البناء العقدي في مجتمع الصحابة
رمضان الغنام
بسبب التربية الإيمانية التي ربَّاها النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم، تميَّز الصحابة بعِدَّةِ سِماتٍ جعلت منهم العُبَّاد والزُهَّاد والعلماء والمجاهدين والقادة والزعماء، وأوجبت لهم الخيرية التي وصفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم...
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - سير الصحابة -
عاش الصحابة رضوان الله عليهم في العهد النبوي في جوٍ يسوده الانضباط في كافة المناحي؛ الإيماني منها، والأخلاقي، والعلمي، والسلوكي.. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، نبيًا، وصاحِبًا، ومعلِّمًا، وقدوةً، ومثالًا يُحتذى به، ودائمًا ما كان يتعهَّد صحابته رضوان الله عليهم، بالنُّصح والإرشاد والتعليم، وكان الصحابة بدورهم مُتلقِين أفذاذ، وتلاميذ نُجباء لمُعلِّمهم الأعظم، ونبيهم الأكرم، الذي ما ترك شاردةً ولا واردةً في أمر دينهم، أو دنياهم، أو شؤونهم النفسية، إلا وكان له صلى الله عليه وسلم أثر صريح؛ إما قولًا، وإما فعلًا، وإما أقرارًا، وفي مُقدِّمة هذا كان الوحي القرآني هاديًا ومُرشدًا ومُنيرًا لدروبهم، ومعينًا لهم في حالة البناء "الروحي" التي يُشرِف عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
فـ"المتتبِّع للقرآن الكريم والسنة المطهَّرة يجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّى أصحابه على تَمثُّل الإسلام الذي أراده الله، وذلك بتعليمهم كتاب الله وتفسيره لهم، وبتطبيق تعاليم الإسلام أمامهم؛ ليقتدوا به، وإرشادهم بالسنة القولية والفعلية إلى دين الله القويم، وتعليمهم ما لم يكونوا يعلمون، مما فيه صلاح دينهم ودنياهم، فهذه هي مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أخبر الله عز وجل بذلك، قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151]"[1].
وكانت تنشئة الصحابة على صحيح المعتقَد من أولى الأولويات التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم الرعاية في الرعيل الأول من صحابته الكرام، فما ادِّخر في ذلك وِسعًا، ولا كَلَّت عزائمه لأجل هذه الغاية، فقد كان همَّه الأول، وشغله الشاغل تصحيح معتقَد أولئك النفر، الوافدة عقولهم وقلوبهم وطبائعهم من جاهليةٍ عمياء، وأعراف مهترئة، وبداوةٍ قحَّة، كانت تُعبد فيها الأصنام، وتُقدَّس فيها النجوم والأفلاك، وتنذِر لها النذور، وتُقدّم لها القربات، كما كانوا يعيشون في بيئة لا تعرف غير لغة القوة، بيئة غابِيَّة الطباع؛ تُنتهك فيها أبشع الجرائم الاعتقادية، وأشنع الموبقات الأخلاقية.
فتبدَّل كل هذا في سنواتٍ معدودات، ليتحوّل ظلام هذا المجتمع البدائي إلى نورٍ ساطع، امتد ضياءه إلى كل الدنيا؛ من أقصاها إلى أقصاها، حيث حمل النبي صلى الله عليه وسلم على عاتقه أول ما حمل بناء تصور إيماني جديد لجيل الصحابة، ينسخ به ما كان في جاهليتهم، فعلَّمهم أول ما علَّمهم أن هناك ربًا سميعًا بصيرًا عليمًا، يجب أن تصرُّف في حقّه كل العبادات، من صلاةٍ ودعاءٍ واستغاثة.. وأن يُناجى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ ولهذا كان المجتمع المكي الأول مجتمعًا إيمانيًا، تُغرَس فيه أصول المعتقد السليم، وتبنَّى على هذه الأصول لبنات الإيمان بالله ربًا وإلهًا، ذي السمع والبصر والقدرة والسيادة.
فقد ظلَّ النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عامًا في مكة، "كانت مهمته الأساسية فيها تنحصِر في تربية الجيل المؤمن، الذي يستطيع أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق، ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع بقدر ما كانت مرحلة تربية وتكوين" (السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث؛ المؤلِّف: علي محمد الصلابي، ص: [106]).
وبالتوازي مع تدعيم الجانب العقدي التوحيدي عند الصحابة، سعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى تكوين ملامح الشخصية الصحابية لتتحمَّل عِبء هذه الدعوة، وحمل تكاليفها وواجباتها، ولتكون قادرة على تحمل المصاعب والشدائد بعد رحيل صاحب الرسالة، ومُبلِّغ الوحي الأمين، صلى الله عليه وسلم.
