(3) دعاء المضطر
إبراهيم بن محمد الحقيل
إن حالة الاضطرار جالبة للإخلاص في الأغلب، قال القرطبي رحمه الله تعالى: "ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجئ ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر".
- التصنيفات: الذكر والدعاء -
أخبر الله تعالى في آيات كثيرة جدا أن الإنسان إذا أصابته حالة الاضطرار هرع إلى الله تعالى بالدعاء، وترك حالة الكفر أو الفجور التي كان عليها قبل ذلك، وأظهر حاجته لله تعالى، وأنزل فاقته به سبحانه، وأقر باضطراره إليه عز وجل، ثم قد يعود إلى كفره أو فجوره بعد نجاة الله تعالى له، ورفع حالة الاضطرار التي كان عليها؛ لأنه ينسى.
ومن تلكم الآيات:
قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40-41]، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12].
وقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ . ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل:53-54]، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67].
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33]، وقوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:49].
وقوله سبحانه في بعض الآيات: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم من الآية:33]، يدل على أن بعض الناس ينتفع من حالة الاضطرار التي أصابته فلا يعود بعد كشفها عنه إلى ما كان عليه قبل الاضطرار من الكفر أو المعصية؛ فيكون من نعم الله تعالى المتعددة عليه: أنه أصابه بالضراء، وألهمه الدعاء، واستجابه له، ورزقه الموعظة مما مرَّ به، فكان ما أصابه خيرًا.
وأفضال الله تعالى على عبادة كثيرة، وألطافه بهم عظيمة، فلا يجزع عبد أو طائفة أو أمة من الناس إن أصيبوا بضراء ألجأتهم إلى الاضطرار، فلعل رجوعهم إلى الله تعالى لا يكون إلا بذلك، أو لعل فاقتهم ودعاءهم لا يستخرج إلا بذلك.
ودعوة المضطر مجابة على كل حال، قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]، جاء ذلك في سياق البرهان على ربوبية الله تعالى وألوهيته، بأسلوب الاستفهام التقريري {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} المختوم بالاستفهام الإنكاري: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}، والآية هنا عامة في إجابة دعاء المضطر برا كان أم فاجرًا، مؤمنًا كان أم كافرًا، بل ولو كان ملحدًا لا يؤمن بالربوبية، ثم لجأ إلى الله تعالى حال اضطراره لأجابه الله تعالى؛ لأن الله تعالى علق إجابة الدعاء بالاضطرار فقط.
ويدل لذلك أن الله تعالى استجاب دعاء المشركين في البحر كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32].
وكثير من دعاء الأنبياء عليهم السلام هو دعاء مضطرين كقول إبراهيم ومحمد عليهما السلام: "حسبي الله"، قالها الخليل حين قذف في النار، وقالها محمد حين قيل له: إن الناس قد جمعوا لكم، ودعاء نوح: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر من الآية:10]، وقال يعقوب: {أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف من الآية:86]، وقال أيوب: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء من الآية:83]، وقال يونس: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
ودلت السنة على ما دل عليه القرآن من إجابة دعاء المضطر؛ كما جاء في حديث أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَلْهُجَيْمٍ، قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَامَ تَدْعُو؟ قَالَ: «أَدْعُو إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، الَّذِي إِنْ مَسَّكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَ عَنْكَ..»" (رواه أحمد:20636).
ومن وقع في الاضطرار فلا يسأل أحدًا أن يدعو له ويترك هو الدعاء؛ لأنه يكون بذلك قد ترك طريق مظنة الإجابة وسلك غيره؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَالِحٍ الْمَكِّيِّ، قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ طَاوُسٌ يَعُودُنِي، فَقُلْتُ: "يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ادْعُ اللهَ لِي. فَقَالَ: ادْعُ لِنَفْسِكَ؛ فَإِنَّهُ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ" (تفسير ابن أبي حاتم:9/2910). وقال الذهبي رحمه الله تعالى: "دعاء المضطر مجاب في أي مكان اتفق" (السير:9/344).
وأما ما جاء في القرآن نفيًا لإجابة دعاء الكافر -ولو كان مضطرًا- فهو على نوعين:
الأول: نفي إجابة دعاء الكافر إذا دعا معبوداته من دون الله تعالى؛ لأن هذه المعبودات لا تسمع دعاءه إن كانت جمادات أو أمواتًا، ولو سمعته فإنها لا تنفعه، ومن هذا النوع قول الله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد:14].
فالذي في ضلال ولا يستجاب دعاؤهم أصنامهم، وليس دعاءهم الله تعالى، وهذه الآية هي مثل قول الله تعال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 13، 14].
الثاني: نفي إجابة دعاء الكافر يوم القيامة؛ لأن العمل -ومنه الدعاء- قد انقطع، فلا ينفعهم دعاؤهم آنذاك، ومنه قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر:49-50]، واستدل ابن عاشور بهذه الآية على عدم إجابة دعاء الكافر مطلقًا، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ويأتي بحث ذلك في مقال قادم إن شاء الله تعالى.
والظاهر أن المشرك المضطر لو لم يخلص في دعائه لله تعالى، بأن دعاه ودعا معه معبوداته من دون الله تعالى أنه لا يجاب؛ لأن الله تعالى وصف المشركين حال دعائهم المجاب بالإخلاص {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس من الآية:22]، قال الطبري رحمه الله تعالى: "أخلصوا لله -عند الشدّة التي نزلت بهم- التوحيد، وأفردوا له الطاعة، وأذعنوا له بالعبودة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم، ولكن بالله الذي خلقهم" (جامع البيان:20/60).
على أن حالة الاضطرار جالبة للإخلاص في الأغلب، قال القرطبي رحمه الله تعالى: "ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجئ ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر" (تفسير القرطبي:13/223).