مسائل في الدعاء القرآني - (5) الدعاء القرآني في الصلاة
لم يختلف العلماء في أن الصلاة محل دعاء، ولا في أن أكمل الأدعية أدعية القرآن، وإنما وقع الخلاف بينهم في مسألتين: الأولى: هل يجوز أن يدعو بغير الدعاء القرآني في الصلاة؟ الثانية: حكم الدعاء القرآني في السجود.
لم يختلف العلماء في أن الصلاة محل دعاء، ولا في أن أكمل الأدعية أدعية القرآن، وإنما وقع الخلاف بينهم في مسألتين:
الأولى: هل يجوز أن يدعو بغير الدعاء القرآني في الصلاة؟
الثانية: حكم الدعاء القرآني في السجود.
أما المسألة الأولى: فمنع الحنفية من الدعاء في الصلاة بغير أدعية القرآن أو ما يشبهها.
قال السرخسي رحمه الله تعالى: "وحاصل المذهب عندنا أنه إذا دعا في صلاته بما في القرآن أو بما يشبه ما في القرآن لم تفسد صلاته، وإن دعا بما يشبه كلام الناس نحو قولهم: اللهم ألبسني ثوبًا، اللهم زوجني فلانة تفسد صلاته" (المبسوط:1/198)، وحجتهم قول النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» (رواه مسلم:537).
وجمهور العلماء على جواز ذلك، والحجة معهم، لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: «فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ»، وفي رواية: «ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو» (رواه البخاري:835، ومسلم:402).
فهذا نص صحيح صريح في أن المصلي يتخير في صلاته من الدعاء ما شاء ما لم يكن فيه تعدٍ في الدعاء، فيُمنع منه لأجل التعدي لا لأجل كونه في الصلاة؛ إذ التعدي في الدعاء لا يجوز في الصلاة ولا خارجها.
قال الماوردي رحمه الله تعالى: "فإذا ثبت أن الدعاء مسنون، فكل دعاء جاز أن يدعو به في غير الصلاة جاز أن يدعو به في الصلاة، وأما قياسهم على كلام الآدميين فليس الدعاء من كلام الآدميين، وإنما هو ابتهال ورغبة فكان بالذكر أشبه" (الحاوي الكبير:2/139-140).
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "وحكى عنه ابن المنذر -أي عن أحمد-، أنه قال: لا بأس أن يدعو الرجل بجميع حوائجه؛ من حوائج دنياه وآخرته، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى لظواهر الأحاديث" (المغني:1/393).
المسألة الثانية: الدعاء القرآني في السجود:
الأصل أن قراءة القرآن في السجود منهي عنها في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: "..قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «..أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» (رواه مسلم:479).
والظاهر أن النهي هنا يقتضي التحريم لا مجرد الكراهة:
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد اتفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، وتنازعوا في بطلان الصلاة بذلك" (الفتاوى:23/58).
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: "وأكثر العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، ومنهم من حكاه إجماعاً، وهل الكراهة للتحريم أو للتنزيه؟ فيه اختلاف، وحكى ابن عبد البر الإجماع على أنه لا يجوز" (فتح الباري لابن رجب:7/188).
وقال الصنعاني رحمه الله تعالى: "الحديث دليل على تحريم قراءة القرآن حال الركوع والسجود؛ لأن الأصل في النهي التحريم"، وقال نحوه الشوكاني (السبل:1/266، والنيل:2/288)، وفي فتاوى اللجنة الدائمة: "لا تجوز قراءة القرآن في الركوع والسجود؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك" (7/182).
فالحديث قد دل على أن السجود موطن دعاء، والدعاء فيه مظنة استجابة، فلا إشكال في الدعاء فيه عمومًا، وإنما الإشكال إن دعا بشيء من أدعية القرآن في السجود، فمنع منه قوم، والصحيح جوازه؛ لأنه داع في تلك الحالة وليس قارئًا.
قال أبو عبد الله الزركشي الشافعي فيما نقله عنه زكريا الأنصاري رحمهما الله تعالى:
"ومحل كراهتها إذا قصد بها القراءة، فإن قصد بها الدعاء، والثناء فينبغي أن يكون كما لو قنت بآية من القرآن" (أسنى المطالب:1/157)، وقال أبو العباس الصاوي المالكي رحمه الله تعالى: "وكره القراءة بركوع أو سجود إلا أن يقصد في السجود بها الدعاء كأن يقول: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}.. إلخ [آل عمران من الآية:8]، فلا يكره" (بلغة السالك:1/339).
وفي حاشية قليوبي الشافعي رحمه الله تعالى: "تكره القراءة في غير القيام في الصلاة إن قصد القراءة ولو مع غيرها وإلا فلا؛ للصارف، كما في الجنابة" (حاشيتا قليوبي وعميرة:1/177)، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "النبي صلّى الله عليه وسلّم نُهِيَ أن يقرأ القرآن وهو راكع أو ساجد، اللهم إلا إذا دعا بجملة من القرآن مثل: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] فهذا لا يضرُّ؛ لأن المقصود به الدُّعاء" (الشرح الممتع:3/133)، وبهذا يتبين أنه لا حرج على المصلي أن يدعو بأدعية القرآن في السجود إذا قصد الدعاء ولم يقصد القراءة، ويكون حينئذ قد اختار أفضل الأدعية، في أفضل محل للدعاء وهو السجود، فقمن أن يستجاب له.
وإذا تقرر ذلك: فهل الركوع مثل السجود، بمعنى أنه يختار في ركوعه من دعاء الثناء والتعظيم القرآني فيقوله في الركوع، ولا سيما في الصلاة الطويلة كصلاة الليل والكسوف؛ فإن تنويع الثناء والتعظيم لله تعالى يطرد الملل، ويستجلب الخشوع؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
الأول: المنع منه؛ للنهي عن القراءة في الركوع، قال ابن رشد رحمه الله تعالى: "قد يوافق في دعائه ما في القرآن فيكون قد خالف ما نهى النبي عليه السلام من قراءة القرآن في الركوع، ولا اختلاف في أنه لا تجوز قراءة القرآن في الركوع" (البيان والتحصيل:18/63).
الثاني: مشروعية ذلك؛ لعموم الأحاديث المفيدة أن الركوع محل للتعظيم والثناء على الله تعالى، وإذا جاز ذلك بغير ما ورد في السنة من التعظيم والثناء، لم يكن ما ورد من أدعية التعظيم والثناء التي في القرآن خارجًا عن ذلك، وهي أولى من أدعية الثناء والتعظيم التي يخترعها المصلي، وقد نص على ذلك بعض فقهاء الشافعية؛ ففي حاشية الجمل على شرح المنهج، قوله: "وتكره القراءة في الركوع" أي: ما لم يقصد الذكر وإلا لم تكره، ثم نقل عن الزركشي قوله: "ومحل كراهتها إذا قصد بها القراءة، فإن قصد بها الدعاء والثناء فينبغي أن يكون كما لو قنت بآية من القرآن" أي: فلا يكون مكروهًا (1/365).
وفي حاشية البجيرمي على الخطيب: "وتكره القراءة في الركوع" أي: بقصدها؛ لأن الركوع محل الذكر فيكون صارفًا عن القرآنية بخلاف ما إذا قصد الدعاء أو أطلق (2/71)، بقي الرفع من الركوع، وهو موضع ثناء على الله تعالى، والجلسة بين السجدتين، وعقب التشهد، وهما موضع دعاء مسألة.
كل هذه المواضع الثلاثة لم يرد النهي عن قراءة القرآن فيها -فيما أعلم- ولكنها أيضًا ليست موضعًا لقراءة القرآن، والقراءة فيها خلاف السنة، ولو قيل بالمنع على أن الأصل في العبادة التوقيف فهو الأقرب للصواب.. قال النووي رحمه الله تعالى: "واتفقوا على كراهة قراءة القرآن في الركوع والسجود وغير حالة القيام للحديث" (المجموع:3/434).
لكن دعاء الثناء من القرآن في الرفع من الركوع إن قيل بمشروعية الزيادة على ما ورد في السنة جاز أن يكون من القرآن، وإن قيل لا يشرع الزيادة على الوارد لم يشرع أن يكون من القرآن ولا من غيره، ولم أقف على كلام للعلماء في ذلك، وهو محل بحث وتأمل.
وأما دعاء المسألة في الجلسة بين السجدتين وبعد التشهد إذا قصد به الدعاء لا القراءة فجائز؛ لأنهما موضع سؤال، وما دام أن الدعاء القرآني مشروع في الركوع والسجود وهما موضع نهي عن القراءة إن قصدها، فلأن يشرع في هذه المواضع الثلاثة من باب أولى.
- التصنيف:
- المصدر: