الأحكام السلطانية للماوردي - (12) في نقصان حرية التصرف

منذ 2014-06-11

إِنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ خَارِجَةً عَنْ حُكْمِ الدِّينِ وَمُقْتَضَى الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا، وَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَنْصِرَ مَنْ يَقْبِضَ يَدَهُ وَيُزِيلَ تَغَلُّبَهُ.

فصل: "في نقصان حرية التصرف"

وَأَمَّا نَقْصُ التَّصَرُّفِ فَضَرْبَانِ: حَجْرٌ وَقَهْرٌ.

فَأَمَّا الْحَجْرُ: فَهُوَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْوَانِهِ مَنْ يَسْتَبِدُّ بِتَنْفِيذِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ تَظَاهُرٍ بِمَعْصِيَةٍ، وَلَا مُجَاهَرَةٍ بِمُشَاقَّةٍ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إمَامَتِهِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي أَفْعَالِ مَنِ اسْتَوْلَى عَلَى أُمُورِهِ، فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ وَمُقْتَضَى الْعَدْلِ جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا تَنْفِيذًا لَهَا وَإِمْضَاءً لِأَحْكَامِهَا؛ لِئَلَّا يَقِفَ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مَا يَعُودُ بِفَسَادٍ عَلَى الْأُمَّةِ.
وَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ خَارِجَةً عَنْ حُكْمِ الدِّينِ وَمُقْتَضَى الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا، وَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَنْصِرَ مَنْ يَقْبِضَ يَدَهُ وَيُزِيلَ تَغَلُّبَهُ.

وَأَمَّا الْقَهْر: ُ فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ مَأْسُورًا فِي يَدِ عَدُوٍّ قَاهِرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ، فَيَمْنَعُ ذَلِكَ عَنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ لَهُ؛ لِعَجْزِهِ عَنِ النَّظَرِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَدُوُّ مُشْرِكًا أَوْ مُسْلِمًا بَاغِيًا، وَلِلْأُمَّةِ اخْتِيَارُ مَنْ عَدَاهُ مِنْ ذَوِي الْقُدْرَةِ، وَإِنْ أُسِرَ بَعْدَ أَنْ عُقِدَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ، فَعَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ اسْتِنْقَاذُهُ لِمَا أَوْجَبَتْهُ الْإِمَامَةُ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَهُوَ عَلَى إمَامَتِهِ مَا كَانَ مَرْجُوَّ الْخَلَاصِ مَأْمُولَ الْفِكَاكِ، إمَّا بِقِتَالٍ أَوْ فِدَاءٍ، فَإِنْ وَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْهُ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ أَسَرَهُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ أَوْ بُغَاةَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ فِي أَسْرِ الْمُشْرِكِينَ خَرَجَ مِنَ الْإِمَامَةِ لِلْيَأْسِ مِنْ خَلَاصِهِ، وَاسْتَأْنَفَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ بَيْعَةَ غَيْرِهِ عَلَى الْإِمَامَةِ.

فَإِنْ عَهِدَ بِالْإِمَامَةِ فِي حَالِ أَسْرِهِ نُظِرَ فِي عَهْدِهِ؛ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْ خَلَاصِهِ كَانَ عَهْدُهُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ عَهِدَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عَهْدٌ، وَإِنْ عَهِدَ قَبْلَ الْإِيَاسِ مِنْ خَلَاصِهِ وَقْتَ هُوَ فِيهِ مَرْجُوَّ الْخَلَاصِ صَحَّ عَهْدُهُ لِبَقَاءِ إمَامَتِهِ، وَاسْتَقَرَّتْ إمَامَةُ وَلِيِّ عَهْدِهِ بِالْإِيَاسِ مِنْ خَلَاصِهِ لِزَوَالِ إمَامَتِهِ، فَلَوْ خَلَصَ مِنْ أَسْرِهِ بَعْدَ عَهْدِهِ نُظِرَ فِي خَلَاصِهِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ لَمْ يَعُدْ إلَى إمَامَتِهِ؛ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا بِالْإِيَاسِ، وَاسْتَقَرَّتْ فِي وَلِيِّ عَهْدِهِ، وَإِنْ خَلَصَ قَبْلَ الْإِيَاسِ فَهُوَ عَلَى إمَامَتِهِ، وَيَكُونُ الْعَهْدُ فِي وَلِيِّ الْعَهْدِ ثَابِتًا وَإِنْ لَمْ يَصِرْ إمَامًا.

وَإِنْ كَانَ مَأْسُورًا مَعَ بُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْخَلَاصِ فَهُوَ عَلَى إمَامَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ خَلَاصُهُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْبُغَاةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونُوا نَصَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا أَوْ لَمْ يُنَصِّبُوا، فَإِنْ كَانُوا فَوْضَى لَا إمَامَ لَهُمْ فَالْإِمَامُ الْمَأْسُورُ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى إمَامَتِهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَتَهُ لَهُمْ لَازِمَةٌ وَطَاعَتَهُ عَلَيْهِمْ وَاجِبَةٌ، فَصَارَ مَعَهُمْ كَمَصِيرِهِ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ إذَا صَارَتْ تَحْتَ الْحَجْرِ، وَعَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَسْتَنِيبُوا عَنْهُ نَاظِرًا يَخْلُفُهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا كَانَ أَحَقَّ بِاخْتِيَارِ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ مِنْهُمْ، فَإِنْ خَلَعَ الْمَأْسُورُ نَفْسَهُ أَوْ مَاتَ لَمْ يَصِرْ الْمُسْتَنَابُ إمَامًا؛ لِأَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنْ مَوْجُودٍ فَزَالَتْ بِفَقْدِهِ.

وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَدْ نَصَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا دَخَلُوا فِي بَيْعَتِهِ وَانْقَادُوا لِطَاعَتِهِ، فَالْإِمَامُ الْمَأْسُورُ فِي أَيْدِيهِمْ خَارِجٌ مِنَ الْإِمَامَةِ بِالْإِيَاسِ مِنْ خَلَاصِهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ انْحَازُوا بِدَارٍ تَفَرَّدَ حُكْمُهَا عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَخَرَجُوا بِهَا عَنِ الطَّاعَةِ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَهْلِ الْعَدْلِ بِهِمْ نُصْرَةٌ، وَلِلْمَأْسُورِ مَعَهُمْ قُدْرَةٌ، وَعَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ فِي دَارِ الْعَدْلِ أَنْ يَعْقِدُوا الْإِمَامَةَ لِمَنْ ارْتَضَوْا لَهَا، فَإِنْ خَلَصَ الْمَأْسُورُ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِمَامَةِ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا.

فَصْلٌ: "نواب الخليفة وولاته"

وَإِذَا تَمَهَّدَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ وَعُمُومِ نَظَرِهَا فِي مَصَالِحِ الْمِلَّةِ وَتَدْبِيرِ الْأُمَّةِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ عَقْدُهَا لِلْإِمَامِ انْقَسَمَ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ وِلَايَاتِ خُلَفَائِهِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:

َالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَامَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ وَهُمْ الْوُزَرَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ يُسْتَنَابُونَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَامَّةً فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ، وَهُمْ أُمَرَاءُ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيمَا خُصُّوا بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ.

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، وَهُمْ كَقَاضِي الْقُضَاةِ وَنَقِيبِ الْجُيُوشِ وَحَامِي الثُّغُورِ وَمُسْتَوْفِي الْخَرَاجِ وَجَابِي الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى نَظَرٍ خَاصٍّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ.

وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْخَاصَّةِ، وَهُمْ كَقَاضِي بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجِهِ أَوْ جَابِي صَدَقَاتِهِ أَوْ حَامِي ثَغْرِهِ أَوْ نَقِيبِ جُنْدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَاصُّ النَّظَرِ مَخْصُوصُ الْعَمَلِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْوُلَاةِ شُرُوطٌ تَنْعَقِدُ بِهَا وِلَايَتُهُ، وَيَصِحُّ مَعَهَا نَظَرُهُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا فِي أَبْوَابِهَا وَمَوَاضِعِهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ.


الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: الموسوعة الشاملة
  • 3
  • 0
  • 4,417
المقال السابق
(11) واجبات الأمة نحو الخليفة
المقال التالي
(13) في تقليد الوزارة 1

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً