التوفيق إليه والسداد .

إضاءة نبويّة:

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ : مَنْهُومٌ فِي عِلْمٍ لاَ يَشْبَعُ ، وَمَنْهُومٌ فِي دُنْيَا لاَ يَشْبَعُ» (رواه في المستدرك [1/91]، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَلَمْ أَجِدُ لَهُ عِلَّةً، وقال الذهبي في التلخيص: "عَلَى شَرْطِهما، وَلَمْ أَجِدُ لَهُ عِلَّةً").

د. عبد المجيد البيانوني

  • 0
  • 0
  • 1,517

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً