مصر.. واقعٌ أليمٌ ومستقبلٌ مجهول!
محمد سلامة الغنيمي
ينظر المسلمون في شتى بقاع الأرض إلى مصر على أنها وطن لهم وأمل لهم في نصرة الإسلام والمسلمين.. أحوال كل الدول تتأثر بحال مصر سلبًا وإيجابًا في جميع جوانب الحياة العلمية والدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية.. لذلك فإن حال مصر لا يشغل المصرين فحسب، بل يهتم به المسلمون جميعًا.
- التصنيفات: الواقع المعاصر - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
لا شك أن مصر هي نبض العرب وقلب الإسلام، لا سيما بعد انهيار العراق وتمزُّق سوريا، فلم يبقَ إلا مصر... هكذا قديمًا وحديثًا يعمد الأعداء إلى دول الإسلام فينال من جميعها إلا مصر، {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف من الآية:99]، هكذا كانت وتكون بفضل الله، مصر شريان العالم الإسلامي الذي يمده بالعلم والخير، جند مصر خير الأجناد، ثمار أرضها مصر أفضل الثمار، أشار إليها القرآن كبديل عن المنَّ والسلوى، أما شعبها أطيب شعب وخير شعب يُقاد لا يخذِلون أحدًا، ودورها أمان لكل خائف.
ينظر المسلمون في شتى بقاع الأرض إلى مصر على أنها وطن لهم وأمل لهم في نصرة الإسلام والمسلمين.. أحوال كل الدول تتأثر بحال مصر سلبًا وإيجابًا في جميع جوانب الحياة العلمية والدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية.. لذلك فإن حال مصر لا يشغل المصرين فحسب، بل يهتم به المسلمون جميعًا.
أما واقع مصر اليوم فهو مُرٌّ أليم يُحزِن القلب ويدمي العين.. تفرَّق المسلمون فيها شِيعًا، وانقسموا أحزابًا، لا يعتصمون جميعًا بحبل الله، ولا يتعاونون على البِرِّ والتقوى، بل تنازعوا فيما بينهم، وتعصَّبوا لانتمائاتهم الحزبية والفكرية، ففشل الجميع وانتكسوا بالدعوة عشرات السنين، وفقد الناس الثقة فيهم، ولم تعد لهم هيبة بين العامة.
تملك المصريين شعورًا بالحرية المطلقة (الفوضى)، فعمَّت الفوضى والارتجالية وانعدم النظام وانفلت اللصوص والمجرمون يعيثون في الأرض فسادًا، ورجال الأمن قصَّروا في تأدية واجبهم مع المجرمين فضلًا عن التعاون معهم في بعض الأحيان، فانساح في البلاد انفلاتًا أمنيًا لم يشهد له مثيل، أدَّى إلى كسادٍ تجاري، وركود اقتصادي، وارتفاع في الأسعار، واحتكار لبعض السلع، فضلًا عن الفساد الإداري الذي تجاوز الحدود.
أما بالنسبة لعقول الناس فقد سيطر عليها إعلام الفتنة يُنفِق عليه المفسدون أموالًا طائلة من قوت الكادحين ومقدرات الأمة، سلبوها ونهبوها إبَّان الحقبة المظلمة التي مرَّت بها مصر، وها هم ينفقونها ليصدوا المصلحين عن النهوض بالبلاد ولينشروا الفساد بين العباد، يتصدَّر هذا الإعلام رؤسًا جُهَّالًا كأنهم سحرة لا ضمير يؤنبهم ولا خُلقٌ يردعهم! ذِممهم تباع، يُضلِّلون الناس وينشرون الأكاذيب ويقلِبون الحقائق، يبثون في الناس الميوعة والإباحية، ويُروِّجون لفكر الغرب وثقافته في مناهضة الإسلام وتنفير الناس منه بالكذب والتضليل.
أما على الصعيد الخارجي، فإن مصر تواجه الكثير من التحديات التي تؤثر على السياسة الخارجية للبلاد وأيضًا على الشأن الداخلي، فإن اضطراب الأوضاع الداخلية يُثير لعاب أعداء الأمة في التحريض وإثارة القلاقل الداخلية والخارجية، فضلًا عن التدخل السافر في الشأن الداخلي لتعميق الفجوة واتساع الخلاف، وإن تظاهروا بخلاف ذلك!
ولا ينبغي تجاهل أعدى الأعداء أعوان إبليس من اليهود ومن سار على دربهم.. فهم يتحينون الفرصة للانقضاض على مصر ولا يكادون يملُّون من تدبير المكائد، وإحكام الدسائس وشِراء الذِمَم، بأيديهم وبأيدي حلفاؤهم، ودورهم الخبيث -في إحداث فوضى الربيع العربي الخلَّاقة- معلوم!
هذا ومن وراء ذلك تقف إيران بعداوتها لأهل السنة تعمل على نشر التشيُّع بين داخل المجتمع المصري السني مستغلة أزمة مصر وفقر المصريين، حيث تُخصِّص إيران لهذا المخطط الخبيث أموالًا وإمكانيات هائلة لتمكينهم من تنفيذ مخططهم الخبيث، وذلك على حساب المجتمع الإيراني الفقير، وقد تم مؤخرًا الكشف عن العديد من التنظيمات السرية التي تعبث في الظلام على تنفيذ هذا المخطط.
وكل هذه التحديات تعمل على عرقلة الاقتصاد المصري ووقف نموه، بما يؤثر على مكانة مصر الدولية وتماسكها الداخلي.
يروق لنا في السطور القادمة أن أُقدِّم أهم المعايير، التي ينبغي أن يختار المصريون رئيسهم على أساسها في يوم من الأيام، ولتكون هذه المعايير بمثابة النبراس الذي يُضيء للمصرين طريقهم ونورًا يهتدون به يبصرهم بالأجدر على قيادة سفينتهم وتولِّي أمرهم.
إن الله تعالى قد أشار في كتابه العزير إلى أهم التي لا بد أن تتوافر فيمن يلي أمر الناس كحدٍ أدنى، على لسان ابنة شعيب عليهما السلام وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص من الآية:26]، وفي صفات طالوت الذي اصطفاه الله ملكًا على بني إسرائيل ليبني دولتهم ويقهر عدوهم، وقد عزى أسباب اصطفائه لطالوت إلى هاتين الصفتين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة من الآية:247]، ومنه أيضًا الصفتين اللتين زكَّى بهما يوسف عليه السلام نفسه عند عزيز مصر.. ليجعل على خزائن البلاد، قال تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].
نستخلص مما سبق أن الأجدر بحكم مصر لا بد أن تتوافر فيه ثلاث صفات أساسية كلها أو جلها مرتبة من الأعلى إلى الأدنى:
1- القوة:
إن الأجدر بحكم مصر لا بد أن يحوز من القوة والمَنعَة ما يدين بها البلاد ويُخضِع بها العباد، ويُسيطر على مراكز القوى، وأن يقبض على زمام الأمور وألا ينازعه الرأي أحد إلا مشورةً، يقضي على الفتن ويُخمِد الانقلابات ويضبط الأمور فتدور عجلة الإنتاج وينمو الاقتصاد.
أن تكون له هيبة في نفوس شعبه لا يتجرء عليه الرويبضة ويهزء منه التافهين ويستهين به كل ناعق، حاكمًا لا يكون مضطرًا إلى موالاة اللكع حملة لواء العُري والإباحية الذين خدعوا الناس وأفسدوهم، وألا يكون مُجبرًا في اختيار بطانته ومستشاريه.
إن الأجدر بمصر حاكمًا تكون له رهبة في قلوب أعدائه، لا يتجرئون على حدوده ولا المساس بسياسته داخليًا وخارجيًا، يكشف مؤامراتهم ويدحض مكائدهم، ويمحو دسائسهم.
2- العلم والخبرة:
إن الجدير بحكم مصر لهو الخبير بفنون الإدارة، البصير بأحوال العبد، المُدرِك لِكَنه النفوس وطبائع الناس، إنه الشمولي الألمعي الذي لديه عِلمٌ ودراية في مختلف المسئوليات المنوط بها والمهمات التي أُلقِيَت على عاتقه، لا سيما في المجالين العسكري والاقتصادي.
ومن الضروري خاصةً في هذه المرحلة الحرجة أن يكون مُحايدًا، يقف على مسافة واحدة من الجميع، حتى يتسنى له جمع الناس بعد فرقة وتأليفهم بعد نفور، ويكون لديه موهبة في جذب الناس واستمالتهم، وأن يكون لخطاباته وقعًا في النفوس، ولنشاطه تأثيرًا في اتجاهات الناس، يصطفي لنفسه البطانة الصالحة، ويصرِف عنه أهل السوء والمنافقين، أن يكون مستشاروه من أمثال ابن حيوة وليسوا من أمثال ابن العلقمي!
3- الأمانة:
أن يكون لينًا في غير ضعف، شديدًا في غير عنف، القوي عنده ضعيف حتى يأخذ الحق منه، والضعيف عنده قوي حتى يأخذ الحق الذي له، أن يكون رفيقًا بالرعية رحيمًا بهم، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]، وأن يعمل بمقتضى قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ . إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:159-160].
أن يكون مُدرِكًا لحجم المسئوليات التي كُلِّف بها، وأن يعلم أن الحكم تكليف وليس تشريف، فهو ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم، فإن عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوِزر وعلى الرعية الصبر.
ومن المعلوم أن الجانب الأمني أهم بكثر من الجانب الاقتصادي، والأخير يقوم على الأول، وإذا اضطرب الأمن اضطربت الحياة بكل معانيها وصورها، فإنك إذا ما أحضرت غزالتين، قيَّدت حركت إحداهما ووضع أمامها سبعًا من السباع يزئر أمامها، مع وجود غذاء لها، والأخرى مُنِعَ عنها الغذاء مع الأمن، فأيهما تنفق قبل الأخرى، لا شك أن الخوف إذا سيطر على النفس صرفها عن كل مظاهر الحياة ونعيم الدنيا.
والله الموفق والمستعان!