قل هو من عند أنفسكم
إن الآية نزلت تتحدث عن قصة أحد وما جرى فيها من هزيمة المسلمين، وأسباب ذلك ودواعيه.
جاء في سبب نزول قوله سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] الروايات التالية:
الرواية الأولى: روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل، عوضوا بما صنعوه يوم بدر من أخذهم الفداء، فقُتل منهم سبعون، وفرَّ القوم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكُسِرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران:165] بأخذكم الفداء. حديث إسناده حسن، ورجاله رجال الصحيح.
وقد ذكر ابن كثير هذه الرواية من غير تعقيب عليها، فقال: هكذا رواه الإمام أحمد بإسناده، ولكن بأطول منه. وقال ابن حجر: هذا لفظ ابن أبي شيبة، وسياق أحمد أتم، وأصل الحديث في (صحيح مسلم) من هذا الوجه، وأوله: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين! الحديث بطوله، وفيه: فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين. وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في الأسرى، وفيه: أبكي للذي عَرَضَ علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرِضَ علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة، وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ} [الأنفال:67]. وصنيع ابن حجر يفيد أن الحديث صحيح.
الرواية الثانية: روى الطبري بسنده عن علي رضي الله عنه، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسرى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا، فتُضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشائرنا وإخواننا! لا بل نأخذ فداءهم، فنتقوى به على عدونا، ويستشهد منا عدتهم، وليس في ذلك شيء نكره، فقُتل منهم يوم أحد سبعون رجلا، عدة أسارى أهل بدر.
وأصل راوية الطبري عند الترمذي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «
»، (قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب).
الرواية الثالثة: ما رواه ابن أبي حاتم مرسلًا عن عباد بن منصور، قال: سألت الحسن عن قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا} قال: لما رأوا من قُتل منهم يوم أحد، قالوا: من أين هذا؟ ما كان للكفار أن يقتلوا منا، فأخبرهم الله تعالى: أن ذلك بالأسرى الذين أخذوا منهم الفداء يوم بدر، فردهم الله بذلك، وعجل لهم عقوبة ذلك في الدنيا، ليسلموا منها في الآخرة.
وهذه الروايات تفيد أن الآية نازلة بسبب أسرى بدر، وأخذ الفداء منهم. غير أن القول بهذا يعكر عليه ما جاء في سورة الأنفال من أنه سبحانه قد غفر للصحابة عما كان منهم يوم بدر، والروايات هنا تفيد أنهم عوقبوا بما صنعوا يوم بدر، فهل يمكن أن يؤاخذ الله أحدًا بذنب قد عفا عنه وغفر لصاحبه؟
ففي سورة الأنفال نقرأ قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّـهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّـهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ الأنفال:67-69]، فانظر قوله سبحانه: {لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّـهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فـ (الكتاب) الذي سبق من الله منع من عذابهم وحال دونه. وانظر أيضًا إلى قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} فقد أحل ذلك لهم، وأذن لهم فيه، وختم ذلك بالمغفرة والرحمة. فهل يصح أن يقال بعد ذلك إن ما أصابهم يوم أحد عقوبة على أخذهم الفداء يوم بدر؟
كل هذا يدفع إلى القول: إن الروايات الواردة هنا لا يُسلَّم بأنها سبب لنزول قوله سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}، والأولى أن يقال: إن الآية نزلت تتحدث عن قصة أحد وما جرى فيها من هزيمة المسلمين، وأسباب ذلك ودواعيه.
- التصنيف:
- المصدر: