مجهولون في الأرض.. معروفون في السماء
إن تغير الأسماء والمسميات لهي من سمات آخر الزمان، حتى تبدلت المعاني، واصطبغت الأشياء بعكس ألوانها، فبدا الصالح منغلقا، والعابد منطويا، والمتفكر واهما، بل بدت الذنوب في ثياب التحضر والحرية، والمعاصي في ثياب المواعظ!فماذا ننتظر من أيام بدلت كل شيء، وزيف فيها كل حق، وحرّفت في قاموسها كل معان الحياة الربانية...
هم البعيدون عن الأضواء، المكتفون بأضواء قلوبهم، الواثقون من خطاهم كذاك الطائر في طريقه من أعالى الجبال ليصطاد سمكة تلامس سطح المحيط، لا يضيره اتجاه الرياح.
إنهم دائما يعيشون حولنا، وكأنهم في كوكب قد لا يرتئيه البعض كوكبا حسنا للعيش فيه، ربما لنقص مقومات الترف، أو قلة الراحة، أو قله المال بين ايديهم، إلا إنه بالرغم من ذلك فكوكبهم يحوي أسرارا لا يعلمها إلا قاطنوه، فالأحلام عليه بسيطة، والآمال صالحات، والأرض مساجد، والهوية طهارة ونقاء، أنهاره دموع من خشية الله، العمل فيه مهمة مقدسة، الاستغفار انشودته، والتسبيح تمتماته، والرضا اسمي معاني الفرحة على أرضه.
عادة فالشخص المجهول، قليل الأتباع، فقير المتاع، اسمه لا يثير المسامع إذ نُطق، ولا يُسمع إذا تكلم، تتكتل على ظهره هموم الوحدة، ومآسى التفرد، وصعوبة معاناة الحياة، يعاني الحزن المزمن، والقلق الدائم .. هكذا تفسيرنا بمنطقنا وواقع عالمنا.
إلا أن هناك من لا يرى بذلك المنظور الدنيوي، فهو مجهول، لكنه كعابر سبيل، لا يأبه إن كان معروفا أو مجهولا، مشهورا أو مغمورا، لا يكمن فرحه في ذكر اسمه بين أهل الأرض. بل غايته ورجاؤه أن يذكر في السماء. إنه ذاك التقي الذي يعيش في الدنيا بجسده، بينما روحه معلقه بالآخرة، يرى فيها حياته ومماته وخلوده، يري الحلم في اسمى معانيه حينما يكون بعيدًا عن أنظار الناس.
هو من غرس سكينه في قلب الرياء، ومزق رداء الكبر بيدين خشنتين من العمل، وسقى نبتة الإخلاص على عينه بدموع الخشية من الله، والرغبة في الجنة، والصمود في وجه رياح الفتن العواتي في زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر.
لو ماج الناس وغووا، ما أثر ذلك في عزيمته بشيء، ولو انغلقت أمام الناس الأبواب بنى بنفسه بيتا خاصا بأبواب عديدة، بل حتى لو انشغل الناس أجمعون، لم يشعر بالوحدة ولا تفرد الطريق، إذ كان مستأنسا بالله، ولو غربت كل الشموس لظل حيا في نورانية بصيرة بيضاء.
إن الغربة الصالحة في الدنيا لهي من سمات أصحاب القلوب الربانية، وهكذا هم الربانيون، قلة في مجتمع يموج بالفتن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « » (صحيح مسلم: [146]).
أتحدث هنا عن أناس غلبت قلوبهم شهوات أنفسهم، وتوطنت بداخلهم لذة العبودية، واستبدلت لذة المعصية، فكانوا جند الله في الأرض، مصلحين مستغفرين، ليس عليهم سيماء سوى أثر الباقيات الصالحات، مجهولون في الأرض لا يأبه لهم الناس، فلكأنهم في شفافيتهم ونقائهم سكان السماء، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
إن استصغار الدنيا في العيون وفي القلوب، وتقليل آثارها من الرغبة في مباهجها، لهو ذخر من النعم قد وهبها الله للقليلين المجهولين، نعمة قد لا يحسدهم عليها أحد بل يشفقون عليهم، بينما هم من يشفقون على الناس حيرتهم وجشعهم الذي يأكل نفوسهم كما يأكل السوس.
الحرية الحقة التي يملأ الشعور بها جنباتهم، لطالما رآها الناس سجنًا، بينما هي الحرية في اسمى معانيها، حرية العبودية للخالق عز وجل، لا قيود مزورة تأسره، ولا زخارف تقيده، ولا منالات تختطف أمله، فقط ما يرضي ربه سبحانه.
ولا غرو، فالإيمان الساكن في القلوب لا يفصله عنها تقلبات الحياة، وما يزيد من ارتباطه بالقلب هو ترك كل يُشغل عن الله، كذلك سمات القلوب الراقية المشرئبة إلى المنازل السامية والجنات العالية، من يتقنون فن إشباع القلب بالإيمان، ويبدعون في أعمالهم غيظا للشيطان، بينما هم سائرون خطوة بخطوة على سبيل قائدهم عليه الصلاة والسلام.
إن تغير الأسماء والمسميات لهي من سمات آخر الزمان، حتى تبدلت المعاني، واصطبغت الأشياء بعكس ألوانها، فبدا الصالح منغلقا، والعابد منطويا، والمتفكر واهما، بل بدت الذنوب في ثياب التحضر والحرية، والمعاصي في ثياب المواعظ!
فماذا ننتظر من أيام بدلت كل شيء، وزيف فيها كل حق، وحرّفت في قاموسها كل معان الحياة الربانية الخالصة، واستبدلت أحرفها بزخرف القول المختبئ وراءه حالك العتمة، والوجوه الزائفة؟!
الارتباط بالناس والانخراط في المجتمع وعرك الحياة، ومكابدة المشاق طبيعة الحياة، ولا حياة بغير اجتماع الناس والتآلف معهم ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، بل لا حياة للمصلحين إلا بين الناس، يصلحون أنفسهم ومجتمعاتهم وأوطانهم وأمتهم.
فحياة المؤمن فيها التفاعل والاجتماع والتعاون، لإقامة الخير، قال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة من الاية:2]، وقال: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة من الأية:119]، وقال صلى الله عليه وسلم: « » (رواه الترمذي، وصححه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح: [5016])، فالوضع الطبيعي أن يكون المسلم اجتماعياً مخالطاً لا منعزلاً.
ولكن هذا لا يعني أن يجعل كل وقته مع الناس، بل لا بد للمؤمن أن يجعل في كل يوم وقتاً يختلي فيه بربه، قال صلى الله عليه وسلم ذاكراً من السبعة الذين يظلهم الله في ظله: «
» (متفق عليه)، بل كان صلى الله عليه وسلم يحب التفرد في أحيان، ويعتزل مخالطتهم في أحيان أخرى، لا يحتاج من الدنيا إلا إلى سماء يناجي بها، وأرض يسجد عليها.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح البخاري: [7081]).
وجاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضى الله عنه أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صحيح البخاري: [7088]).
» (
يقول التابعي وهب بن منبه لمن سأله عن اعتزال الناس: "لا بد لك من الناس وللناس منك ؛ لك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعا أعمى بصيرا سكوتا نطوقا، إني وجدت في حكمة آل داوود: حق على العالم أن لا يشغل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يصدقونه عيوبه وينصحونه في نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذاتها مما يحل ويجمل. فإن هذه الساعة عون لهذه الساعات، واستجمام للقلوب، وفضل، وبلغة، وعلى العاقل أن يكون عارفا بزمانه، ممسكًا بلسانه، مقبلا على شأنه".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: « » (صحيح البخاري: [6416]).
غرباء إذن هم المجهولون فليست الدنيا هي موطنهم، ولا يأبهون إن كان لهم نصيب منها أم لم يكن، لا يطمعون في مال أو جاه، لا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، غناهم في قلوبهم، يكتفون بالرضا، والقليل من الزاد، إلا إن زادهم الحقيقي هو ذكر الله، وموطنهم الأصلي هو السماء!
هشام خالد
- التصنيف:
- المصدر: