وأنا الفقير إليك
فالافتقار من لوازِم الصلاح، بل الافتقار سِمةٌ أساسيّةُ من سِماتِ أهلِ الإيمان، فهو يعني أنكَ عرفتَ حقيقَتَكَ، وعرفتَ عبوديتكَ للهِ عزَ وجل
- التصنيفات: أعمال القلوب -
كلما مرت بي الأيام، ودارت ظروف الحياة وتقلباتها، كلما تعمق لدي معنى الفقر إلى الله سبحانه والحاجة إليه، وكلما مرت الخطوب من حولي، وتعقدت أطرافها، تبدى لي من معاني الفقر إليه سبحانه ما كنت بحاجة أن أتدبر فيه أكثر وأكثر. ولقد وجدت أن أفضل وأقوى ما يواجه به المرء الصعاب والمشاق والأزمات والآلام هو ذلك الشعور بالفقر إلى الله سبحانه، وتلك المسارعة إلى الافتقار إليه سبحانه، إذ إن حقيقتها تمام اللجوء إليه عز وجل وتمام الثقة فيه والاعتماد.
فحقيقة ما ينبغي لكل امرئ أن يتفكر فيه ليل نهار ويمعن فيه التفكير ويشغل عليه فكره ووجدانه هو سؤال كم هو فقير أمام قدرة الله سبحانه وكم هو معوز محتاج لربه عز وجل، وكم هو قليل الحول هش البنان ضعيف البنيان قريب الفكرة متواضع الذكاء، وهو سؤال محوري هام.
فالافتقار من لوازِم الصلاح، بل الافتقار سِمةٌ أساسيّةُ من سِماتِ أهلِ الإيمان، فهو يعني أنكَ عرفتَ حقيقَتَكَ، وعرفتَ عبوديتكَ للهِ عزَ وجل، والإنسان إمّا أن يتَكِلَ على الله، وإمّا أن يتكِلَ على نفسِه وغيره، فمن اتكّلَ على اللهِ كفاهُ اللهُ كُلَّ مُؤنة، ومن اتكلَّ على نفسِهِ أو غيرها أوكَلَهُ اللهُ إياها، فأحسنُ ما يتوسّلُ بهِ العبدُ إلى اللهِ عزّ وجل دوامُ الافتقارِ إليهِ على جميعِ الأحوال. والفقرُ الحقيقي أن يشهَدَ العبدُ في كُلِّ ذرّةٍ من ذرّاتِهِ الظاهِرةِ والباطِنة فاقةً تامّةً إلى اللهِ تعالى من كُلِّ وجه تحتاج إلى ربها سبحانه في حياتها وقيامها وأثرها
فالله سبحانه هو الحي القيوم، له الحياة الذاتية، الكاملة الدائمة التي ليس لها انقطاع ولا زوال، فالْحَيُّ الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحدّ، ولا آخر له بأمد، والقيوم القيّم لغيره، فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره، يقول تبارك وتعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25].
فيحتاج المؤمن أن يدرك حقيقته الذاتية، وحقيقة قدراته وإمكاناته، وأن يدرك ماهية آماله ومنتهاها، لئلا يتكبر أو يتجبر ولئلا ينسى حجمه فيخيل إليه أنه قادر على تغيير الأشياء أو التفرد الذاتي بالمستقبل أو حتى القدرة على تسيير شيء من الحياة. من أجل ذلك يحتاج أن يتذكر دومًا أنه فقير ضعيف فان، وأنه بحاجة إلى قوي عزيز قادر حي قيوم، يقوم بشأنه ويمده بالحياة ويعينه بالرزق والقوة. والمؤمن يشعر دومًا أنه بغير ربه عاجز كل العجز أمام حركة الحياة من حوله، وأن دوامتها قد تذيبه في مداراتها وتدعكه في مساراتها، ولذلك فيجب أن يتوكل على ربٍ عظيمٍ رحيمٍ، يوجهه إلى سواء الصراط ويهديه إلى محاسن المناهج والقناعات.
حتى في باب الحسنات والسيئات فبرغم كون المرء مختارًا، فإن الهداية إلى الحسنة توفيق من الله سبحانه ومنة، ولذلك أمرنا صلى الله عليه وسلم بقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فمن لوازم الفقر إلى الله عزّ وجل: أن يتخلّى العبدُ عن رؤيَتِهِ لأعمالهُ الصالحة وإعجابة بها إلا على سبيل السعادة بالعبادة، فمن لوازِم الافتقارِ إلى الله أن ترى أنّ عَمَلَكَ الصالح الذي أكرَمَكَ اللهُ بِهِ، إنما هوَ محضُ فضلٍ من اللهِ عزّ وجل. والفقر أن تعرِفَ أنكَ عبدٌ ضعيف في ذاتك، قويٌ بالله وضعيفٌ في نفسِك، غنيٌ بالله وفقير في نفسِك، بل إن المُفتقر إلى الله عزّ وجل لا يرى لهُ : لا عِلمًا، ولا عملاً، ولا شأنًا، بل يرى أنهُ أحدُ أفضالِ اللهِ عزّ وجل.
وهذا المعنى لا يتناقض مع كونك تشتغل في شأن حياتك وتهتم بمن تعول، فقد تكونُ في أعلى درجاتِ الغِنى وأنتَ في أعلى درجاتِ الفقرِ إلى اللهِ عزّ وجل، لكنك كُلما ازددتَ افتقارًا إلى الله عزّ وجل زادَكَ اللهُ غنى في قلبك، وكُلما ازددتَ تذللاً إلى اللهِ عزّ وجل زادكَ اللهُ عِزًّا، وكُلما ازددتَ خوفًا من الله عزّ وجل زادكَ اللهُ أمنًا، وكُلما ازددتَ حِرصًا على طاعة الله عزّ وجل زادَكَ اللهُ رِفعَةً، فكُلما خضعت ارتفعت. فأنت فقير في إيجادك، فلولاه سبحانه لم توجد ولم تخلق، وفقير في إعدادك، فلولا فضله سبحانه ما مددت بالجوارح والأعضاء، وفقير في إمدادك بالقوت والطعام والشراب والرزق والنعم، فلولاه سبحانه لما وجدت ذلك. وفقيرٌ في جلب النفعِ لنفسك، وفقيرٌ في دفعِ الشرِ عن نفسك، فلولاه سبحانه لما فرجت كرباتك، ولما زال همك ولما تيسر عسرك، ولما ذهبت شدائدك، ولما تغير حالك من الضراء للسراء. وفقير إليه سبحانه في أن تتعلم علما أو تتفهم فهمًا، فهو سبحانه الذي علمك ما لم تعلم وفهّمك ما لم تكن تفهم.
فالصالح هو الذي لا يزال يشعر بفقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع لله، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره.
قال ابن القيم: "وأركان الافتقار أربعة: عِلمُ يسوسهُ، وورعٌ يحجُزهُ، ويقينٌ يحمِله، وذِكرٌ يؤنِسهُ".
وسُئِلَ أحدُ العُلماء: متى يستريحُ الفقير؟ قالَ: "إذا لم ير لِنفسِهِ غيرَ الوقتِ الذي هو فيه"؛ يعني يستشعر بمسئولية ساعته التي تمر به ومرضات الله فيها وواجب وقته، فالمستقبل غيب، والماضي قد مر، فلا تملك إلا ما يمر بك من لحظات، لذلِك: هَلَكَ المسوِّفون فسارع إلى الإنابة.
أحدُ الخُلفاء كانَ يَحُجُ البيت، فالتقى بعالِمٍ جليل في الحرمِ المكيّ، قالَ لهُ: سلني حاجَتَك، قال لهُ: واللهِ إني لأستحي أن أسألَ غيرَ الله في بيتِ الله، فلمّا التقى بِهِ خارِجَ الحرَم، قالَ: سلني حاجَتَك، قالَ: واللهِ ما سألتها من يملِكُها، أفأسألُها من لا يملِكُها؟ فقالَ: سلني حاجَتَك، قالَ لهُ: أُريد أن أنجوَ من النار، فقالَ لهُ: هذهِ ليست بيدي، فقالَ لهُ: ليست لي حاجةٌ عِندَك. فمن علامةِ الفقرِ إلى الله: أن تستغني بالله، وأن تستغني عن غيرِ الله.
خالد رُوشه