وكانت عقيدة التوحيد هي العقيدة الأُم التي أَنتجَت فيما بعد هذا الوازع الإيماني في قلوب الصحابة، وما كان لعقيدة أن تصمِد أمام أصنام قريش المتراصة حول الكعبة، وصناديدها المنافِحين عنها بالنفس والمال والأهل، إلا عقيدةً آسرةً للقلوب والعقول، ومهيمنة على الحياة بكل تفاصيلها، عقيدة تُرسخ لفكرة الربّ الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي يُدير شؤون هذا الكون الفسيح وِفق إرادةٌ خالصة، لا يعتريها العجز، ولا يتدخّل فيها الشركاء، من صاحبة أو ولد، كما كان يدَّعي المبطِلون، إنسًا وجنًّا، يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111].
ومن ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم صحابته على المحجَّة البيضاء، وقد أخبرهم صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخبرنا معهم، فقال صلى الله عليه وسلم: « »[2]، والمحجَّة البيضاء، هي جادة الطريق، كما بيَّنها شُرَّاح السُنة، التي هي شريعته وطريقته، وبدورهم انطلق الصحابة بعد ذلك في ربوع الأرض ينشرون عقيدة التوحيد؛ ليخرجوا الناس من ظلمات الكفر والجَهالة، إلى نور الإيمان والإسلام، على ذات الطريقة التي علَّمهم إيَّاها النبي صلى الله عليه وسلم.
وبسبب التربية الإيمانية التي ربَّاها النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم، تميَّز الصحابة بعِدَّةِ سِماتٍ جعلت منهم العُبَّاد والزُهَّاد والعلماء والمجاهدين والقادة والزعماء، وأوجبت لهم الخيرية التي وصفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام في حقهم وفي حق تابعيهم وتابعي تابعيهم رضوان الله على الجميع: « » (متفقٌ عليه، البخاري: [6065]، ومسلم: [2533]).
ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم السابق إشارةً إلى تميُّز هذه الأجيال بالخيرية والصلاح، سيما جيل الصحابة رضوان الله عليهم، والخيرية هنا لا ينبغي لها أن تكون إلا خيرية الدين والصلاح، وما امتلكه هذا الجيل من سِماتٍ شخصية ميزته إيمانيًا -وأكسبت الجانب العقدي لديه قوةً ونضوجًا- ومن ثم أسهمت في بناءِ شخصيةٍ إيمانيةٍ كان لها -فيما بعد- عظيم الأثر في التمكين لهذا الجيل -وما تبِعه من أجيال- ومن ثم بناءُ جيلٌ إيماني، استطاع في وقتٍ وجِيز أن يُجيِّش الجيوش، ويفتح الدنيا شرقًا وغربًا، نشرًا للإسلام، وطمسًا لعقائد الكفر، ومعالِم الشرك.
فمِن سمات البناء العقدي عند الصحابة أنه بناءٌ صلبٌ لم يتخلَّله شك أو رِيِّبة فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ظل الصحابة وظل مجتمعهم مِثالًا يحتذي به في صلابة العقيدة وقُوتها وسلامتها، فلم يُنقل لنا أن صحابيًا -ربَّاه النبي صلى الله عليه وسلم- اعترض على حكمٍ إلهي، أو أمرٍ نبوي، أو شكَّ في شيء جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان ديدنهم التسليم للنص، والإذعان التام لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد تميز هذا الجيل بقوة العقيدة وسلامتها، وقد كان لوجود النبي بين الصحابة، وتنزل القرآن بين ظهرانيهم، أثر ظاهر وعامل قوي في صقل هذه السِّمة وتقويتها، بل نزلت فيهم جملةً وتفصيلًا آياتٌ بيِّنات، فهي إلى الآن تُتلى آناءَ الليل وأطرافَ النهار، فكيف لهم بعد ذلك أن يشكُّوا، أو يتبدَّل يقينهم؟
كما اتَّسم المجتمع الإسلامي في عهده الأول بالفهمِ العميقِ لمعنى الألوهية، وما يجب للربِّ تبارك وتعالى، فتعرَّف الصحابة على أسماء الله وصفاته، حتى تشبَّعت قلوبهم بمعاني التوحيد، و"تطهَّر الصحابة في الجملةِ مما يُضاد توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، فلم يحتكموا إلا إلى الله وحده ولم يطيعوا غير الله، ولم يتبِعوا أحدًا على غير مرضاة الله، ولم يُحبِّوا غير الله كحبِّ الله، ولم يخشوا إلا الله، ولم يتوكلَّوا إلا على الله، ولم يلتجِئوا إلا إلى الله، ولم يدعو دعاء المسألة والمغفرة إلا للهِ وحده، ولم يذبحوا إلا لله، ولم ينذروا إلا لله، ولم يستغيثوا إلا بالله ولم يستعينوا -فيما لا يَقدِر عليه إلا الله- إلا بالله وحده، ولم يركعوا أو يسجدوا أو يحجوا أو يطوفوا أو يتعبَّدوا إلا لله وحده، ولم يُشبِّهوا الله لا بالمخلوقات ولا بالمعدومات بل نزَّهوه غاية التنزيه" (أهمية الجهاد في نشر الدعوة؛ علي بن نفيع العلياني، ص: [54-55]).
وكانت محبة رسول الله تفوق كل محبة عندهم، فقد كان أحبّ إليهم من أنفسهم ومن أولادهم وآبائهم وأمهاتهم، والأمثلة من قِصص الصحابة على حُبهم لرسول الله كثيرة جدًا، ما يدل على عظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، فكانوا -من شِدَّةِ حُبهم له- يبتدِرون وُضوءه إذا توضأ أمامهم، فمن أصاب منه شيئًا تمسَّح به، ومن لم يُصِب منه شيئًا أخذ من بللِ يدِّ صاحبه[3]، وكانوا لا يتركون موضعًا سار فيه إلا ساروا فيه، ولا شيئًا أحبَّه إلا أحبُّوه، ولا شيئًا كرِهه إلا كرهوه، بل ربما هجر الابن أباه والأب ابنه إن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قولًا، أو فعلًا، أو تقريرًا، أو إنكار لأمر، أو ردًا لقول، وإن لم يكن متعمّدًا، محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونستطيع القول أن مجتمع الصحابة كان مجتمعًا سويُ الفطرة، رغم معاصرة بعضهم للجاهلية، ووقوعهم في بعض ما وقع فيه أهل الجاهلية، فقد كانت سنوات الإعداد النبوية في مكة، وما تلاها من سنوات كفيلة، بإرجاع هذه الفطر إلى أصالتها قبل تبدُّلها، فقد كان لفطرتهم السوية، أثرٌ كبيرٌ في إصلاح قلوبهم وتقبُّلِهم للوحي القرآني ولكلام النبي صلى الله عليه وسلم، دون تردُّدٍ، أو حرجٍ، أو إحجامٍ، أو شك، ولهذا اصطفاهم الله على خلقه، واختارهم أصحاب لخير أنبيائه صلى الله عليه وسلم.
وكانت قلوبهم أرقّ قلوبًا إن ذُكِّروا بالله خشعوا، وكانت عيونهم كثيرًا ما تفيض دمعًا خشية لله، فهذا عمر رضي الله عنه، البطل الصنديد، والفارس الهُمام الذي تخشاه فوارس العرب، كان في خدِّه خطان أسودان من شِدَّةِ البكاء خشية لله[4]، فقد كان الصحابة رغم ما هُم عليه من القوة والثبات، من أبكى الناس وأشهدهم خشية لله، وما هذا إلا لرقة قلوبهم، وصفاء فِطرهم، وما كانت تروق لهم معصية، فما أن يُذنِب منهم أحد، حتى يُسارِع بالتوبة، وكانوا يستعظمون الذنب أيَّما تعظيم، فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: "إنَّكم لتعملون أعمالًا هي أدقُّ في أعينكم من الشعر، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُوبِقَاتِ" (رواه البخاري: [6127]).
فحُبُّ الله وخشيتِه ومعرفتِه بأسمائه وصفاته، وحُبُّ النبي صلى الله عليه وسلم، وصلاحُ الفِطَر، هذه الأمور الثلاثة كانت معالِم رئيسية، من خلالها تكوَّنت شخصية الصحابي العقدية الإيمانية، تلك الشخصية "الخيرية"، التي صارت فيما بَعد، قدوةً ومثالًا لكلِّ مسلم أراد صلاح آخرته، بل ودنياه، حتى صارَ التشبُّه بالصحابة شرطًا من شروط الوصول إلى الله، وكيف لا وقد زكَّاهم الله في كتابه الكريم، قال الله تعال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]، كما شَهِدَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية، كما مرَّ بنا في ثنايا هذا المقال..
فنسأل الله تعالى أن يجزيَ سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وكل من ترسَّم خُطاهم وسَار على نهجِهم عَنَّا خيرًا..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آلهِ وصحبهِ خيرُ قومٌ.. والحمد لله الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم..
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
[1]- (أهمية الجهاد في نشر الدعوة؛ علي بن نفيع العلياني، ص: [46]).
[2]- (رواه ابن ماجة: [43]، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة).
[3]- (رواه البخاري: [5521]).
[4]- (الزهد لأحمد بن حنبل، ص: [121]).