حول حديث: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم)
محمد ناصر الدين الألباني
من المستغرب جدًّا الشك في صحة الحديث بدعوى "إنه يخبر عن الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله"، ومن المؤسف حقًّا أن تروج هذه الدعوى عند كثير من شبابنا المسلم، وهي دعوى مباينة للإسلام تمام المباينة.
- التصنيفات: الحديث وعلومه - شرح الأحاديث وبيان فقهها - الواقع المعاصر -
السؤال: ورد المجلة سؤال من أحد الأساتذة المحامين في بغداد، يرجو فيه التحقيق من قِبَلِ الأستاذ ناصر الدين الألباني في صحة الحديث المشهور: «تتداعى عليكم الأمم...»، ويقول: "إنني أرتاب في صحة هذا الحديث لسببين؛ الأول: أنه يخبر عن الغيب، ولا يعلم الغيب غير الله. والثاني: يهدف إلى حمل الناس على الرضا بما نحن فيه والبقاء عليه وعدم العمل على تغييره". ثم يستنتج من ذلك أنه: "لا بد أن يكون الحديث من وضع عدو للإسلام ولدينهم".
الجواب:
وجواب الأستاذ الألباني: إن الحديث صحيح بلا ريب، وهو يخبر عن أمر غيبي بإطْلاع الله تبارك وتعالى له عليه، وهذا أمر سائغ جائز لا غبار عليه، بل هو من مستلزمات النبوة والرسالة، والحديث يهدف إلى خلاف ما ظنه السائل، هذا مجمل الجواب، واليك التفصيل:
1- صحة الحديث:
لا يشك حديثيٌّ في صحة هذا الحديث البتة، لوروده من طرق متباينة وأسانيد كثيرة، عن صحابيين جليلين:
الأول: ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أبو هريرة رضي الله تعالى عنه الذي حفظ لنا ما لم يحفظه غيره من الصحابة -رضوان الله عليهم- من سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، فجزاه الله عن المسلمين خيرًا.
أما ثوبان رضي الله عنه فله عنه ثلاث طرق:
1- عن أبي عبد السلام، عن ثوبان، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: «حب الدنيا، وكراهية الموت».
أخرجه أبو داود في سننه (2/ 10 2)، والروياني في مسنده (ج 25/ 134/ 2)؛ من طريق: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عنه، ورجاله ثقات كلهم غير أبي عبد السلام هذا فهو مجهول، لكنه لم يتفرد به، بل توبع -كما يأتي- فالحديث صحيح.
2- عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان مثله.
أخرجه أحمد (5/ 287)، ومحمد بن محمد بن مخلد البزار في "حديث ابن السمان" (ق 182-183)؛ عن المبارك بن فضالة، حدثنا مرزوق أبو عبد الله الحمصي، أنا أبو أسماء الرحبي به، وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات، وإنما يُخْشَى من المبارك التدليس، وقد صرح بالتحديث فأمِنَّا تدليسه.
2- عن عمرو بن عبيد التميمي العبسي، عن ثوبان مختصرًا.
أخرجه الطيالسي في مسنده (ص 123)، (2/ 211 من ترتيبه للشيخ البنا)، وسنده ضعيف لكنه قوي بما قبله.
فالطريق الثاني حُجَّة وحده لقوة سنده، وبانضمام الطريقين الآخرين إليه يصير الحديث صحيحًا لا شك فيه.
وأما حديث أبي هريرة:
فأخرجه أحمد في المسند أيضًا (2/ 259) عن شبيل بن عوف، عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لثوبان: «كيف أنت يا ثوبان إذا تداعت عليكم الأمم...» الحديث نحوه، وسنده لا بأس به في الشواهد، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 287): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه، وإسناد أحمد جيد"!
وجملة القول: إن الحديث صحيح بطرقه وشاهده، فلا مجال لرده من جهة إسناده، فوجب قبوله والتصديق به.
2- إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيب:
من المستغرب جدًّا عندنا الشك في صحة الحديث بدعوى "إنه يخبر عن الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله"، ومن المؤسف حقًّا أن تروج هذه الدعوى عند كثير من شبابنا المسلم، فقد سمعتها من بعضهم كثيرًا، وهي دعوى مباينة للإسلام تمام المباينة، ذلك لأنها قائمة على أساس أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر الذين لا صلة لهم بالسماء، ولا ينزل عليهم الوحي من الله تبارك وتعالى.
أما والأمر عندنا معشر المسلمين على خلاف ذلك، وهو أنه عليه السلام مميَّز على البشر بالوحي، ولذلك أمره الله تبارك وتعالى أن يبين هذه الحقيقة للناس، فقال في آخر سورة الكهف [آية:110]: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ}، وعلى هذا كان لكلامه صلى الله عليه وسلم صفة العصمة من الخطأ؛ لأنه كما وصفه ربه عز وجل: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم:3-4]، وليس هذا الوحي محصورًا بالأحكام الشرعية فقط، بل يشمل نواحي أخرى من الشريعة؛ منها: الأمور الغيبية، فهو صلى الله عليه وسلم وإن كان لا يعلم الغيب كما قال فيما حكاه الله عنه: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:187]، فإن الله تعالى يُطلِعه على بعض المغيبات، وهذا صريح فى قول الله تبارك وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ} [الجن:26-27]، وقال: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ} [البقرة من الآية:255].
فالذي يجب اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب بنفسه، ولكن الله تعالى يُعلِمه ببعض الأمور المغيبة عنا، ثم هو صلى الله تعالى عليه وسلم يُظهِرنا على ذلك بطريق الكتاب والسنة، وما نعلمه من تفصيلات أمور الآخرة من الحشر والجنة والنار ومن عالم الملائكة والجن ونحو ذلك مما وراء المادة، وما كان وما سيكون؛ ليس هو إلا من الأمور الغيبية التي أظهر الله تعالى نبيه عليها، ثم بلَّغنا إياها، فكيف يصح بعد هذا أن يرتاب مسلم في حديثه لأنه يخبر عن الغيب؟!
ولو جاز هذا للزم منه رد أحاديث كثيرة جدًّا قد تبلغ المائة حديثًا أو يزيد، هي كلها من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وصدق رسالته، ورَدُّ مثل هذا ظاهر البطلان، ومن المعلوم أنَّ ما لزم منه باطلٌ فهو باطل، وقد استقصى هذه الأحاديث المشار إليها الحافظ ابن كثير في تاريخه، وعقد لها بابًا خاصًّا فقال: (باب ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده، فوقعت طبق ما أخبر به سواء بسواء)، ثم ذكرها في فصول كثيرة؛ فليراجعها حضرة السائل إن شاء في "البداية والنهاية" (6/ 182-256)، يجد في ذلك هدى ونورًا بإذن الله تعالى.
وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّـهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3]، وقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّـهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ. وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّـهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّـهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:51-53].
فليقرأ المسلمون كتاب ربهم، وليتدبروه بقلوبهم؛ يكن عصمة لهم من الزيغ والضلال، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم؛ فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً»[1].
3- هدف الحديث:
عرفنا مما سبق أن الحديث المسؤول عنه صحيح الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ما فيه من الإخبار عن أمر مغيب؛ إنما هو بوحيٍ من الله تعالى إليه صلى الله عليه وسلم، فإذا تبين ذلك استحال أن يكون الهدف منه ما توهمه السائل الفاضل مِن "حمل الناس على الرضا بما نحن فيه..."، بل الغاية منه عكس ذلك تمامًا، وهو تحذيرهم من السبب الذي كان العامل على تكالُب الأمم وهجومهم علينا، ألا وهو: "حب الدنيا وكراهية الموت"، فإن هذا الحب والكراهية هو الذي يستلزم الرضا بالذل، والاستكانة إليه، والرغبة عن الجهاد في سبيل الله على اختلاف أنواعه؛ من الجهاد بالنفس والمال واللسان وغير ذلك، وهذا هو حال غالب المسلمين اليوم مع الأسف الشديد.
فالحديث يشير إلى أن الخلاص مما نحن فيه يكون بنبذ هذا العامل، والأخذ بأسباب النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، حتى يعودوا كما كان أسلافهم: "يحبون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة".
وما أشار إليه هذا الحديث قد صرَّح به حديث آخر، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة[2]، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»[3].
فتأمل كيف اتفق صريح قوله في هذا الحديث: «لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» مع ما أشار إليه الحديث الأول من هذا المعنى، الذى دل عليه كتاب الله تعالى أيضًا، وهو قوله: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد من الآية:11].
فثبت أن هدف الحديث إنما هو تحذير المسلمين من الاستمرار في "حب الدنيا وكراهية الموت"، ويا له من هدف عظيم لو أن المسلمين تنبهوا له، وعملوا بمقتضاه؛ لصاروا سادة الدنيا، ولما رفرفت على أرضهم راية الكفار، ولكن لا بد من هذا الليل أن ينجلي، ليتحقق ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، من أن الإسلام سيعم الدنيا كلها، فقال عليه الصلاة والسلام: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلًّا يذل الله به الكفر»[4].
ومصداق هذا الحديث من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّـهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32-33]. وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}[ص:88].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] حديث صحيح، أخرجه ابن نصر في "قيام الليل" (ص 74)، وابن حبان في صحيحه (ج 1 رقم 122) بسند صحيح، وقال المنذري في "الترغيب" (1 / 40): "رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد".
[2] هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه نقدًا بأقل من الثمن الذي باعها به.
[3] أخرجه أبو داود (2/ 100)، وأحمد (رقم 4825، 5007، 2562)، والدولابي في "الكنى" (52)، والبيهقي (5/ 316)؛ من طرق عن ابن عمر، صحَّح أحدها ابن القطان، وحسَّن آخرَ شيخُ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (3/ 32، 278).
[4] أخرجه أحمد (4/ 103)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1/ 126/ 2)، والحاكم (4/ 430)، وابن بشران في "الأمالي" (60/ 1)، وابن منده في "كتاب الإيمان" (102/ 1)، والحافظ عبد الغني المقدسي في "ذكر الإسلام" (126/ 2)؛ من طريق أحمد عن تميم الداري مرفوعًا. وسنده صحيح، وصححه الحاكم أيضًا ووافقه الذهبي، وقال المقدسي: "حديث حسن صحيح"، وله شاهدان؛ أحدهما: عن المقداد بن الأسود أخرجه ابن منده والحاكم، وسنده صحيح. والآخر: عن أبي ثعلبة الخشني أخرجه الحاكم (1/ 488).
نقلًا عن مجلة التمدن الإسلامي (24 / 421 – 426).