تبصَّر قبل أن تضع قدمك!
أبو الهيثم محمد درويش
قِس مكانك من شرع الله تعرَّف أين أنت، وعلى قدر بُعدِك تأكد أن التِّيه بنفس قدر البُعد.. وإن عُدتَ ارتفع عنك الغم ورُفِعَت عن عينك الغشاوة.. تبصَّر...
- التصنيفات: الزهد والرقائق - الدار الآخرة - الدعوة إلى الله -
قِس مكانك من شرع الله تعرَّف أين أنت، وعلى قدر بُعدِك تأكد أن التِّيه بنفس قدر البُعد.. وإن عُدتَ ارتفع عنك الغم ورُفِعَت عن عينك الغشاوة.. تبصَّر.. تبصَّر.. تبصَّر!
عليك بالبينة قبل أن تكون البينة حجة عليك، قال تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال من الآية:42].
قال ابن كثير: "قال محمد بن إسحاق: أي ليكفر من كفر بعد الحجة، لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك".
وهذا تفسير جيد. وبسَّط ذلك أنه تعالى يقول: إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد، لينصركم عليهم، ويرفع كلمة الحق على الباطل، ليصير الأمر ظاهرًا، والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحدٍ حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك أي: يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل، لقيام الحجة عليه، {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ} أي: يؤمن من آمن {عَن بَيِّنَةٍ} أي: حجة وبصيرة. والإيمان هو حياة القلوب، قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام من الآية:122]، وقالت عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك: في هلك من هلك أي: "قال فيها ما قال من الكذب والبهتان والإفك".
وطالما الباب لا زال مفتوحًا فبادر بالولوج، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ . وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ . أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ . أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ . بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:53-59].
قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر. ولا يصح حمل هذه [الآية] على غير توبة؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه".
وقال البخاري: "حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف؛ أن ابن جريج أخبرهم: قال يعلى: إن سعيد بن جبير أخبره عن ابن عباس رضي الله عنهم؛ أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا. فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة. فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان من الآية:68]، ونزل [قوله]: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}".
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي، من حديث ابن جريج، عن يعلى بن مسلم المكي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به.
والمراد من الآية الأولى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70].
وقال الإمام أحمد: "حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو قبيل قال: سمعت أبا عبد الرحمن المري يقول: سمعت ثوبان -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}»، فقال رجل: يا رسول الله، فمن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: « » ثلاث مرَّات" (تفرَّد به الإمام أحمد).
وقال الإمام أحمد أيضًا: "حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا روح بن قيس، عن أشعث بن جابر الحداني، عن مكحول، عن عمرو بن عبسة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يدعم على عصا له، فقال: يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال: « ». قال: بلى، وأشهد أنك رسول الله. فقال: « »" (تفرَّد به أحمد).
أسأل الله أن يشرح صدورنا ويُفرِج كرب كل مكروب، ويعمّ السرور قلوب العباد والبلاد.. والله المستعان وعليه التكلان.