من المناهي اللفظية - (3)
في نسبة صفات الله وأفعاله للطبيعة، في جواز الدعاء ب"يادليل الحائرين"، في كراهة قول"دمتم".
من المناهي اللفظيّة نسبة صفات الله تعالى وأفعاله إلى الطبيعة:
ولابن القيم رحمه الله تعالى تحرير بالغ في هذا الإطلاق وحكمه، هذا نصه: (وكأني بك أيها المسكين تقول: هذا كله من فعل الطبيعة، وفي الطبيعة عجائب وأسرار، فلو أراد الله أن يهديك لسألت نفسك بنفسك، وقلت: أخبرني عن هذا الطبيعة: أهي ذات قيمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الأفعال العجيبة، أم ليست كذلك بل عَرَض وصفة قائمة بالمطبوعة تابعة له محمولة فيه؟
فإن قالت لك: بل هي ذات قائمة بنفسها لها العلم التام والقدرة والإرادة والحكمة؛ فقل لها –أي قل لنفسك-: هذا هو الخالق البارئ المصور فلم تسمينه طبيعة؟
ويا لله من ذكر الطبائع ومن يرغب فيها فهلا سميته بما سمى به نفسه على ألسن رسله ودخلت في جملة العقلاء والسعداء؟ فإن هذا الذي وصفت به الطبيعة صفته تعالى.
وإن قالت لك: بل الطبيعة عَرَض محمول مفتقر إلى حامل، وهذا كله
فعلها بغير علم منا، ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور أصلاً، وقد شوهد من آثارها ما شوهد، فقل لها: هذا ما لا يصدقه ذو عقل سليم، كيف تصدر هذه الأفعال العجيبة والحِكم الدقيقة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها وعن القدرة عليها ممن لا عقل له ولا قدرة ولا حكمة ولا شعور؟ وهل التصديق بمثل هذا إلا دخول في سلك المجانين والمبرسمين؟
ثم قل لها بعد: ولو ثبت لك ما ادعيت فمعلوم أن مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها، ولا مبدعة لذاتها، فمن ربها ومبدعها وخالقها؟ ومن طبعها وجعلها تفعل ذلك؟ فهي إذًا من أدل الدلائل على بارئها وفاطرها، وكمال قدرته وعلمه وحكمته، فلم يُجْدِ عليك تعطيلك رب العالم وجحدك لصفاته وأفعاله إلا مخالفتك العقل والفطرة، ولو حاكمناك إلى الطبيعة لرأيناك أنك خارج عن موجبها، فلا أنت مع موجب العقل ولا الفطرة ولا الطبيعة ولا الإنسانية أصلاً وكفى بذلك جهلًا وضلالًا.
ولو تأملت قولك: (طبيعة) ومعنى هذه اللفظة؛ لدلَّك على الخالق البارئ لفظها كما دل العقول عليه معناها؛ لأن طبيعة فعيلة بمعنى مفعولة، أي مطبوعة ولا يحتمل غير هذا البتة، لأنها على بناء الغرائز التي ركبت في الجسم ووضعت فيه كالسجية والغريزة والبحيرة والسليقة والطبيعة.
في جواز دعاء الله تعالى بـ "يا دليل الحائرين":
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لمَّا سُئِل عن الدعاء بذلك:
(وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه لرجل ودّعه: قل: يا دليل الحائرين دلني على طريق الصادقين، وجعلني من عبادك الصالحين.
وقد أنكر طائفة من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر، وأبي الوفاء ابن عقيل، أن يكون من أسمائه الدليل؛ لأنهم ظنوا أن الدليل هو الدلالة التي يستدل بها، والصواب ما عليه الجمهور؛ لأن الدليل في الأصل هو المعروف للمدلول، ولو كان الدليل ما يستدل به، فالعبد يستدل به أيضاً فهو دليل من الوجهين جميعاً) اهـ.
في كراهة قول "دمتم":
قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] .
فالدوام لا يكون إلا لله سبحانه:
ليس حي على المنون بباق *** غير ربي المُوحَّد الخلاق
وهذه اللفظة: "دمتم" الجارية في تذييل المكاتبات الودية، ينبغي التوقي من إطلاقها، وإن كان المراد بها الدوام النسبي للمخلوقين، والدوام المطلق لا يكون إلا لله سبحانه.
وهكذا يُقال في نحو: اللجنة الدائمة. و: الهيئة الدائمة. والله أعلم.
وقد أصدرت: ((اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)) الفتوى رقم/ 5609 بما نصه:
((يكره ذلك؛ لأن الدوام لله سبحانه والمخلوق لا يدوم)) انتهى. وفي الكراهة نظر. والله أعلم.
بكر بن عبد الله أبو زيد
عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية سابقاً ورئيس المجمع الفقهي الدولي ... رحمه الله رحمة واسعة وغفر له ولوالديه ولمشايخه ولتلامذته ولمحبيه.
- التصنيف:
- المصدر: