الدعايا السوداء والحرب على الإسلام - (3)
إنَّ الحرية الإعلاميَّة والفكريَّة يُمكننا أن نعتبرها أحَدَ الأساطير التي تفرضها علينا سياسة التَّلاعُب بالعقول.
قانون الإزاحة وحرب الثوابت:
إن من أهم هذه المسلمات التي استسلم لها الكثير من المسلمين كأنَّها أصبحت تشكل أصلاً من أصول ثقافتنا وعقيدتنا – ما يسمى بالحرب الإعلامية، والتي بدورها تؤثر في إزاحة الثوابت الإسلامية.
تلك التي تعد أساسًا محوريًّا في تكوين شخصية الفرد المسلم، والتي تؤثر بدورها على انتمائه وولائه وسلوكه وحياته بشكل عام وخاص، وحينما تعلن الحرباءة انتصارها على هذا الثغر، فإنَّها تريد أن توصل لنا رسالة قويَّة بأنَّ عقولكم قد تحولت إلى كُتل من رمال في مهبِّ الريح؛ يقول الله عزَّ وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204-206].
وقال الله عزَّ وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].
وكما يقال: القلب هو الملك، وملك قوي وجيش ضعيف خيرٌ من جيش قوي وملك ضعيف؛ فتلك الحرباءة تلعب على القُلُوب التي نعقل بها في تأصيل الثَّوابت بقانون أشبه بما يسمَّى في الفيزياء بقانون الإزاحة؛ فلو أردنا أن نشاهد أكبر تجربة معمليَّة لهذا القانون على وجه البسيطة؛ فلنلاحظ جيِّدًا ما يحدث في وسائل الإعلام المختلفة بدءًا بالوسائل الأكثر انتشارًا -المرناة والشبكة العنكبوتية والوسائل المرئية بشكل عام- وحتَّى المواد الثَّقافية والتعليمية فنجدها مُلوثة بهذا الدَّاء أو القانون.
كذلك يمتد انتشاره إلى الفئات البسيطة من العوام ذوي الجهل البسيط؛ ليتحولوا في لحظات إلى مرضى بالجهل المركب، بانقيادهم تحت ألوية لا علم لهم بها ولا طاقة؛ وذلك بوضع ثوابت وهميَّة أو مضللة لتزاح تلقائيًّا بسببها الثوابت الأصليَّة.
وأحيانًا تكون الثَّوابت المضللة مُناظرة لما تَمَّ حذفه وإزاحته، وأحيانًا أخرى تكون لا علاقة لها بها إلاَّ أنَّها في الأخير تتجه نحو الهدف.
ومن أمثلة ذلك ما يلي:
أولاً: إزاحة ثوابت بإلقاء شبهات: مثل: الحرب على السنّة، حتَّى أصبح الحديث عن حُجيَّة السنّة أمرًا ضروريًّا ومطلوبًا في هذا العصر، والحرب على القُدوة المتمثلة أولاً في الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ودوَّامة الاستهزاء المتواصلة، ثم الصحابة، ثم أعلام الحديث؛ كالبخاري ومسلم، وهذا غيض من فيض... إلخ.
ثانيًا: إزاحة ثوابت واستعاضتها ببديل مناظر لها: محاولة إزاحة مَذهب أهل السنة والجماعة بشكل عام، باستخدام سياسة التَّقريب، تارة بين المذاهب، وتارة بين الأديان، والحرب على العقيدة بربطها بنظريات حديثة بدون مرجعية شرعيَّة، مثل: البرمجة اللُّغوية العصبية، وما يسمى بعلم الطاقة، وإزاحة ثوابت في العقيدة مُتعلقة بالإيمان بالله، وأنَّه الخالق القادر المقدر الواحد، ووضع بديل مثل قانون الجذب أو السر.
أمثلة أخرى مُتعلقة بطريقة غير مباشرة بعقيدة المسلم، يُمكننا تطبيق القانون عليها بسهولة؛ كشعارات تكرر يوميًّا بتعريفاتها أو بدون: ضَعْ سياسة التقريب، وزِحْ أهل السنة والجماعة، ضع تحرير المرأة وحواشيها ومشكلة السكان الوهمية... إلخ، وزِحْ "الحجاب + الضوابط بين الجنسين + الأسرة المسلمة"، ضع قوميَّة عربيَّة، وزِحْ خلافة إسلاميَّة؛ ثم ضع شرق أوسطيَّة، وزح قومية عربية... إلخ.
ثالثًا: وضع ثوابت وهميَّة بدون بديل: فحينما يُصبح القلب فارغًا من النُّور، فإنَّك لن تجد فيه الظلام فحسب، ولكن قد تسكنه الأشباح والأساطير، ومن اهم هذه الثوابت الوهمية المستوردة:
1- خرافة الحريَّة من منطلق النَّزعة الفردية.
حرية الفرد، حرية الإعلام، حرية الأديان، حرية المجتمعات: وأعتقد -في رأيي-: أنَّ هذا هو المفهومُ الذي يُؤصل مُعتقداتٍ جَبَّها الإسلام؛ فمفهوم الحرية الحقيقة تتمثل بَدءًا من خلال ارتباطها بعبوديتنا للخالق، ومن ثَمَّ الامتثال لأوامره عزَّ وجل فيما شرع؛ من هنا تتضح معالم الحريَّة للمرء وللمجتمع ككل، وليست الحريَّة المطلقة في قول وفعل ما نشاء تُسمَّى حرية.
ومن ثم؛ فإنَّ الحرية الإعلاميَّة والفكريَّة يُمكننا أن نعتبرها أحَدَ الأساطير التي تفرضها علينا سياسة التَّلاعُب بالعقول؛ يقول الشيخ سيد العربي عن حرية الأديان: "قال عزَّ من قائل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وهو سبحانه لا يرضى لعباده الكُفر أبدًا؛ قال عزَّ من قائل: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]؛ وهذا قطع لكلِّ جدل حول حرِّية الأديان، وبيان أنَّها حرية لمن أراد الهلاك والخسران، وليست حُرِّية تعني الاختيار المقتضي للتنقل بين مُتساويين أو مُتماثلين، كلاَّ وألف كلا؛ فهو اختيار بين النجاة والهلاك، بين الإيمان والكفر، بين الجنَّة والنَّار"[1].
ويوضح هربرت شيلر هذا بقوله: "إنَّ هذا من أفضل الانتصارات التي أحرزها التضليل الإعلامي -السعي من أجل تكريس تعريف للحرِّيَّة تَمت صياغته في عبارات تتسم بالنَّزعة الفردية"[2].
فالحرية الفردية والتي تعد أحد أهم شعارات الليبرالية التي قد اقحمت في مجتمعاتنا العربية من خلال الإعلام تنقل لنا مفهومًا مغايرا للمفهوم الإسلامي والذي يرى الحرية ثابت يحكمه العديد من الضوابط والشروط وليس أمرًا نسبيًا محكوم بالفردية والملكية الخاصة.
2- خرافة الحياد "الرأي والرأي الآخر": فالإعلام يظهر دومًا نفسه كطرف ثالث مُحايد، بعيدٍ كل البعد عن عين الاتِّهام، وليس بوصفه آلة أساسيَّة من آلات التَّضليل والإفساد، بنقله للدعايا السَّوداء كما هي دون غربلة أو تقييم؛ مما يزيد أمراض الشبهات في الأمَّة، ويضعف هُويتها، ويظهر مُعلِّبو هذا الإعلام بوجه لا يوصف إلا بالجمود، أو كما قال - بأبي هو وأمي، صلَّى الله عليه وسلَّم -: « »؛ كالخُشُب المُسنَّدة علي كراسي من ذهب، ينقلون كلَّ أنواع التضليل والسباب والاستهزاء على أنَّها حتمًا الرأي الآخر؛ كأن لا دخل لهم فيما ينقلوه إلينا، وكأن هذا حتمًا من واجبهم نحونا.
ويرى هربرت شيلر في كتابه "المتلاعبون بالعقول": "أنه ولكي يؤدي الإعلام دوره بفعاليَّة أكبر لا بُدَّ من إخفاء شواهد وجوده؛ أي: إنَّ التضليل الإعلامي يكون ناجحًا حينما يشعر المضللون أنَّ الأشياء على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية؛ فالتضليل الإعلامي يقتضي واقعًا زائفًا هو الإنكار المستمر لوجوده أصلاً"[3].
3- وَهْم التعددية الإعلامية: وهو إيهامنا دومًا بأنَّنا حتمًا لن نجد مفتقدنا المعرفي إلاَّ في سوق الإعلام الممتلئ بشَتَّى العلوم، واختلاف الثَّقافات، وتعدد الأخبار، ولكن المدقق في الأمر يجد أنَّ الاختيار قد يصبح أحيانًا مستحيلاً، إذا ما اكتشفنا أنَّ المواد المخيّر بينها واحدة في مضمونها، مع اختلاف الأغلاف المزينة لها، ولا أشكُّ في أنَّ ذلك يكون عمدًا؛ لتتحول العقليَّة العربية بصورة غير مُباشرة إلى عقليَّة مُبرمجة، لا تعرف سوى ما يقدم لها على المائدة الإعلاميَّة.
ومن أهم ما يُبْرِز ذلك: اشتراك طبقات المجتمع المُختلفة بشتَّى مستوياتها على لغة واحدة -وكأنَّك تتكلم مع شخص واحد- هي لُغة الإعلام، سواء في أسلوب التَّفكير، أو فيما يسمونه بالذَّوق الفني، الذي أصبحنا نُعاني من وَقَاحته وابتذاله، والذي لم يعد يُستحى منه حتَّى الأُسَر المحافظة؛ وكما قال النَّبي صلَّى الله عليه وسلم: « » [4].
وكما يقول هربرت تشيلر: "إنَّها إذًا إحدى الأساطير المركزية، التي يقوم عليها ازْدهار نشاط "توجيه العقول"، ورغم أنَّ حريتَيِ الاختيار والتَّنوع يُمثلان مفهومًا مُستقلاً، فإنَّهما لا تنفصلان في الواقع؛ فحرية الاختيار لا تتوافر بأيِّ معنى من المعاني دون التَّنوع، فإذا لم تُوجد خيارات واقعية، فإنَّ عمليَّة الاختيار، إمَّا أنْ تُصبح بلا معنى، وإمَّا أن تصبح مُنطوية على التضليل، ويصبح احتمال انطوائها على التضليل واقعًا فعليًّا، عندما يصاحبها الوهم بأنَّ الاختيار ذو معنى، ويتعزَّز هذا الوهم من خلال الميل الذي يعمد المسيطرون على الإعلام إلى المحافظة على استمراره، وإلى الخلط بين وفرة الكَمِّ الإعلامي وبين تنوُّع المضمون، وهذا الكلام يؤكد كيف يَفرض الإعلام نَفْسَه على عُقُول البشر، ويتحكَّم في توجيهها، ويُسيطر على جوانب من ثقافتنا وخلفياتنا الفكريَّة من دون أن ندري؛ ليضعها تحت أَسْر توجهاته المغرضة[5].
4- الحرب النفسية الوهميَّة: حينما نتشرب فِكْرًا سلبيًّا على أنَّه طبيعة إنسانيَّة ثابتة غير قابلة للتغيير، فإنَّ ذلك حتمًا يُؤثر على مدى كفاءة المسلم في مناحي أنشطته المُختلفة، بل قد يتغلْغل؛ ليؤثر سلبًا على معتقده ويقينه في قَدَر الله عزَّ وجل وقضائه، حينما يصاب باليأس نحو بصيص التقدم، ولعلَّ أهم هذه العبارات والمعاني التي شربنا منها حتَّى النخاع: محورُ الشر، الدول النامية، الدول الفقيرة، البقاء للأقوى، الانتصار بالعدد والعدة؛ ونشرات الأخبار الفوريَّة التي تنقل لأجيال الأمَّة يوميًّا ثوابتَ وهميةً، ينبغي أن يتشربوها، ورسائل انهزاميَّة ينبغي ألاَّ تتخطَّى آمالهم وأحلامهم في المستقبل حدود عتباتها المشؤومة، وكأنَّهم يريدون إيهامنا بقناعات ينبغي أن تكون، ولدينا فقط.
يُمكن القول: إنَّ الطموح الإنسانيَّ يسهم بشكل ملموس في شحذ التغيير الاجتماعي، وعندما تكون تلك التمنيات مُتواضعة فإنَّ السلبية تسود[6].
يتبع إن شاء الله.
-----------------------------
[1] "قدسية حق الله وحرية الاعتقاد".
[2] "المتلاعبون بالعقول"، لهربرت تشيلر، ترجمة: عبد السلام رضوان.
[3] "المتلاعبون بالعقول".
[4] الراوي: حذيفة بن اليمان، المحدث: مسلم، المصدر: المسند الصحيح، الرقم: 143، خلاصة الدرجة: صحيح.
[5] "المتلاعبون بالعقول".
[6] "المتلاعبون بالعقول".
اسمٌ لما يَدَّعيه، والدُّعاةُ: قومٌ يَدْعُون إلى بيعة هُدًى أو ضلالة، واحدُهم داعٍ، ورجل داعِيةٌ إذا كان يَدْعُو الناس إلى بِدْعة أَو دينٍ، أُدْخِلَت الهاءُ فيه للمبالغة؛ قال تعالى {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31][1]، وأخبر عن نوح وكيف دعا قومه؛ فقال - عزَّ وجل -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 5-7]. العلاقة بين الدعاية والإعلام: لتوضيح العلاقة بين الدعاية والإعلام ينبغي أن نُعرِّف كلاً منهما.
- التصنيف:
- المصدر: